مقال كتبته في شبابي عن المجموعة الشّعرية الأولى لفضيلة الشّابّي : محمّد صالح بن عمر

1480741_10201331974244592_2061867629_n

محمّد صالح بن عمر

Fadhila Chebbi

فضيلة الشّابّي

0c4c99a9-f55f-4d7f-87ea-e65e2fc728ce-192X290

 

مقال كتبته في شبابي عن المجموعة الشّعرية الأولى لفضيلة الشّابّي :

 

في سنة 1973 صدرت المجموعة الأولى للشّاعرة التّونسيّة فضيلة الشّابّي ببيروت . وهي تغطّي مرحلتها الإيديولوجيّة ( 1968 – 1972 ) التي عقبتها فترة طويلة من الصّمت (1973 – 1988 ) انتقلت على إثرها إلى الشّعر الوجودي فألفت فيه  حتّى اليوم قرابة العشرين مجموعة . ولم تصل من مجموعتها الأولى  إلى تونس إثر صدورها  سوى بعض النّسخ التي كانت تتنقّل بين الأيدي سرّا  .فلم  أطّلع عليها إلاّ سنة 1977 . فكتبت عنها هذا المقال الذي لم يعد له  اليوم سوى قيمة تاريخيّة لضعف خلفيّته المعرفيّة وللهجة التسلّط الإيديولوجي التي وسمته . ووجه الطّرافة فيه أنّ ناقدا  شابّا إيديولوجيّا يحاكم شاعرة شابّة إيديولوجية تنتمي إلى مذهبه  دون الالتفات إلى الجانب الفنّيّ في نصوصها . وذلك  قبل أن ينتقل هو نهائيّا إلى النّقد العلميّ المعرفيّ وهي إلى الشّعر الوجوديّ .

 

الأنوثة الثّائرة في مجموعة

“روائح الارض والغضب”  ( 1) لفضيلة الشّابّي

أن ينحصر الشّعر فـي التّعبير عن هموم الذّات وتصوير ما يطرأ عليها من أحوال متقلّبة، بحجّة أنّه مشتّق  من  الشّعور، مقولة باتت اليوم  فاقدة للإقناع .وذلك لأنّ العاطفة و إن كان لها حضور مهمّ في حياة الفرد فإنّها لا تعادل من حيث  الأهمّية   ملكة أخرى في شخصيّته  هي الوعي الذي بفضله يدرك وجوده ومنزلته  في هذا الكون  .ولقد غدا معلوما متداولا اليوم أنّ الإنسان لا يستمدّ معنى وجوده إلاّ من كفاحه المتواصل ضدّ ما تقيمه في وجهه الطّبيعة أو “أخوه الإنسان ” من عراقيل  . ومن  ثمّة فمن  الإجحاف القول إنّ الأدب والفنّ ليس من مشمولاتهما تصوير هذه الملحمة النّضالية التي يخوضها الكائن  البشريّ في كلّ عصر ومصر من أجل إثبات وجوده .

وتُعدّ فضيلة الشّابّي من الشّاعرات والشّعراء التّونسيّين القلائل الذين عاشوا هذه التجربة واكتووا بلظى المعاناة فيها فلم يتردّدوا في هدم الحواجز الذّاتية الشّاهقة التي تقوم بينهم وبين قضايا الآخرين لاسيّما أولئك الذين ضرّسهم الدّهر بأنيابه  وحكم عليهم بالقبوع  في الهامش أو في أسفل الهرم الاجتماعيّ .

هذه الشواغل الفكريّة تؤلّف محورا رئيسا  في مجموعة فضيلة الشّابي  الشّعرية الأولى التي وسمتها  بروائح الأرض والغضب   وصدرت لها منذ أربع سنوات  ببيروت .

إنّ أوّل ما يلفت الانتباه في قصائد هذه المجموعة هو أنّ الذاّت الشّاعرة تخوض معركة لا هوادة فيها ضدّ المحيط الخارجيّ الذي يسلطّ عليها ضغوطا قويّة ليفرض سيطرته عليها ويشلّ  إرادتها ،   بحكم ما  تقتضيه طبيعته ذات البعد  الواحد * من هيمنة مطلقة على كلّ شيء يوجد في فضائه .لكنّ عدم سماح هدا المحيط بوجود أيّ  صورة من صور التّصدي والمعارضة لا يقلّ عنه تصلّبا وحِدّة،  في الجهة المقابلة، رفض الشّاعرة الحاسم لأيّ صورة من صور الخضوع والإذعان . ولذلك فمهما اتصف هذا المحيط بصفات سلبيّة كالجفاف والظّلمة والثقل وغياب الأنس ، كما يظهر في قولها :

