هويّة السّارد في جولة بين حانات البحر المتوسّط (1) للكاتب السّرديّ والمسرحيّ التّونسيّ عليّ الدّوعاجي :محمّد صالح بن عمر

media_temp_1422281817

عليّ الدّوعاجي

ad_2_1

 

 

لعلّ من أهمّ الأسئلة التي يثيرها أدب علي الدّوعاجيّ السّرديّ ولم يُجَبْ عنها إلى حدّ الآن إجابة دقيقة مقنعة سؤال الهويّة السّرديّة* لهذا الكاتب. ذلك أنّه إذا أمكن للباحثين والنقّاد محاصرة المصادر المعرفيّة والثّقافيّة والذّهنيّة والنّفسيّة التي مَتَح منها معاصراه التّونسيّان في هذا الفنّ محمود المسعدي والبشير خريّف فقد ظلّ هذا الجانب في أدبه ضبابيّا، غائما لا يتعدّى بعض الأحكام التّقريبيّة العامّة من قبيل البُوهيميّة والهامشيّة وخفّة الرّوح والميل إلى المرح والدّعابة. وجلّها صادر عمّا نقله معارفُهُ والمقرّبون منه من بعض تفاصيل سيرته وأخباره لا عن تشريح لنصوصه السّرديّة. ولعلّ من حسن حظّ الباحث الذي يشغله مثل هذا الموضوع أنّ أحد الكتابين السّرديّين اللّذين ألّفهما علي الدّوعاجي- وهو رحلة بين حانات البحر المتوسّط – في أدب الرحلة أي ينتمي إلى جنس من الأجناس السّرديّة التي يتّحد فيها المؤلّف والرّاوي. وهو ما من شأنه أن يعيننا على استكشاف جانب من هويّته و إن في فترة محدّدة من عمره – وهي سنّ الرّابعة والعشرين- لأنهّ قام بتلك الرّحلة حسب ما جاء في الفصل الأوّل من الكتاب في صيف عام 30 19، وهي فترة الشّباب الأولى التي تلي المراهقة وتسبق الكهولة وسمتُها الغالبة، في العادة، بداية استقرار الشّخصيّة .
ولا يخفى أنّ سؤال الهويّة السّرديّة الذي يرجع الفضل في إثارته إلى الفلسفة لا إلى الإنشائيّة لمن الأسئلة الجوهريّة التي تتعلّق بلب الفعل الإبداعيّ، لأنّ الإجابة عنه قد تكشف عن مدى تميّز الذّات المنشئة للخطاب وتفوّقها وما تمتلكه من قدرات تخيّليّة وحدسيّة وحسّيّة وانتباهيّة.وهو الشّرط الضّروريّ اللاّزم للحكم بانتماء صاحب هذا الأثر أو ذاك إلى زمرة المبدعين وفصله عن طغام هواة الكتابة وغوغائهم .وما أكثرهم عددا ! وما أقلّ تواضعهم !
على أنّنا لن نستعمل هنا مصطلح ” الهويّة السّرديّة ” بالمعنى الفلسفي الذي حدّده له واضعه بول ريكور (Paul Ricoeur ) . وهو أنّ الفرد إنّما يصنع ذاته عبر الحكي على نحو إراديّ واع، على اعتبار أنّه إنما ينجز الفعل أيَّ فعل في اللحظة الحاضرة، متسلّحا بتجربته الماضية ومهتديا بالأهداف التي يرسمها لنفسه في المستقبل (2) .
فجِينيّا وعَصَبيّا ثمّة جوانب بالغة الأهمّية في ذات الفرد تقع خارج دائرة إرادته لاسّيما مزاجه وملكاته الذّهنيّة كالمفكّرة والذّاكرة والمخيّلة والحدس والحساسيّة. وهي الملكات التي يوظّفها الإنسان في الإبداع الفنّيّ أو الفكريّ .
وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم هويّة علي الدّوعاجي السّرديّة في الأنموذج الذي نروم مقاربته في هذه المداخلة إلى قسمين متباينين : أحدهما ثقافيّ أي إراديّ لأنّه مكتسب من المحيط . وهو ما يجعله قادرا على تبنّيه أو تعديله أو رفضه والآخر عرفانيّ أي لا إراديّ بحكم كونه ولاديّا وراثيّا.

