إبداعيّة الاغتراب والألم في شعر سويلمي بوجمعة : محمّد صالح بن عمر

ذات يوم من سنة 2006 التمس منّي الشّاعر التّونسيّ سويلمي بوجمعة أن أكتب له كلمة صغيرة  أضمّنها رأيي في شعره . وكنت على عجل فارتجلت بعض الأسطر وسلمّته إيّاها دون أن أدري ما سيفعل بها . وبعد بضعة أشهر فَجَأني بأن نشر تلك الكلمة  كما هي بخطّي  في الصفحة الخلفيّة من مجموعة شعريّة جديدة له عنوانها أنا من تراب السّماء . وهي  الكلمة التّالية :

” سويلمي بوجمعة من أبرز الشّعراء الغنائيّين في تونس . يمتاز شعره بالنّزوع إلى العدول التامّ عن النّثرية دون الوقوع في الإغراب . ففي كلّ بيت و مقطع انزياح حيّ يفجأ القارئ ويدهشه . وهذا الأسلوب  قارّ لديه منذ بداياته في نهاية الستّينات . وهو ينمّ عن حساسيّة جماليّة مرهفة ورؤية فنّيّة  انتقائيّة تلتقط الموحي الرّائق وتنصرف عن العاديّ المبتذل . “

ولما تضمّنت هذه الكلمة الموجزة، كما نرى،أحكاما عامّة كان لا بدّ لي من تبريرها وتعليلها .فكانت هذه الدّراسة :

11064784_445772468934477_2719473764149381007_n

الشّاعر التّونسيّ سويلمي بوجمعة

 

 

يعدّ سويلمي بوجمعة  تاريخيا أوّل شاعر تونسيّ راهن في قصائده على إرباك المتلقّي بالصّورة المباغتة  المستحدَثة تماما  ، بدلا من الاكتفاء  بالسّعي إلى  نيل إعجابه وشدّ اهتمامه بأهمّية الموضوع المطروق أو بطابعه المثير أو بعمق  الأفكار  وصدق الأحاسيس  أو بمتانة العبارة وحذق ضوابط  الصّناعة إمّا العروضيّة وإمّا  الخاصّة بتقنيات قصيدة النّثر .

وممّا أذكره في هذا الصّدد أنّي في جلسة جمعتني به  سنة 1970 بمقهى ” الكون ” بالعاصمة رفقة أدباء شبّان آخرين  – وكنت  وقتذاك طرفا مباشرا في معركة قلميّة حامية الوطيس بين جماعة ” غير العموديّ والحرّ ” الذين وقفتُ في صفّهم وأنصار الشّعر الموزون عموديّه وحُرّه الذين كانوا  ينفون إمكان وجود الشّعر خارج أوزان الخليل – فجأتُه وبقيّةَ الحاضرين بأنِ استظهرتُ  من حفظي قصيدة كان قد نشرها منذ بضع سنوات بجريدة ” الصّباح ” قبل قدومه من الرديّف ( وهي مدينة منجميّة تقع في الجنوب الغربيّ التونسيّ )  إلى العاصمة  . ومردّ اندهاشه واندهاش الجماعة إلى أنّ شعره شعر موزون لا منثور . فكيف أحفظ له قصيدة كان قد نسِيَها هو نفسه وأنا مُصنّف في ذلك الوقت ضمن غلاة المنتصرين للمحاولات  الشّعريّة الشبابيّة المتمرّدة على بحور الفراهيدي وتفعيلاتها ؟

لم أسْعَ إلى تبرير موقفي وتعليله . وكنّا نستعدّ لحضور أمسية بإحدى داري  الثّقافة القريبتين .  فانفض مجلسنا بسرعة . و بقيت  تلك الحادثة محلّ تساؤل طيلة سنوات  . وها إنّ الفرصة تتاح لي الآن  بعد أكثر من أربعين عاما لأدليَ  بما يلزم من التّوضيح  في شأنها .