 

عوالمُ الغُربةٍ

حيثُ نَفْيُ الإنسانِ

حيثُ لا أنهارَ

لا أنوا رَ

(محمّدٌ رائدُ الثّورةِ الكبرى ص 44)

 

وقولها :

 

العالَمُ تكوّرَ فينا

حقولُنا جفّتْ

(فلسطين ص 15)

 

فإنّ الشّاعرة تجد  في أمانيها الثّائرة درعا يقيها طعناته ويردّ عنها هجماته  . بل إنّ هذه الأماني  لو تحقّقت لزعزعت أركانه ولقوضّت بنيانه ولحولّت أعاليه أسافل  وربوعه العامرة خرائب :

 

أردتَ أن تمنحَني انفجارّ العالَمِ

هذه الزّهرة

(أتذكّر ص 8)

 

نتسلّقُ أسوارَ عالَمِ الكبارِ

هناكَ نزرعُ اللّعنةَ

رايةًّ للدّمارِ

(أيّها الصّغارُ ص 22)

 

ولئن  كان  هذا التّغيير المأمول لا يتعدّى حدود الأمنية والتّسويف والدّعوة ذات اللّهجة الخطابيّة الحماسيّة  فإنّه لا يخلو من الدّلالة على مدى وعي الشّاعرة بالتسّلط القمعيّ للواقع السّائد وعلى ما تتحلّى به هي من  ثبات وشجاعة في مواجهته .

على أنّ فضيلة الشّابّي – والحقّ يقال –  قلّما تقف أمام الواقع الذي ترفضه  وجها لوجه بل تجنح قي أغلب الأحيان إلى ضرب من الاحتماء كثيرا ما يتّخذ صيغة  التّلاحم مع “الأنْتَ ” (المفرد المخاطَب المذكّر) أو ال”نحن ” أو ال” أنتم ” أو “الهُمْ ”  . فهل مردّ هذه النزعة إلى الطّبيعة الأنثويّة الهشّة  للذّات الشّاعرة، تلك التي لا تقدر على تحقيق  أحلامها الثّائرة دون الاستنجاد ب ” الآخرين ” ؟ أم هل يعود  ذلك إلى إيمانها بضرورة التكاتف الجماعيّ لتحقيق التحوّل المرجوّ وإحداث التغيير المنشود؟.

ولقد  ترتّب على هذه النّزعة القويّة  إلى الالتحام بالآخر  أو مجرّد  الانضمام إليه  أن اتّسم شعر فضيلة الشّابيّ  بما يشبه الحركة الاندياحيّة، منطلقُها  دائما الذّات الشّاعرة و مَصَبُّها  المحيط الخارجيّ  .وهذه الحركة تتحقّق على مراحل  : أولاها التحام “الأنا” ب “الأنتَ ” والثّانية اندماج ” ا لأنا”، في ” ا لنّحن ” أو ” الأنتم ” أو ” ا لهُمْ “، والثّالثة – وهي أقلّها تواترا- مواجهة المحيط الخارجيّ مباشرة.

 

  • المرحلة الأولى :

 

يبلغ عدد القصائد التي تخاطب فيها الشّاعرة المفرد المذكّر المخاطَب ” أنتَ ”  ستّ قصائد . وهي على التّوالي :

 

1) أتذكّر (ص 7)

2) روائح الأرض والغضب (ص 23)

3)  في عامي الثّاني والعشرين (ص 26)

4) إذا الموءودة سُئلت (ص 33)

5)  سجينان  (ص 39) 6

6) اليوم موهوب (ص 51)

 