I – مقومات هوية السارد الثقافية :

نجمع في خانة المكوّنات الثّقافيّة كلّ العناصر التي تحيل إليها الإشارات الصّريحة والضمنيّة الواردة في خطاب السّارد إلى عاداته الفرديّة وسلوكه وآرائه ومواقفه.
فثقافيّا يلوح علي الدّوعاجي أوّلا ، على عصاميّته ، متقنا للغة الفرنسيس نطقا وقراءة. وذلك ماثل في تواصله مع جلّ مرافقيه الأجانب في الرّحلة التي يرويها بهذه اللّغة وفيما أشار إليه من اطلاعه على بعض ما كتبه الرّوائيّان الفرنسيّان بيار لوتي (Pierre Loti ) (جولة، ص 61) وأندري موروا (André Maurois ) (نفسه، ص 88).
ولهذا الازدواج اللّغويّ أهمّية بالغة، لأنّه كان الصفة المميّزة للمَدْرَسِيّين في تونس قبل الاستقلال، مقابل الزّيتونيّين الأحاديي اللّغة، الرافضين لكلّ ما هو وافد من الغرب أو على الأقلّ المحترزين منه، ما عدا المنشقّين عنهم مثل أبي القاسم الشّابيّ والطّاهر الحدّاد وما أقلّهم عددا في ذلك الوقت.
وهذا الازدواج هو الذي يفسّر أيضا ثقافته السّينمائيّة التي تكشف عنها معرفته لنجوم الفنّ السّابع الغربيّين في عصره مثل قابي مورلاي ( Gaby Morlay ) وجون كراوفورد ( John Crawford ) (نفسه، ص 7 1) ورومان نوفارو ( Roman Novarro ) (نفسه، ص 43) وبريمو كرنيرا ( Primo Crnera ) (نفسه، ص 44) وثقافته الفنّيّة التّشكيليّة التي تشي بها معرفته للتقنية المستخدمة في لوحات الرسّامين ألكسندر قبريال دي كامب ( Alexandre-Gabriel Decamps ) و أوجان دي لاكروا ( Eugène Delacroix ) اللّذين امتازا، على حدّ قوله، باستخدام الألوان الصّميمة دون كثرة توليد ولكنّهما يكوّنان ألواحهما من تلك الألوان المتباعدة تكوينا مؤلّفا رائعا” (جولة، ص 96). وهذه الثّقافة هي من أهمّ العوامل التي ستسهم، بلا ريب، في دفعه إلى مراس الفنّ الكاريكاتوريّ .
أماّ سياسيّا فلا نظفر في الرّحلة بأيّ إشارة إلى الوضع المتأزّم الذي كان سائدا في تونس زمن الكتابة. وقد اتّسم بالقمع والمنع وإعلان المستعمر عن نواياه الإدماجيّة بعد احتفاله سنة 1930 بمرور قرن على احتلال الجزائر وتنظيمه المؤتمر الأوفغارستيّ الذي دعا رجال الكنيسة المشاركون فيه إلى إعادة تمسيح البلاد، مقابل تصدّع الصفّ الدّاخليّ للوطنيّين التّونسيّين بانقسام الحزب الدّستوريّ إلى شقّين متعاديين قاد أحدهما- وهو الشقّ المحافظ- حملة عنيفة ضدّ كتاب الطّاهر الحدّاد امرأتنا في الشّريعة والمجتمع فهل يعني صمت الدّوعاجيّ التامّ عن كلّ تلك الأحداث لامبالاته بها ؟
إنّ كلّ ما يشفّ عنه خطاب السّارد في هذا الكتاب من مواقف سياسيّة يتعلّق بأحداث خارجيّة. فقد صرّح على لسان إحدى الشّخصيات- وهي سائحة إنفليزيّة عجوز سمّاها على سبيل التهكّم “المعرفة الكاملة ” باستبشاعه للنّازيّة في قوله “الخَلاّصُ المكلَّف بعَرَبتنا يحمل شوارب كثيرة الشّبه بتلك التي يحملها ذلك الوحش هتلر (نفسه، ص 79).
وفي سياق آخر نعت الزّعيم التّركيّ مصطفى كمال ب “الدكتاتور”، إلاّ أنّه اعترففي موضع ثالث بأنّ شعوره نحوه موزّع بين الإعجاب والكراهية: ” أمّا أنا فلا قدرة لي على وصف ما شعرت به نحو هذا الرّجل، فقد كنت أعجب به وأمقته وأجلّه في نفس الوقت وبشعور واحد .
فقد ترى من مآثره في تركيا ما يجعلك تشعر نحوه بهذا “الكوكتيل” من الشّعور” (نفسه، ص 63) .