لم يكن   في  المسألة أيّ  سرّ . إنّما  لم أكن  – وأنا أخوض مع رفاقي في حركة الطّليعة  ذلك الصّراع العنيف  ضدّ المتمسّكين بالأوزان  الخليليّة  من أجل فرض مفهوم جديد للإيقاع – بغافل عن كون تلك المعركة لم تكن  إلاّ جزئيّة أو إن شئنا  تمهيديّة لمعارك قادمة ستكون  أشدّ ضراوة . و ذلك لاقتناعي  بأنّ الشعر ليس إيقاعا فحسب وإنّما  هو أيضا صورة .  لكنّ الصورة المربكة بجدتّها المطلقة التي  كنّا تلمحها  عند بودلير ورامبو وفرلان ومالارميه وبروتون وأراغون وألوار فنعجب بها شديد الإعجاب  لم تدخل  إذ ذاك بعدُ إلا على نحو محتشم الثّقافةَ الشّعريةَ العربيّةَ  لدى شعراء عُدّوا  خارجين عن الصفّ مثل أدونيس  وخليل حاوي ومحمد الماغوط  ولأنّ الوضع الأدبيّ في تونس  لم  يكن مهيّأ لخوض   معركة ثانية   ما دامت الأولى ما  تزال جارية على أشدّها ،  لما هو بديهيّ معلوم من  خطر المجازفة  بفتح  جبهات متعدّدة  في وقت واحد و لعدم وثوقي من قدرة  شعراء الطّليعة على كسب معركة من هذا القبيل   لأنّ المبدأ  الوحيد الذي  كان يوحّد بينهم إنّما هو ضرورة   إرساء مفهوم  جديد للإيقاع في الشّعر العربيّ  ليس  غير .

ومن ثمّة و إن لم أكن وقتذاك  قادرا على الكتابة عن شعر سويلمي بوجمعة  لما ينجرّ عن ذلك  آليّا من إهداء الخصوم  سلاحا يحاربونني به . وهو قولهم إنّ  هذا الشّاعر  لم يعقه الالتزام بضوابط  الوزن  عن الارتقاء بالصّورة إلى درجة عالية من الجودة الفنّيّة   فما كان ذلك يمنعني من الاستمتاع بقصائده  في خلواتي  فأقرؤها وأعيد قراءتها إلى أن يرسخ بعضها إن كلّيّا و إن جزئياّ  في ذاكرتي  .

وهكذا ففي خضمّ الجدل  الحادّ الواسع النّطاق الذي دار من  نهاية  الخمسينات إلى السّبعينات حول الإيقاع في القصيدة العربيّة  ظلّ سؤال الصّورة  شبه غائب أو على الأصحّ في حالة كمون  . وهو ما جعل محاولات سويلمي على طرافتها  لا تستوقف النقّاد على النّحو الذي تستحقّ و لا تكون منطلقا لفتح حوار  في شأن مسألة  بالغة  الأهمّية  .وهي الصّورة الشّعريّة . ولو فُتح ذلك النقاش  وقتذاك لانفتحت أمام الشّعراء التّونسيّين  مسالك جديدة  سيطول انتظار فتحها  حتّى أواسط التّسعينات .

وحتّى لا يكون كلامنا نظريّا مغرقا في التّجريد  لنتفحّص   في الجملة خمسة  نماذج من أمثلة الصّور الشّعرية التي  أنشأها الشّاعر في قصائد متفرّقة تنتمي إلى مراحل متباينة من مسيرته .

