في ضيافةِ نادي الشّعرِ باتّحادِ الكتّابِ التّونسيّينَ: الشّاعرُ التّونسيُّ السّاخرُ الهادي عبد الملك .. في مروحيّاتهِ الشّعريّة : قصائدُ خفيفةٌ..مرحةٌ ..ناقدةٌ.. لاذعةٌ …بطعمِ الشّجنِ و شؤونِ المجتمعِ التّونسيِّ..عرض : شمس الدّين العوني – تونس

الهادي عبد الملك

شمس الدّين العوني

كان لروّاد اتحاد الكتاب التونسيين و نادي الشعر تحديدا  ضمن  مناشطه المتنوعة ،المعنية بالأدب و النقد و المتابعة الإبداعية و في إطار الاحتفاء بالكتّاب التونسيين المتوّجين و المتألقين و غيرهم لقاء مفتوح حول تجربة الشاعر التونسي الهادي عبد الملك الذي فاز مؤخّرا بجائزة كتاما للشعر عن  ديوانه الموسوم بمروحيّات  .
هذا اللقاء أدارته الشاعرة زهور العربي و قدمَ فيه الضيفَ الشاعرُ سوف عبيد الذي أضاء جوانب من تجربة المحتفى به  .و بالمناسبة نفسها تحدث  الضيف عن جوانب أخرى من تجربته و قرأ نماذج من قصائده الدافئة في طقس تونس البارد هذه الأيام.
نعم..هكذا  كان اللقاء…و هكذا ….مضي الشاعر في دروب المعنى تحرسه نجمات اللغة التي تأتيه طوعا و كرها مثل فراشات من ذهب الأمكنة..ثمة إذن ما يشي بالفكرة و بالكلمات و هي تسري في الدواخل كنواح خافت..إنّه الشجن العظيم  الذي تكمن فيه فتنة الصور و السخرية و تحولات الأحوال و الأزمنة حيث لا أغنية باردة و لا فكرة عارمة …فقط غرابة الحال و مفارقاتها الملونة بالدهشة و السريالية..
“…قنديل بابك يا منارة لم يعد / يهدي الإضاءة لو حتى لأغرب/فعد مكانك يا قنديل عد أملا / في عودة النور لا في عودة الباب..”.
هكذا إذن ندخل عالما من عوالم الشعر مع الشاعر الهادي عبد الملك في ديوانه الأخير مروحيّات الذي نال به جائزة مؤسسة كتاما الشعرية منذ أيام وصدر عن دار سوار للنشر.