وعلى الرّغم من أنّ  مدار هذه القصائد على علاقة “الأنا” ب “الأنت ” فقد سلمت  من  الوقوع في الحبّ الرّومنطيقيّ المبتذل وما يرتبط به من  مواقف سلبيّة  كالهروب والتّعويض والضّياع والاستراحة الوهميّة  . بل إنّ الذّات  الشّاعرة لتلوح  ،  على عكس ذلك ، ممسكة بزمام إيروس  *  ( 2 ) ( Eros  ) (الغريزة الجنسيّة  حسّا أو معنى )  ، متحكّمة فيه ، مسيطرة عليه  . وهذه، في حدّ ذاتها، ميزة ينفرد  بها شعر  فضيلة الشّابّي  دون ما يسمّى “الأدب النّسائيّ ”  في تونس ،  إذ هي الوحيدة من  حاملات القلم التّونسيات التي قدرت على إفراغ الحبّ من محتواه الخرافـيّ والارتقاء في صياغة خطابها  عنه إلى مستوى فكريّ  نضاليّ  . وذلك  بتحويل عمليّة التّلاحم بين “الأنا” العاشق  و”الأنت  ” المعشوق  من حالة   سلبيّة  تركن فيها الذّات   الشّاعرة إلى الهروب من الواقع والانغماس في أحلام وهمية  إلى وضع إيجابيّ  تكتسب فيه  قوة  فاعلة بها تمتلك القدرة على تغييره  .ومن ثمّة فإذا اتّسمت تجارب جلّ الشّاعرات التّونسيّات    بهيمنة “إيروس ” على تفكيرهن  فإنّ فضيلة  الشّابّي  تتّخذ الحبّ مطيّة للفعل وهي –لعمري – من  أروع المحاولات  في تثوير ذلك الغرض الشّعريّ القديم المسمّى”غزلا ” .

ففي قصيدة “أتذكّر”، مثلا، تلوح الذّات  الشّاعرة امرأة ذات أحلام بعيدة المنال تطلب من حبيبها أن يمنحها “كرسياّ حول الشّمس ” أو”أرجوحة سماويّة”  . لكنّها سرعان ما تعود إلى وعيها الثّوريّ فتطاب منه أن بمنحها “انفجار العالم ” عوضا عن  الزّهرة التّقليديّة .

ونلمس، فضلا عن   ذلك ،  في هذه القصيدة، جمعا   مباغتا بين ال”إير وس ” ، و  ال “تناتوس ” (Thanatos  ) (3) بمفهومه عند هربارت ماركوز (Herbert Marcuse   1898 – 1932  ) وهو القوّة الدّافعة على التحرّر (4 )  . وهذا  ما يرمز إليه اقتراب ” ا لكرسي ” الذي  من معانيه   الحافّة الرّاحة  ، من “الشّمس” التي  هي رمز كونيّ  متداول للثّورة. وهذا ما يؤكّد ها ذهبنا إليه آنفا من أنّ الجنس  في شعر فضيلة الشّابيّ ليس  غاية في حدّ ذاته  وإنّما هو “مطيّة للفعل ” . ومعناه أنّ  توجّهها إلى ال”أنتَ ” لا تمليه  دوافع عاطفيّة  وإنّما الرغبة في اكتساب أكثر ما يمكن من القوّة للمواجهة والتّأثير  الإيجابيّ في الواقع .

وفي قصيدة “روائح الأرض والغضب ”  تتداعى تلك الأنوثة  السّلبيّة  السّاذجة التي  تنسجم معها غالبية النّساء لتقوم  على أنقاضها ألوثة جديدة ثائرة، ينقلب اللّطف فيها إلى عنف وتتحوّل همسات النّجوى إلى كلمات ناريّة  كالألغام و تنهض مكان  الرقّة المألوفة غلظة وشدّة  .ولا همّ لهذه الأنوثة سوى تفجير العالم ذي البعد الواحد ،  على الرّغم  من أنّ الفعل موكول إنجازه إلى ال”الأنتّ”  في حين يقتصر دورها هي على الأمر والطّّلب.وفي هذا تقول :

 

لم تجدْ في مصانعِ الأرضِ حَطَبًا؟

وفي قلوبِ البشرِ لم تجدْ غضبًا

فهذا العنفُ

اِصْنَعْ منه أبوابًا

اخلقْ به العَجَبَ

امنحني، امنحني، امنحني

روائحََ الأرضِ

وازرعْ في قلبي الغضبَ

(روائح الأرض والغضب ص 20)

 

وتعترضنا في قصيدة ” في عامي الثّاني والعشرين” امرأة ذات شواغل أرضيّة  ، منها اهتمامها كسائر النّساء بعيد ميلادها . لكنّ انصهارها في ال”أنتَ ” تلبيةً ل”جوع عميق أكل نظراتهما” – وهو جوع ذو طابع فكريّ لا جنسيّ –  لم يبعدهما عن الواقع  بل زادهما قدرة على إخضاعه لمشيئتهما  .وهو ما يدلّ على أنّ “الحبّ” يمكن أن يكون  أداة  من أدوات الاحتجاج .

