الباريسيّون اليوم

téléchargement

 

 

إذا كانت بروكسال عاصمة بلجيكا  ربّما  أجمل مدينة في أوروبا – وهذا  على الأقلّ   ما أراه شخصيّا- فإنّ باريس  تبقى  الأحبّ إلى النّفس لما يسودها من جوّ ودّي حميميّ عارم .فلا أحد يحسّ فيها مهما كان  أصله وثقافته بأنّه أجنبيّ. وذلك لاحتضانها أقلّيات تنتمي تقريبا إلى كلّ شعوب العالم .وهذه الأقلّيات مندمجة في المجتمع الفرنسيّ مع حفاظها على خصوصيّاتها.

يوم حلولي بباريس منذ أسبوعين تفضّل صديقنا الأستاذ برونو صالق  (Bruno Salgues) زوج الشّاعرة مونيك ماري إهري(  Monique-Marie Ihry ) بتهيئة مفاجأة لطيفة لي  .وهي أنه دعاني إلى تناول وجبة العشاء في مطعم تونسيّ .وهو مطعم فسيح الأرجاء وجلّ العاملين فيه تونسيّون. لكن معظم الحرفاء الموجودين فيه ساعتها فرنسيّون .وهو ما لاحظته أيضا بعد ذلك في مطعم مغربيّ ثمّ في مطعم تركيّ ..وذلك على الرّغم من العمليّات الإرهابيّة الجبانة التي ارتُكِبت يوم 13 نوفمبر 2015.

وهذا يفسّر بعادة قديمة جعلت من باريس على مرّ السّنين مدينة متعدّدة الثّقافات أو إن شئنا عاصمة تامّة الشّروط للإنسانيّة جمعاء.

إنّ سياسة الدّولة الفرنسيّة لا تخلو ،لا محالة، من  الأخطاء أحيانا. من ذلك على سبيل المثال مشاركتها سنة 2011 في قصف ليبيا مع بقيّة دول الناتو. وهو ما تسبّب في سقوط أكثر من 60.000 ضحيّة .وقد انجرّ عن ذلك استتباب حالة عارمة من الفوضى تتجسّد في تشكل حوالي 170 ميليشيا مسلّحة تعيث في البلاد فسادا وكذلك الدّعم الذي  قدّمته الدّولة الفرنسيّة لتنظيمات إرهابيّة في سورية لنيل رضا دول خليجيّة بتروليّة تقف وراءها .لكنّ عدّة مثقّفين فرنسيّين لم يفتؤوا يندّدون صراحة بهذه السّياسة، سواء في وسائل الإعلام أو في كتب ينشرونها، محمّلين الدّولة قسطا من  المسؤوليّة في تنامي ظاهرة الإرهاب على الصعيد العالميّ.

أمّا الباريسيّون العاديّون فلئن كانوا شديدي التّأثّر بالمجزرة الرّهيبة العمياء التي ذهب ضحيّتها قرابة الثّلاثين مواطنا بريئا في مدينتهم – وهو ما يلاحظ بوضوح  على وجوههم – فإنّهم لا تنقصهم الشّجاعة البتّة، فضلا عن تعلّقهم الشّديد بالحياة.فيكفي أن ترى عربات المترو تمتلئ وتفرغ  على امتداد النّهار وحتّى ساعة متأخّرة من اللّيل وأن ترى الشّوارع والفضاءات التّجاريّة ودور السّينما وغيرها من أماكن التّرفية مكتظّة على الدّوام  بالنّاس، لتستخلص أنّ الإرهاب أضعف من أن يحمل هؤلاء على تغيير عاداتهم والعيش في حالة رعب دائم.

وأمّا الوسائل التي يتعيّن استخدامها لقطع دابر هذه الآفة، هذه  التي يتعاظم خطرها يوما فيوما في العالم بأسره فالمثقّفون الفرنسيّون  على خلاف في شأنها : ففد  عزا بعضهم الإرهاب إلى التّفرقة التي يعاني منها أبناء المهاجرين ، مقترحين اتّخاذ إجراءات   محسوسة لفرض تكافؤ الفرص.وهو ما لا يستسيغه اليمين الفرنسيّ الذي يزعم أنّه لو كان يحكم البلاد لما وقعت أحداث 13 نوفمبر.وهناك طائفة ثالثة ترفض الرّبط بين الإرهاب والفقر، معتبرة أنّ هذه الطّريقة في التّفكير تنطوي على إهانة لجميع الفقراء .وهذه الطّائفة  تنقسم إلى فئتين تنظر كلّ منهما إلى القضيّة من زاوية معيّنة .فحسب إحداها  أصل الدّاء إيديولوجيّ .وهو ما يقتضي تأطير الشّباب الذي سلب عقله التّيّار التّكفيريّ تأطيرا فكريّا مناسبا،  على حين تُرجِع الفئة الأخرى  هذه الظّاهرة إلى أمراض نفسيّة نادرة، منها ما يسمّى “عشق الموت”أو ” حُبّ الدّمار”.والمصابون بها لا يشفون منها إلاّ بعلاج مخصوص مكثّف.ولا ننسى في الختام الإشارة إلى ما يراه بعض المسيّسين  من أنّ الدّول العظمى لو وضعت حدّا للحروب الدّائرة رحاها في عدة أقطار عربيّة ومسلمة لساعدت على الحدّ من الإرهاب وحتّى القضاء عليه .لكنّ مصالحها وخاصّة تنشيط مصانع الأسلحة وابتزاز ثروات تلك الأقطار تجعلها تتظاهر بمقاومته لكن مع تشجيعه في الخفاء.

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*