 

1- الأنموذج الأوّل :

  سيّدةُ الخصبِ”

حلّتْ بي

    سيّدةُ الخصبِ

فتحتْ عينيْها

   فاخضرَّ العشبُ

مَدّتْ …

    للرّوحِ  أصابعَها

 عصرتْ …

   ليمونةَ هذا القلبِ

وقادتْني …

    كالطّفلِ إليها

فانبجستْ …

    أنهارُ الحبِّ 

( أنا من تراب السّماء  ص 9 )

تدور هذه المقطوعة على محورين : فاعلة ( سيّدة الخصب ) ومفعولة ( الذّات الشّاعرة ). ولئن لم يفصح الشّاعر عن الحالة التي عليها الذّات المفعولة  فإنّ  القارئ يستخلصها من الذّّهاب إلى نقيض   الصّفة المزدوجة   للفاعلة أي السّيادة والإخصاب . وهي عندئذ الإذعان والجدب . أمّا  الإذعان فيتجسّد في ضرب من التقبّليّة المطلقة تشير إليها كثافة الأفعال المؤثّرة : حلّتْ – فتحتْ – مدّتْ – عصرتْ – قادتْ . لكنّها تقبّليّة إيجابيّة  لأنّ ما تلقّته من الفاعلة  تحوّلت بمقتضاه من حالة الجدب إلى حالة الخصب .

على أنّ الإشراق لا يكمن في تصوير  عمليّة اللّقاح هذه  –  فهو في متناول عدّة شعراء آخرين – وإنّما في  تفخيم قدرات السيّدة التي تنظر إلى العشب فيخضرّ و تمدّ  شفتيها  فتعصر ليمونة القلب ثمّ  في جعل هذا التّفخيم يدرك منتهاه في المقطع الأخير مع الكشف عن طبيعة الإخصاب . وهي زرع الحبّ في الذّات الشّاعرة :

وقادتْني …

    كالطّفلِ إليها

فانبجستْ …

    أنهارُ الحبِّ

(  سيّدة الخصب ص 10 )

ولم يكتف الشّاعر بتوخّي سبيل التّصوير المجازيّ لإدهاش القارئ . بل عزّزه  – وهذه خصيصة أخرى من خصائص الكتابة الشّعريّة عند سويلمي بوجمعة  –    بتكثبف الايقاع الداخليّ  . و ذلك بجعل المقطوعة تتألّف تركيبيّا من سبع جمل فعليّة صدّر كلّ جملة  منها بفعل ماض مسند إلى ضمير الغائب المفرد المؤنّث : حلّتْ – فتحتْ – مدّتْ – عصرتْ – قادتْ – انبجستْ واختيار الألفاظ الحاملة للرويّ من صنف صرفيّ واحد وهو صنف الأسماء الثلاثيّ المجرّدة :  خصب – عشب – قلب – حبّ .

 

2- الأنموذج الثّاني :

    “آخرُ الأسئلةِ”

 

 اللّيلةَ …                                                سأفتّشُ بين رسائلِكِ الأولى                                                                                  

حينَ أعودُ….                                           عن ……. آخرِ عهدي                                                                                                      

إلى بيتي                                                            بحياتي

لأواجهَ ذاتي                                                       وأعيدُ قراءةَ……..

في… غرفةِ موتي                                                خاتمةِ الوقتِ

سأقلّبُ أوراقي                                                   كيْ …أعرفَ….

 وسأبحثُ عنكِ…                                                أيّتها الأنثى …….

طويلاً                                                              من أنتِ      …                                                

خلفَ …غبارِ الصّمتِ                              ( نفسه ص ص 10 – 11 )

وتحتَ … رمادِ الكلماتِ

لقد اختار الشّاعر في هذه المقطوعة بناء آخر. وهو  الاستهلال  بإثبات لغز في العنوان   ( آخرُ الأسئلةِ )  ثمّ الإيهام بتأجيل الإفصاح عنه (سأقلّب أوراقي  – سأبحثُ عنكِ –  سأفتّشُ بينَ رسائلِكَ الأولى  )  لكن دون فكّه في النّهاية (كي …أعرف  … أيّتها الأنثى …  من أنتِ )  . وهي تقنية سرديّة تُستخدم في إحداث ضرب من  التّشويق يستمرّ بعد الفراغ من القراءة  .