أمّا إعجابه به فيفسّره بأنه “جعل من تركيا البلاد الشّرقيّة التي كانت كلّها وقارا وضعفا وانحلالا دولة أوروبية قو” (نفسه، ص 63).
وأماّ حقده عليه فقد برّره بأنّه “جعل من تركيا بلدا هجينا تتمازج فيه العادات الشّرقيّة والعادات الغربيّة على نحو مضحك “(نفسه، الصّفحة نفسها ) .
وأمّا حضارياّ فإنّ (فنّان الغلبة) على تمسّكه بما يسمّيه “طابعا شرقيّا” أي هويّة عربيّة إسلاميّة يلوح متبنّيا لمبدإ الانفتاح على الغرب الذي دعا إلى الأخذ به المصلحون التّونسيّون و في مقدّمتهم خير الدين التّونسيّ ثم جماعة حركة الشّباب التّونسيّ وتمسّك به أكثر المَدئْرَسِيّين والصّادقيّين منهم بوجه أخصّ . وهذه القناعة الفكريّة يفصح عنها موقفان: الأوّل: ارتياح الدّوعاجي لفشل كمال أتاتورك في القضاء على الدّين الإسلاميّ بتركيا. وذلك في قوله : ” التّركي لم تغيّره القُبّعة كثيرا كثيرا ! وخصوصا من وجهة الدّين، فمازالت المساجد تغصّ بالمصلّين ومازال القرآن يتلى في كل بيت والحمد لله ” (نفسه، ص 67). والموقف الآخر هو استحسانه سفور المرأة التّركيّة واختلاطها بالرّجال وعملها خارج البيت. وذلك في قوله: ” ذهبت تلك الفتاة التي لم تكن تصلح إلاّ للفراش أو لرقصة البطن على نغم العود والرقّ ذهبت مع دولة بني عثمان وحلّت محلّها فتاة أخرى متعلّمة متقّفة نشيطة الحركات لم يعد يُخْجلها كشفُ وجهها الجميل للرّجل فأزاحت عنه ذلك النّقاب الكاذب وخرجت للنّاس تعاملهم وتجالسهم كبشر مثلها” (نفسه، ص 73). ولعلّ السّؤال الذي يثيره هذا الموقف هو أنّ الدّوعاجي إذا كان يتبنّى، كما نرى، مضمون الدّعوة التي أطلقها الطّاهر الحدّاد إلى تحرير المرأة لاسيما السّفور والاختلاط والعمل خارج البيت فلِمَ لَمْ يصدر عنه أيّ موقف مساند له في محنته ؟ وأمّا سلوكيّا فإنّ الدّوعاجي يلوح متحرّرا غير متزمّت. من ذلك ما يراه من أنّ الحديث عن الحانات والمقاهي “لا ئُسْئم أحدا أبدا حتّى الذين يختمون لذّتهم هذه ب “أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ” (نفسه، ص 11) وعدم تردّده في تأمّل صورة مرسومة على تُباّن مٌستحمّة فرنسيّة بأحد شواطئ نيس قال فيها “وسترة عورة عليها رسومٌ هي أحسن ما يُرى من هذه الشّيطانة ” (نفسه، ص 17) وانسياقه لا شعوريّا وراء نغمات الجاز داخل مرقص ليليّ إلى مراقصة فتاة لا يعرفها من قبل (نفسه، ص ص 18- 19) ونظرته الشّهوانيّة إلى فتاة يونانيّة بدا له “في شفتيها ونهديها من النّداء الجنسيّ Sexuel ما لا يوجد إلا في هذه الشّرقيّة المُستغربة ” (نفسه، ص 41) و إيحاؤه بأنّه مارس الجنس مع راقصة تركيّة اصطحبها إلى بيت والدتها العجوز الوحيدة فلم يجداها. وفي دلك يقول “لم نجدها بالبيت إذ ذاك فجلسنا ننتظرها على أحرّ من الجمر وأحرقنا نفوسناا. ” (نفسه، ص 78) وتصريحه بأنّه يشرب الجعة في قوله: ” اندفعنا في حركة أتوماتيكيّة نحو حان السفينة ” للعمل بنصيحة هذا الآمر بالمعروف ولم يتخلّف عن شرب الجعة سوى اثنين” (نفسه، ص 84).
والحاصل من كلّ ما تقدّم أنّ مؤلّف هذه الرّحلة – وهو في الرابعة والعشرين من عمره- ليبراليّ النّزعة، معادٍ للفاشيّة والدكتاتوريّة، مؤمن بضرورة الانفتاح على الغرب، مع الحفاظ على الهويّة العربيّة الإسلاميّة وإن كان الإسلام الذي يتمسّك به هو الإسلام ا!لحضاريّ لا الطّقوسيّ التعبّديّ مثلما لمحنا ذلك في سلوكه وحديثه.