تقول في ذلك :

 

في عامي الثّاني والعشرينَ

حطّمنا هياكلَ النّسيانِ على عتباتِ

السّنينَ

يومَها

التقينا في طريقٍ كُنْ، فكانَ

يومَها

سطوُنا على الزّمانِ

يومَها خطفنا العالمَ

عصرناه

(في عامي الثّاني والعشرين ص 26)

 

وفي قصيدة “إذا الموءودة سُئِلتْ ” يكشف  ” الأنتَ ”  عن حقائق طُمست منذ أمد بعيد فيشهرها كالسّيوف العَضْبة  ويهوي بها على رؤوس الوائدين . فإذا بنيان “العالم المعتوه “،  تتهاوى .وإذا بذرة حياة جديدة تُزرع  مكانها  :

 

ثمّ سِرْتَ

تَنْسِفُ الكلابَ من الدّربِ نسْفا

تلطمُ العالمَ المعتوهَ بحقائقنا

تتخطّى مدينةَ الغولِ

لكي نحيا

نُورقَ في حقائقِنا

(إذا الموءودة سُئلت  ص 34- 35)

 

وفي قصيدة ” سَجينان ”  يقبع  ال”أنا” و ال” أنت ” في زنز انة موحشة وقد شلّ الجمود حركتهما  وأتى الهمود على قواهما،  على حين انحصرت الحركة – و هي في غاية البطء – في المحيط الخارجيّ حيث “يرحل الضّوء، و”تسافر الرّيح والذّباب ” . لكنّ أمنية ثوريّة  عاصفة تولد، رغم ذلك، في هذا السّجن حين تطلب الذّات الشّاعرة من البحر أن  “يقطف لهما “أغنيات الشّعوب” وأن ينثرها أغنية أغنية على جدران معتقلِهما :

 

علّها تزهرُ

فتنشرَ الصّخبَ في كلّ القممِ

(سجينان ص 40)

 

ويعترضنا في قصيدة “اليوم موهوب ” أنموذج ثان من الأماني الثّوريّة . وهو  أن يختزل  الزّمنُ المسافاتِ الفاصلة بين ال”أنا” وال” أنت ” لكي يلتقيا ويتلاحما . فالشّاعرة تتمنّى لو رحلت يوما واحدا على أجنحة الطيور إلى حيث يوجد ال”هو “، مُهدية إيّاه عن بعد “يومها” المليء “رؤى وغابات وجبالا” كي ” يتوغّل فيه ” فيزولَ جوعه و ينطفئ  ظمؤه .

فأين شعر فضيلة الشّابيّ ،  إذن، من ذلك الغزل المائع الذي لا  دلالة له غير ما يشكوه صاحبه أو صاحبته  من كبت وحرمان  ؟ وأين هي من  تلك الأنوثة  السّلبيّة التي يحدّدها بعضهم في الرّقّة واللّطف لأنّ الغلظة والخشونة من خواصّ الذكر ؟ فشاعرتنا، كما رأينا، لم تتردّ د في إسقاط هذا المفهوم  للأنوثة على رؤوس القائلين به، معلنة عن ميلاد أنوثة ثوريّة جبّارة  ، عاتية ، متسلّقة ل”سلالم الغضب ” ومسهمة في صنع غد الجماهير الأفضل .

 

  • المرحلة الثّانية :

 

إذا  كان الحبّ المَرَضيّ الخرافيّ الشّائع عند الغزليّين يتجسّد في اتّخاذ الالتحام بين  المتحابّين روحيّا أو جسديّا وسيلة للانقطاع عن الواقع والانفصال عن المجتمع فإنّ  فضيلة الشّابي قد فجّرت  تلك العلاقة بين المرأة والرّجل، لتسخرها في خدمة الآخر ، مُقحمة إياّها في شعور أوسع هو الشّعور بالانتماء إلى ال ” نحن ”  . وقد جاء التّعبير عن هذا الشّعور بالانتماء صراحةً  في ستّ قصائد هي :

1) فلسطين (ص 10)

2) أيّها الصّغار (ص 32)

3) زهور المجاعة (ص28 )

4) المدينة الفاجرة  ( ص30)

5) أطفال العالم (ص 44)

6) كتابات على أجنحة الكارثة (ص 49)

 

ففي قصيدة ” فلسطين ” يلوح الغضب الشّعور الأساس الذي منه تنبع كل أحاسيس ال” نحن  ” . وهو يدرك ذروته  حين نرفض الشّاعرة وذووها (العرب عامّة ) الخصب والمطر  راضين بالعيش على الطّوى و”مجاورة الموت ”  من أجل تحرير فلسطين .