ومثلما هو الشّأن في  المقطوعة السّابقة   يتعزّز الإرباك هنا بالإيقاع  الذي يولّده الشّاعر عمدا منذ البداية من آخر كلمة في النصّ  : ” أنتِ ”  . وهو دلاليّا المحور الذي عليه مداره  . وذلك باتّخاذ حرفه الختاميّ رويّا  ( بيتي – موتي –  الصّمتِ – حياتي – الوقتِ –  أنتِ ) . وفي هذا هندسة في منتهى الإتقان تشمل البنيتين الدّلاليّة والنغميّة معا.

 

3- الأنموذج الثّاّلث :

البكاءُ بدموعِ قابيلَ ” :

 

لو كان درى بي …حينَ أكونُ …

   بلا قلبٍ …وبلا أنثى …وبلا وطنٍ

أو حينَ أعودُ إلى موتي في اللّيلِ

                        بلا كفنٍ

 لو كان درى … بتشقّقُ روحي

                  في منفى جسدي

أو حينَ أراني  … مشنوقًا … بيدي

أتدلّى من سقفِ الزّمنِ

( البكاءُ بدموعِ قابيلَ ص 18 )

تتحقّق المباغتة  في هذين المقطعين  في ثلاثة مواضع  : أعود إلى موتي في اللّيل بلا كفنٍ /   تشقّق روحي في منفى جسدي  /  أراني  … مشنوقا بيدي  أتدلّى من سقفِ الزّمنِ . وهذه الصّور الاستعاريّة  الثلاث  تنبع من معنى واحد هو الغربة الوجوديّة لأنّ العودة إلى الموت بلا كفن هي الرّجوع إلى العزلة الخانقة داخل البيت .  و  شبيه بذلك الانتحار المعنويّ  بالتّدلّي في سقف الزّمن . والمعنى صريح في الصّورة الثاّلثة . وهي صورة الرّوح المنفيّة في الجسد.. لكن لئن اشتركت هذه الصّور الثّّلاث في الانطواء على طاقة إدهاش عارمة فإنّ الصّورة الثاّلثة في التّرتيب هي الأشدّ مباغتة لأنّها ثمرة ابتكار خالص . ولذلك أخّرها الشّاعر ليكون وقعها أشدّ . واختيار الألفاظ الحاملة للرويّ على وزن واحد ( وطنٍ – كفنٍ – الزّمنِ / جسدي – بيدي )   قد أسهم هنا أيضا في تقوية الإيقاع  تمشّيا و وقع الصّورة القويّ  .

 

الأنموذج الرابع :

أحوالُ الطّينِ ” :

 

ما أسوأَ هذا الطّينَ

مغشوشٌ … مغشوشٌ

منذ التّكوينِ

( أحوالُ الطّينِ ص 20)

لكن على حين  يذهب في ظنّ القارئ أنّ المقصود بالطّين ،   كما أشرنا  ، هو  الإنسان عامّة  يفاجأ في الأسطر الأخيرة بأنّ الشاعر إنّما يعني نفسه تخصيصا . وهو ما يجعل هذه المقطوعة تدخل في باب  هجاء الذاّت . وهذا أقوى أنواع الهجاء وأشدّها إيلاما .

يقول :

هذا الطّينُ الملعونُ أنا

هذا الطّينُ

 مسكونٌ بي ، مسكونٌ بي

 هذا المسكينُ

( نفسه ص 20 )

 

الأنموذج الخامس:

امرأةُ البحرِ ” :

 

أسمعُ وقعَ خطاها

تحتَ الماءِ

 والموجُ القادمُ نحوي

من عينيْها

يتلاطمُ في وجداني

فأهبُّ كعاصفةٍ رمليّةٍ

لأشقَّ البحرَ إليها

( امرأة البحر ص ص 26 – 27 )

يتحقّق الإدهاش في هذا المقطع بتفخيم عمليّتي الاجتذاب والانجذاب الى حدّ عجائبيّ  . فزرقة عيني المرأة الموصوفة لا تشبه لون البحر  . فهذا عدول ميّت . بل هي موج يخرج من عينيها ليتلاطم في ذات الشّاعر . ونظراتُها ليست مجرّد سهام لحظ كما قال الشّاعر العربيّ القديم  . إنّما  لها مفعول سحريّ خارق يمكّنها من إثارة العواصف . ومنها عاصفة انجذاب الشّاعر نحوها  .