II – مقوّمات هويّة السّارد الإبداعيّة :

1- الإبداع الفكاهيّ :

طغت على لهجة السّارد، من بداية الرحلة إلى نهايتها، نبرة فكاهيّة تتراوح بين الدعابة الخفيفة المثيرة للابتسام والسّخرية الجارحة.
وإذا وسم مثل هذا الطابعُ القارّ لغةَ فرد من الأفراد كان ذلك علامة على مزاج مخصوص ثابت لديه لا على حالة عرضيّة طارئة عليه (3).
على أنّ المُزاح وان كان إفرازا لمِزاج معيّن فليس في حدّ ذاته مظهرا إبداعيّا. وذلك لكثرة الدُّعابات المنمّطة المتفشّية بين النّاس في كلّ اللّغات والثّقافات ومنها ما عَبَر كلَّ الحدود ليستقرّ في الإرث الثّقافيّ العالميّ.
ومن ثمّة فإنّ المُزاح لكي يرتقي إلى مستوى الإبداع الفنّيّ ينبغي أن يكون ثمرة اختراع خالص، تماما كالصّورة الشّعريّة المبتكرة و إيقاع النّثر الذي لا يتولّد عن أوزان ثابتة متوارثة . ولعلّ أقوى دليل على توفّر ملكة المُزاح الفنّيّ لدى الفرد هو قدرته على توليد الأوضاع والمواقف الفكاهيّة ممّا يلوح للنّاس عاديّا في اللّحظة التي ينشئ فيها خطابه . ويعنى ذلك أن الفكاهة هي ، في جوهرها، ضرب من العدول عن السّائد . ومثلما هو الشّأن في كلّ فنّ، يوجد العدول الميّت المتكلّس والعدول الحيّ المبتكر. والثّاني وحده هو الذي يُعدّ مظهرا من مظاهر الإبداع . وإذا تأمّلنا خطاب السّارد على امتداد روايته لوقائع الرّحلة وجدناه مليئا بهذا الضّرب الثاّني من المزاح. وهو يقوم على مبدإ أساسٍ هو الجمع بين المتنافرات. وذلك طبقا لطريقتين مختلفتين: الأولى هي رصد المتنافرات في المشاهد المحسوسة والأخرى إحداث المتنافرات . وهذا النّوع الثّاني يضمّ هو نفسه نوعين متباينين: هما إحداث المتنافرات في مستوى التصوّر وإحداث المتنافرات في مستوى القول .