وفي قصيدة “أيّها الصّغار” تعبّر الشّاعرة عن إيمانها الرّاسخ بالجيل الصّاعد الذي سيدبّ فيه الوعي حتما فيتخلّى عن كُرَته الجلديّة أو المطّاطيّة  ويستعيض عنها بكرة سوداء  ، يضرب بها الأعين المُغمضة  حتّى تُفتح لترى الحقائق سافرة .

وفي قصيدة “زهور المجاعة” لا تخفي الشّاعرة أملها في الجوع الذي قد ينبت مثل المزابل أحيانا  أروع  الأزاهير . لكنّها أزاهير من جنس خاصّ لا يتضوّع  منها الشّذى بل  تنبعث منها “العواصف المُسْكٍرة” التي ستتجمهر حولها مصفّقة ألفُ نملة ونملة وألفُ نحلة ونحلة .

ولا يفوتنا أن نلاحظ هنا جدّة صورة “الشّذى الثائر” .  فهي تٌعدّ ،  في حدّ ذاتها  ، مظهرا من مظاهر تثوير الرّومنطيقيّة التي اعتاد عدّة شعراء وكتّاب الرّحيل على أجنحتها إلى عوالم خياليّة واتّخاذها مطيّة للهروب إمّا إلى الطّبيعة وإمّا إلى الماضي البعيد الذي ولّى .

وفي قصيدة “المدينة الفاجرة” تُجْمِل فضيلة الشّابّي أهمّ تناقضات العالم ذي البعد الواحد  ، مشخّصة إيّاه في صورة امرأة متعبّدة لا تنقطع يوما عن الصّلاة لكنّها تغطس نهديها في العطر تبرّجا واستهتارا وتقصد حرفاءها   بدلا من أن يقصدوها ولا تتورّع وراء ستار العفّة  عن ” ابتلاع  “الرّجال واختطاف الأطفال  .

وفي قصيدة ” أطفال العالم ” تعود الشّاعرة إلى مخاطبة أبناء الجيل الصّاعد، راسمة لهم الطّريق التي عليهم انتهاجها  حين يكبرون .وهي طريق   صاعدة  ، مرتفعة لا سبيل إلى سلوكها دون ” تسلّق سلالم الغضب ” في اتجاه الشّمس، للإمساك بها  ورميها  بعيدا  في السّماء لكي تنير العالم الذي  غشّته الظّلمات .

ولعلّ أهمّ ما  أفضت إليه هذه الرّحلة  العسيرة  التي أقدمت عليها الذّات الشّاعرة  في  مجاهل عالم ال”نحن ” هو  قناعتها الرّاسخة بحتميّة الانتصار النّهائيّ . وهو ما يظهر في قصيدة “كتابات على أجنحة الكارثة” التي تختتمها بهذه الحكمة النضاليّة : ” لن  يموت من لم تقتله الهزيمة ” (ص ص 49-50) .

 

  • المرحلة التالثة :

 

لا تخلو مواجهة الواقع  المتسّلط  رفقة ال” أنت ” أو ال”النحن ”  من صعوبة فائقة ، لاسيّما بالنّسبة إلى امرأة أصيلةِ مجتمع سِيمت فيه الأنثى طيلة قرون سوم الحيوان الأهليّ الوديع . لذلك فتصدّيها له في الوقت الرّاهن لا يكون مبدئيا إلاّ بمنزلة تعلّم الطّفل المشي أو الكلام . ومن ثمّة فالذّات الشّاعرة ، إلى حدّ المرحلة الثّانية  ، لم تبرح وضع الطّفلة التي لا تزال تتعلّم أبجديّة الحياة من محيطها العائليّ والاجتماعيّ  . وهو ما يلوح في موقفها العاطفيّ الحماسيّ من الواقع رغم طابعه الاحتجاجيّ . لكنّ  الخبرة التي اكتسبتها حتّى هذه المرحلة ستمكّنها من  الانتقال إلى مرحلة جديدة  تحقّق فيها تقدّما  وان محتشما في مستوى الوعي . وذلك بالتخلّص من الحاجة إلى الاحتماء بالآخر سواء أكان فردا ( الأنت ) أم جماعة ( النحن )  والتّعويل على الذّات في مواجهة العراقيل التي تنتصب في طريقها .   و تلوح لنا بوادر هذا التحوّل في  قصائدها الثّلاث التّالية :