إنّ هذا البحث الدّؤوب من لدن الشّاعر عن الصّورة المبتكرة تماما المحقِّقة للإيماض والإشراق  لا يكمن وراءه في تقديرنا هاجس تقنيّ . ولو كان الأمر كذلك لوُجدت النّزعة ذاتها عند السّابقين له و مجايليه من الشّعراء ولما تميّز هو عنهم بها . إنّما هو نابع من حالة ذهنيّة ونفسيّة متأصّلة تردّدَ الإفصاحُ عنها في معظم قصائده . ولهذه الحالة جميع مظاهر الغربة الروحيّة العميقة . وأولى تلك المواصفات الإحساس الشّديد بالعزلة . وليس ثمّة شكّ في أنّ أبعد مدى لهذا الإحساس هو أن تعيش الذّات العزلة على أنّها موت .

يقول الشّاعر في هذا المعنى :

اللّيلةَ

حين أعودُ …

 إلى بيتي

لأواجهَ ذاتي

في غربةِ موتي

( آخر الأسئلة ص 10 ) .

ويكرّر المعنى ذاته في موضع آخر :

لو كانَ درى بي …حين أكونُ …

بلا قلبٍ …وبلا أنثى …وبلا وطنٍ

أو حينَ أعودُ إلى موتي في اللّيلِ

بلا كفنٍ

( البكاءُ بدموعِ قابيلَ ص 18 )

وفي موضع ثالث :

أو حينَ أراني  … مشنوقًا … بيدي

أتدلّى من سقفِ الزّمنِ

(نفسه ص 18 )

وهكذا فحين نمسك  بهذه النّواة الدلاليّة التأسيسيّة النّشيطة  التي هي بمنزلة لبّ البنية العميقة لعالمه الشّعريّ تنكشف لنا كلّ الآثار المتولّدة عنها  من ألم  وحزن وشعور بالضّياع والإهمال . وقد احتلّ التّعبير عنها حيّزات واسعة كثيرة في نصوصه نكتفي منها بهذه الأبيات التي تلخّصها  جميعا :

إنّي رجلٌ

مقصومُ الظّهرِ

فاتتني الدّهشةُ

خانتْني

أحلامُ العصرِ وموانئُ عشقي …

غاضتْ وابتعدتْ

في ذاكرةِ البحرِ

لم يبقَ لوجهي …

تاريخٌ يُقرأُ

فحياتي قنديلٌ … مطفأٌ

وسمائي …

منديلُ امرأةٍ … ماتتْ

في قصّةِ حبٍّ لم تبدأْ

( اعترافات ص 49 )

إن المنتظر بديهيّا من مثل هذه الحالة الذهنيّة النفسيّة  البالغة ذروة التأزم هو أن تكون كما قال الشّاعر قاصمة للظّهر . لكن من حسن حظّ الذّات الشّاعرة  أنّها  تتوفّر في الآن نفسه على قدر عال من القوّة والتّماسك  يسمح لها بالثّبات والمقاومة .

وهذا المعنى شديد التّواتر أيضا في قصائد الشّاعر . وبتلك القوّة  ونقيضتها  الغربة الروحيّة يتحقّق للذّات ضرب من التّوازن . فكلّما طرأت إحداهما   نهضت الأخرى لها متصدّية . على أنّ الغالب هو أنّ السّبق إلى الظّهور غالبا ما يكون  للإحساس بالغربة وتداعياته  فتتصدّى له القوّة المضادّة  ولا تنفكّ عن  مصارعته إلى أن يفتر نماما  فتنفتح عند ذاك  أمام الذاّت الشّاعرة كوى نور ساطع ونوافذ مطلّة على آفاق صافية باسمة .