1-1 : رصد المتنافرات في المشاهد المحسوسة :

من أمثلة هذا الصّنف شيخ ثريّ ، قبيح المنظر، أبصره السّارد – وهو يجالس امرأة جميلة بشاطئ نيس . فعلّق على اجتماعهما قائلا: ” كانت تنظر إليه كأنّه لا يوجد في الأرض رأس آخر أجمل من هذه الكرة القبيحة ” (نفسه، ص 160) وامرأة تستحمّ بالشّاطئ نفسه وصفها بأنّها “عملاقيّة القامة، ضخمة الصّدر والعجز، ضامرة البطن، نحيفة السّاقين حتّى كأنّهما لشخص آخر” (نفسه، ص 17) و أب مسيحيّ فرنشيسكانيّ كان مرافقا له في الرّحلة على متن السّفينة نعته بأنّه، (طويل الأنف والذّقن والقامة طولا مبالغا فيه كأنّه يوم صوم ” (نفسه، ص 33) وخادم أناميّ أصيل الشّرق الأقصى يُخْرِجُ الأحرفَ الحلقيّة من أنفه فلا يفهم السّامع منه شيئا (نفسه، ص 52). بل لم ينج من تهكّم الساّرد حتى أنف كمال أتاتورك الذي تراءى له مفرط الطّول فألحّ في إبراز هذه الصّفة فيه بتأكيد كونها صفة له لا لصاحبه . وذلك في قوله “على رغم أنف المرحوم أتاتورك الكبير والكبير أعني به هنا الأنف ” (نفسه، ص 58). ولم ينج أيضا حتّى جسم الدّوعاجي نفسه من تهكّمه، على نحو ما فعله الحُطيئة في هجاء نفسه. وفي هذا يقول ” لعلّ سِمَني وضخامة رأسي يحملان النّاظر على الاعتقاد بطيبتي (نفسه، ص 33).
والسّخرية من الأجسام وإن كانت مخالفة للأخلاق الحميدة في كل الثقافات فإنّ ذلك لم يمنع تفشّيها في الأوساط الشّعبيّة خاصّة. وهي الأوساط التي دأب الدّوعاجي على الاختلاط بها. لكنّه لئن كان وفيّا لهذه العادة فإنّ المتنافرات التي رصدناها هنا إنّما استقاها مباشرة من الأماكن التي وُجد فيها في أثناء الرّحلة، وهو ما يجعلها مظهرا من مظاهر الإبداع الخالص .

1- 2: إحداث المتنافرات :

1-2-1 : إحداث المتنافرات في مستوى التصوّر:

إنّ أكثر الصّور البيانيّة التي صاغها السّارد لغرض فكاهيّ تخضع لمبدإ واحد هو خرق القاعدة البلاغيّة التي تنصّ على أن يكون وجه الشّبه أقوى في المشبّه به أو المستعار، منه في المشبّه أو المستعار له. وقد تجسّد ذلك الخرق في الحطّ من قيمة المشبّه به أو المستعار مثلما تبيّنه الأمثلة التاّلية :

* شبّه لباس الحرس الملكيّ في اليونان ب ” لباس الطباّلين الزّنوج في الجنوب التّونسيّ ” (نفسه، ص 38) وقبّعة مؤذّن تركيّ لمحه في إسطنبول بأنّه ” نصف بطّيخة من ورد سيدي داود ” (نفسه، ص 64) والباخرة- وهي تتمايل- براقصة تؤدّي رقصة البطن (نفسه، ص 84) وبركان فيزوف الإيطاليّ برجل (، دائم الغضب،) (، دائم التدخين)،، قبل أن يعلقّ على هذا المشهد بقوله ” لا أظنّه يدخّن السّقائر الإيطاليّة لأنّها غالية الثّمن والله لا يحثّ المسرفين ” (نفسه، ص 23).
وهناك لونان آخران فرعيّان من تصوّر المتنافرات: الأوّل هو تخيّل الشّيء الواحد شيئا مزدوجا. من ذلك سائح سويسريّ أبصره – وهو مستغرق في الضحك . فبدا له أنّه “يضحك ضحكة سكسوونيّة ويقهقه قهقهة لاتينيّة ” بحكم كون شعب بلاده يتألّف من طائفة ألمانيّة اللّسان (سكسسونيّة) وطائفتين ناطقين بالإيطاليّة أو الفرنسيّة (أي لاتينيّتين) (نفسه، ص 12) واللّون الأخر هو افتراض أنّ الشّيء الذي أمامه يوجد في وضع مناقض للوضع الذي هو عليه. ومن أمثلته شيخ قبيح يجالس حسناء فأوحى إليه بهذا السّؤال: ” فهل يحبّ مثل هذا الشّيخ لو كان يرتدي سترة زرقاء عليها رقع مستديرة ومستطيلة وهو يدفع عربة نقل أمامه (نفسه، ص ص 16- 17) و وَزَغَة أبصرها مرافقو الدّوعاجي في مبنًى أثريّ فسألوا عنها الدّليل – وكان يتحدّث عن العهد الرّومانيّ – فأجابهم دون أن يلتفت بأنّها ” من ذلك العصر” (نفسه، ص 27).