 

  • الرّقصة الأولى ( ص 16)
  • ) السّهم الذي يغنّي ( ص 38 )
  • الماء (ص18)

 

ففي قصيدة “الرّقصة الأولى” تتهيّأ الشّاعرة لتجريب الفعل بمفردها   لكن على صعيد التصوّر والتخيّل فحسب، واعدة ، بالمرور عاجلا في مرحلة لاحقة  إلى الإنجاز .وعلى الرّغم من  الطّابع المجرّد لهذا التّجريب  فإنّ الذّات الشّاعرة لم تقو على تحمّله . فإذا  هي تستسلم إلى البكاء،   بتأثير  رواسب التّنشئة التي تلقّتها والتي رسّخت في ذهنها  الصّورة السّلبيّة للأنثى  باعتبارها صورة  طبيعيّة  سليمة وأنّ  كلّ ما  سواها مخالف للطّبيعة ولنواميس الوجود  . فالقوّة والفعل  من خصائص الرّجل والضّعف  والتقبّل من صفات المرأة  . لكنّها، على كلّ حال، تبكي وتصارع  يحدوها في أثناء ذلك عزم لا يني على التحرّر النّهائيّ من بقايا الأنوثة المَرَضِيّة  التي تعوقها عن الانصراف بكليّتها إلى النضال  :

سأرقصُ فوقَ زلازلِ الأرضِ

رقصتي الأولى،،،

سأخاطبُ الإنسانَ

بالكلمة الأولى

وأبكي،،،

سوف اقتحمُ عوالمَ الغربةِ

وأفتحُ كلَّ أبوابِ الدّنيا

وأبكي،،،

(الرقصة الأولى ص 46-87)

 

و لا نشكّ لحظة في أنّ الشّاعرة ستتوصّل إن  عاجلا و إن آجلا إلى الخروج منتصرة من هذا الصّراع الدّاخليّ بين   المفهوم  السّلبيّ للأنثى  الذي زرعه في ذهنها المجتمع      ومفهومها الإيجابيّ الثّوريّ  المنشود . ذلك أنّ  تعلّقها بالتّغيير الجذريّ  أبعد ما يكون عن رغبة عارضة  أو انسياق وراء موضة  وإنّما هو نابغ من حاجة  ملحّة صادرة عن الأعماق  بل  من جوع  لهيف  لا توقف اندفاعه حواجز ولا تردّ زحفه  سدود . وهو الذي  في انطلاقه بمنزلة سهم مغنّ  يهتك ستائر الأوهام المسدولة على العقول ويزرع الأمل في النّفوس ،  مبشرا بعهد جديد مشرق :

 

جوعي أصابعُ تمتدُّ،،

تمتدُّ إلى حدودِ الدّنيا

بَعْليّةَ الزّحفِ

تفتضُّ مكامنَ الانفجارِ

جوعي،،

سينطلقُ سهمًا يغنّي

يقتلُ الآمالَ المريضةَ في أعينِ الأجيالِ

في فلسطينَ، في فيتنامْ

يصلّي أمامَ الأطفالِ

جوعي في السّماء

سيلقّحُ أغنياتِ الشّعوبِ

يغسلُها في الدّماءِ

يعلّمُها الرّقصَ فوقَ الخناجرِ

سيغسلُ أغنياتِ الشّعوبِ

في بسمةِ كلِّ ثائرٍ

(السهّم الذي يغنّي ص 36)

 

لكنّ التّغيير لا يعني بالضّرورة الهدم والتّدمير بقدر ما يعني التّشييد والبناء  .فما أصعبَ   الإخصاب والإنماء والإحياء وما أعسرَ كنس الأرض ممّا تراكم عليها من  أدران وسموم  تمنع خصبها وتعطّل الحركة على أديمها ا! ألا يكون التغيير إذن إيجابيّا إذن إلاّ إذا أحلّ محل الجفاف والموت الخصب والحياة  ؟ وأنّى له تحقيق  ذلك إذا لم يكن خلاّقا كالماء:

 