و إليك هذه الأمثلة :

قصيدة ” بعدَ عشرينَ سنةً ” تبدأ بصورة قاتمة :

موحشٌ

ضوءُ المصابيحِ البعيدةِ

موحشٌ ظلُّ الصّنوبرِ حولَ منزلِها

(بعدَ عشرينَ سنةً ص 24 )

وتنتهي بصورة مشرقة :

بعد عشرينَ سنةً

صارتِ الأشجارُ من حولي

شفاهَا وقُبَلْ

(  بعد عشرين سنة ص 25 )

وقصيدة ” بياضُ اليقينِ ”  تنطلق  بهذا الوضع المأزوم :

نهايةُ عامٍ …وبعدُ

ستبقى على حالٍها الأسئلةْ …

معطّلةً … مقفلةْ

(بياضُ اليقينِ ص 54 )

لكنّها تختم بصورة ملؤها الانشراح و التّفاؤل :

فارتدَّ للحلمِ طفلاً

تأجّجَ في ناظريْهِ  …

بياضُ اليقينِ

لكنّ هذه الظاهرة  لا تنحصر في  الصّياغة الشكليّة لعدد من القصائد . إنّما  تشمل  المحتوى الدّلاليّ للكثير منها .  فسويلمي بوجمعة يستهلّ قصيدته في الأغلب الأعمّ بصورة قاتمة . وقد تكون لهذه النّزعة أسباب قديمة ترجع إلى فترة الطفولة الأولى  لأنّ الشاعر يشير في قصيدته ”  خيمة الاشتهاء ” إلى  حرمانه من حنان الأمّ  إذ يقول :

أشتهي …

خبزًا …وزيتونًا..وماءً

وقليلاً …

من حنانِ الأمّهاتِ

( خيمة الاشتهاء ص 30 )

وفي القصيدة نفسها يحنّ الى حضن الأب :

أشتهي …أن أهربَ اللّيلةَ

من اسمي

ومن غرفةِ نومي

أن تعودَ بي الذّكرى …

إلى  حضنِ أبي

( نفسه ص 31 )

فما هذا الحرمان من حنان الأبوين ؟ وهل له علاقة بغربة الشّاعر الرّوحيّة ؟ ومهما يكن من أمر فإنّ في الحنين الى  أحضان الأمّ والأب عودة لاواعية إلى الجنّة الضّائعة ، بحثا عن الاحتماء من وخز أشواك الحياة .ومثل هذا الحنين يتردّد أيضا في قصائد الشّاعر كما في  قصيدته ” مشاهدُ” التي يقول فيها:

تقادمَ عهدي

ومازلتُ وحدي

أخاتلُ حلمَ الطّفولةِ وأرسمُ أوديةً

ورعاةَ

وخيمةً

( مشاهد ص  41 )

المهمّ هنا هو أنّ أزمة الشّاعر حقيقيّة وعميقة . وقد كان من نتائجها حالة اتشطار مكينة  خصّص لتصويرها قصيدة بأكملها . وهي قصيدة ”  أنا الذي كنتُ ” التي  يدعو فيها طّفلا كانه  إلى أن يلتحم به . ومماّ جاء فيها قوله :

 أنت الذّي كنتَ

قبل انزياحِكَ عنّي

وقبلَ هروبِكَ منّي

فعُدْ للمرايا القديمةِ إنّي

سأشرقُ فيها ليومضَ برقُ التجلّي

( أنا الذي كنتَ ص34 )

إنّ  اجتماع  مثل هذا التأزّم النّفسيّ الشّديد الداّئم مع قدرات تخيّلية عالية  من شأنه أن يدفع بالمخيّلة إلى البحث عن متنفّس ما . فكان هذا المتنفّس مطابقا لبنية الشّاعر الذّهنيّة النّفسيّة وهو الإيغال في العدول بالصّورة ، كما رأينا  ، إلى منتهى الإشراق والايماض للتلهّي باللذّة المتأتّية من جمالها المدهش عن ألم الغربة الممضّ الذي ينهش الذّات من الدّاخل  .وهو ما يؤكّد ما افترضناه من أنّ تجربة سويلمي بوجمعة مع الصّورة الشّعريّة ليست تجربة تقنيّة إنشائيّة . وإنّما هي نابعة من تجربة وجوديّة ذهنيّة ، نفسيّة  ، عميقة ، بعيدة المدى . وهنا يكمن الفرق بين الشّاعر المبدع والشّاعر الصّانع .