لقد بدا الهادي عبد الملك في مروحياته الشعرية هذه  ذاك الفتى الرقيق المأخوذ بشؤون أهله و بلدته و شعبه و بلاده لا يلوي على شيء سوى القول بالشعر مجالا شاسعا للعبارة الحارقة ، العميقة ، القوية التي ترتدي حلل السخرية و الطرافة بضرب من الإشارات و الإيماءات و الترميز و هو الشاعر الممتلئ بالتراث الشعري العربي البعيد و القريب.
مروحيات قصائد قصيرة بألوان الأزجال تلمس بشيء من النقد و في حيز من اليوميات و السلوكيات و العلاقات في  مختلف تفاصيل الناس و المجتمع و تعلج ظواه اجتماعية شنى  :
“جوار باب السوق / جثت على صندوق / بنية نحيفة / في عمر الشروق / أمامها سلتها / الكثيرة الشقوق / تبيع خبزا شاحبا / وشي بالحروق…”.
في هذه القصيدة يطرح الشاعر الهادي عبد الملك جانبا من قضايا الطفولة و الحرمان ليشير إلى الطفلة بائعة الخبز و ما يبدو عليها من احتياج حيث المعاناة و عدم اكتراث المجتمع بهذه الظواهر التي فيها حيف .و هو يقول في دواخله كان من المفروض استمتاع الطفلة بطفولتها و بما يتطلبه ذلك من حقوق و واجبات على المجموعة تجاه الأطفال.
و في مجال آخر تأخذنا مروحية من مروحيات  الهدي عبد الملك إلى سلوك اجتماعي سيء و هو الامتناع عن البيع وفيه يقول :
” قم حي جابر وفه الألقابا / ملك الفراخ أميرها أو قاب / فهو الخبير بسنها و شؤونها / ربى المئات و خرج الأسراب / و اذا أردت البيض فهو مصدر / في الحالتين و لم يكن نصابا / أما الديوك فلا يحبذ بيعها / عن مبدإ و يحدد الأسباب / منها الفحولة لا تباع و تشترى / مهما عرضت مقابلا جذابا”.
ثمة في المروحيات قصائد بتنويعات شتى، منها القصائد الطريفة المصوغة في قالب دعابة  أو مزحة و المستوحاة من  حياة الناس و ملامح وجوههم و هيئاتهم خصوصا في هذه الأحوال التي يعرف فيها الناس الكوابيس و انحسار البهجة و الانشراح بالنظر  إلى تسارع الأحداث المروّعة  و الضغط اليومي و الأخبار غير السارة في الفضاء العربي الإسلامي و باقي أنحاء العالم .
يقول صاحب المروحيات في قصيدة “الهندي” المعروف بسلطان الغلة :”..ملك الغلال بلا عرش و لا جند / سلاحه الشوك طبعا إنه الهندي / في جانبيه يكون الطعن ثم يلي / اذ يرتخي جانباه الطعن في القد / طبيعة الغدر في الإنسان مارسها / مذ عمر الأرض أي من أول العد / من أجل لذة حين و هي عابرة / يصير و الجن مثل الند للند “.
ومن جهة أخرى جاءت مروحيات الشاعر عبد الملك طافحة بالشارات اللاذعة  المؤلمة المصورة لمآسي الناس في شؤونهم اليومية والوطنية و العربية.من ذلك القصائد  التي كتبها عن الجزائر و فاجعة ساقية سيدي يوسف . و في هذه المجموعة أيضا جزء بعنوان “رمضانيات”  يزخر بالفكاهة و النقد .و منه هذه  الأبيات : ” يصوم الأغنياء لكي يحسوا / بجوع المعدمين كذا يشاع / طريف ما يردد يا صديقي / فبعض الأغنياء هم الجياع “..
تنضاف مروحيات  إلى رصيد الشاعر  الذي يضم العطر و الرصاص و الناي و النار و أول الكلام في الشعر و الأنشودة المنشودة (للأطفال) و قطرات 1 ( باللهجة التونسية).
ولقد قدم لهذه المجموعة الجديدة  الأستاذ الحبيب الدريدي  . ومما جاء في هذا التقديم  قوله ” …إننا إزاء مجموعة شعرية متفردة  زاخرة بالغمز و الإيماء و الإلماع تفضح و تستر في الآن نفسه و تقول و تصمت و تسكت في العبارة ذاتها و تكشف و تحجب في البيت الواحد و لكن القارئ النابه ينفذ دون عناء إلى المسكوت عنه و يخترق حجب المستور بكثير من اليسر و السهولة و يدرك المقاصد البعيدة و الأغراض المبطنة بلا كلفة لأن الشاعر جيد الإشارة لطيف اللمحة بارع الرمزة…”
هذه مجموعة الشاعر الهادي عبد الملك التي صدرت هذه الأيام في 70 صفحة من الحجم المتوسط عن دار سوار للنشر .و  صاحبها  من أبناء مدينة سليانة  التي تقع في الوسط التونسي . وهو شاعر من جيل السبعينات،تتميز قصائده بمناخاتها الوجدانية والوطنية والناقدة و الساخرة و الطريفة و المرحة.وهو من مثقفي البلاد ومن المسهمين لسنوات في الحراك الثقافي والشعري بها ،فضلا عن حضوره الإعلامي  منذ عدة سنوات بمقالات غزيرة  عن الأدب والشعر والحياة بشؤونها وشجونها .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*