رأيتُ الماءَ في اللّيلِ

يعارض جفاف العالم

يُحْبِلَ الحياةَ

يتحدّى الويلَ

صوتُهُ

وثبةً في الضّياءِ

تزرعُ البرتقالَ

في أعينِ الأجيالِ وتبعثُ فوقَ نافذتي الحقيقةَ

(الماء ص 18)

 

تلك هي مقوّمات التّجربة الشّعريّة البارزة لفضيلة الشّابي مثلما تظهر في مجموعتها الشّعرية الأولى روائح الأرض والغضب  . وكلّ مقوّم منها يحتاج في تقديرنا إلى وقفة خاصّة  .وهو ما لا يتّسع له هذا المقال التّأليفيّ . و إنّها لخسارة جسميّة للشّعر التّونسيّ أن يتوقّف صوت مثل صوتها الذي لا مجال للمقارنة بينه وبين أصةات الكثيرين والكثيرات من المنتسبين إلى الإبداع الشّعريّ وتعكف دور النّشر الرّسميّة على طبع  مؤلّفاتهم وإغراق السّوق بها دون أن يجد فيها النّاقد ما يقنعه و القارئ ما يفيده . وأتساءل هنا : هل سكت هذا الصّوت نهائيّا ؟ أم هل ستتيح لنا دار نشر أخرى غير تونسيّة فرصة الاطلاع على مجموعة بل مجموعات أخرى لها ؟  لكن أيّا من هاتين الحالتين لا تشرّف الأدب التّونسيّ الذي كاد ينفرد بما يلقاه كبار مبدعيه من غبن في حياتهم  قبل أن يتحوّلوا بعد موتهم إلى نجوم ساطعة  تضيء تاريخه وترسم للأجيال اللاّحقة طريق المستقبل .

 

الهوامش :  

 

  • الشّابي ( فضيلة ) ، روائح الأرض والغضب ، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر ، بيروت 1973

 

  • إيروس ( Éros) هو إله الحبّ عند اليونانيّين و في علم تحليل النّفس  هو مجموعة  الدّوافع الغريزيّة على  الحياة  ومبادئ الفعل  التي تتألّف  من طاقتها الرّغبة الجنسيّة للإنسان . انظر : لفظ   Éros

Encyclopædia Universalis France

 

  • تاناتوس* ( Thanatos)  هو عند اليونانيّين صورة الموت المشخّصة  وفي علم تحليل النّفس هو الدّافع اللاّواعي على الموت  .لكن مركوز جعل منه دافعا على تحرّر الإنسان . انظر في ذلك :

 

  • Marcuse ( Herbert ) , Eros et civilisation, Les Éditions de Minuit, Paris 1963 pp 173-192

 

فضيلة الشابي 

 

ولدت بتوزر في 23 جانفي1946.خريجة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس  .ومنها حصلت على الإجازة في اللغة والآداب العربية سنة 1971.مارست التدريس ثم انقطعت عنه ، مؤثرة التفرغ للكتابة. من مؤسسي حركة “غير العمودي والحر”. أحد أجنحة الطليعة في نهاية الستينات .ثم استقلت تجربتها ونحت منحى وجوديا بحتا. لعلها  أغزر شاعرة عربية إلى حد الآن. كتبت للأطفال  وفي الرواية وفي الشعر الدارج  .

 

مجاميعها الشعرية :

 

  • روائح الأرض والغضب ، المؤسسة العربية للطباعة والنشر ،  بيروت  1973
  • الليالي ذات الأجراس الثقيلة ، دار الجويني للنشر ، تونس  1988
  • الحدائق الهندسية، على النفقة الخاصة، تونس 1991
  • النقطة ونسيان النار، على النفقة الخاصة، تونس 1996
  • مياه نسبية، دار أقواس للنشر، تونس 1998
  • الأفعوان ، على النفقة الخاصة ، تونس 1999
  • شروق الأشياء، على النفقة الخاصة، تونس 2000
  • وادي الأفعال، على النفقة الخاصة، تونس 2001
  • زئير الصباح، على النفقة الخاصة، تونس 2002
  • صلوات في الأين ، على النفقة الخاصة ، تونس 2002
  • اكتئاب الريح ، على النفقة الخاصة ، تونس 2003
  • تونس القمران، على النفقة الخاصة، تونس 2004

في الرواية :

  • الاسم والحضيض ، على النفقة الخاصة ، تونس1992

تسلق الساعات الغائبة  ، على النفقة الخاصة ، تونس2000

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*