هذا الاستنتاج الخطير تدعمه حجّة أخرى.  وهي شهادة الشّاعر على الظّروف التي تحلّ به فيها القصيدة .وهي نفسها التي وصفها الشّابي .ومُحصّلها أنّ الشّاعر ليس هو الذي يذهب إلى  القصيدة . وإنّما هي التي  تطرق باب ذهنه . وهي الحالة التي تسّمى انخطافا . فقد مرّ بنا قوله :

حلّتْ بي

 سيّدةُ الخصبِ

 فتحتْ عينيْها

 مدّتْ

للرّوحِ أصابعَها

 عصرتْ ليمونةَ هذا القلبِ

 واقتادتني

كالطّفلِ إليها

( سيّدةُ الخصبِ ص 9 )

لكن أيّا كانت المفاهيم النفسيّة والعرفانيّة التي نستنجد بها لمحاولة الإحاطة بطبيعة الذّات الشّاعرة كما تلوح هي في شعر سويلمي بوجمعة فلن نقدر على رسم ملامحها بالدقّة والإتقان اللّذين  رسمها هو بهما  في رائعته ” أبوجُمُعةَ ” . وهي عند العارفين بالشّعر التّونسيّ من قصائده المعالم . وفيها يقول مخاطبا نفسه :

وها أنتَ وحدكَ في غربةِ اللّغةِ المُدقِعهْ

فهلاّ أضأتَ السّؤالَ فتيلًا

لتبصرَ ظلَّكَ…

وتمضي كطفلٍ معهْ

أبا جُمُعَهْ …

حرستَ الطّواحينُ …قاتلتَ أشباحَهم

في خواءِ المدينهْ …

وأسرجتَ خوفَكَ مُهرا يشقُّ غبارَ السّكينهْ

تشظّتْ رؤاكَ …

تقاسمَكَ الوهمُ بين الهنا …والهناكَ

وما زلتْ خارجَ عصرِكَ تسألُ عن سرِّكَ

لتلقاكَ …تلقاكَ فوق الضّفافِ …

حُطامَ سفينةٍ …

بلا أشرعهُ

( أبا جُمُعه ص 206 )

 

    خاتمة

لقد حاولنا في هذه الإطلالة السّريعة على عالم سويلمي بوجمعة الشّعريّ الوقوف على القسمات البارزة لتجربته الشّعريّة دون ادّعاء  الغوص أو التّبحر فيها .  ولو فعلنا لاحتجنا إلى سلسلة من  الدّراسات على الرّغم من صغر حجم مدوّنته . و ما هي بصغيرة في الحقيقة ، لأنّ هذا الشّاعر ميّال منذ بداياته إلى انتخاب الأفضل ممّا  ما يكتب . فما أذكره في هذا الشّأن  أنّه كان يقرأ علينا القصيدة سواء في المقهى و في أحد النّوادي فنعجب بها ونطلب منه نشرها فيعدُ دون أن يفي بوعده  إلى أن تنسينا إياّها قصائده اللاّحقة . ومن ثمّة فالمجموعتان الوحيدتان اللّتان صدرتا له  – وبينهما قرابة الثّّلاثين عاما لم تضمّا إلاّ ما أقنعه هو لا ما أقنع المعجبين بشعره. لكنّ  ما نخشاه هو أن تضيع نصوصه التي آثر أن تبقى شفويّة لأنّ رأي الشّاعر في شعره لا يطابق بالضّرورة آراء القرّاء والنقّاد فيه.

 

الهوامش:

بوجمعة ( السويلمي)، أنا من ترابِ السّماءِ،على النّفقة الخاصّة، تونس 2006

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*