2-2-1 : إحداث المتنافرات في مستوى القول :

إنّ جل المتنافرات التي أحدثها السّارد في مستوى الخطاب قد حصل عليها بإقحام عبارات أو أسماء أعلام انتزعها من حقل الدّين في سياقات أبعد ما يكون عن القداسة. من ذلك الأمثلة التالية:

* ” كانت حيرتي عظيمة عندما وجدت أنّ أولّ أطباق العشاء طَبَقُ السبافيتي اللّعين حاشا نعيمة ربي ” (نفسه، ص 33).
* ” تركوني مع الفتاة وكانت من النوع الذي ينسيك زيارة الجنّة ” (نفسه، ص 42)
* أكثر مُودَات ذلك رواجا إنّما هي مُودَة حوّاء مع طرح ورقة الكرم التي كانت تتستّر بها أمّنا الخجول ” ( نفسه ص 19 ) .
* ” ابتسم التّركيّ كما ابتسم نوح عليه السلام لقومه ” (نفسه، ص 83) .
* “اندفعنا نحو حان السّفينة للعمل بنصيحة هذا الآمر بالمعروف “(نفسه، ص 51 ).
وهذه الطّريقة في المُزاح هي من الطرائق الشّائعة في لغة الخطاب اليوميّ. وهي تنسجم مع توجّه الدّوعاجي إلى تأصيل القصص الذي يكتبه في الثّقافة الشّعبيّة لتونس العاصمة. وهو ما قاده إلى الكتابة بالدّارجة في مسرحياّته الإذاعيّة وأزجاله التي وصلتنا منها بضع مئات.
وهكذا نرى أنّ الدّوعاجي وإن كانت عقليّته عقليّة شعبيّة فإنّ الأوضاع المضحكة التي رصدها في الواقع أو التي أحدثها في مستوى التصوّر أو في مستوى الخطاب هي من ثمار اشتغال ملكاته الإبداعيّة. وهذا ما قصدناه بالهويّة الإبداعيّة لهذا الكاتب.

2- الإبداع غير الفكاهيّ :

لكن هذه الملكات الإبداعيّة لا تشتغل عند صاحب الرّحلة في مقامات المُزاح فقط بل تنشط أيضا في حالات الجِدّ. وأقواها لديه، فيما يكشف عنه هذا الأثر، المخيّلة. وهو ما تثبته هذه الأمثلة من الصّور والتّصوّرات التي أومضت في ذهنه :

* فالرفّاس الفولاذيّ للباخرة التي تقلّه وبقيّة المسافرين لاح له – وهو يدور- كالقضاء المبرم (نفسه، ص 11) .
* ومسيرة الباخرة التي انطلقت من ميناء تونس ولا يعرف عنها إلا منتهاها- وهو ميناء الإسكندريّة – بدت له مثل علامة الاستفهام التي لا يُعرف منها إلا نقطتها وهي هذه المدينة المصريّة (نفسه، ص 1).
* وصعوبة الانتقال من رصيف إلى رصيف بمدينة نيس أثارت في ذهنه صعوبة تحمّل الإغراء الصادر عن جمال فتياتها .
يقول في ذلك : “المرور من رصيف إلى آخر عمليّة يُحسب لها ألف حساب والنّظر من وجه غادة إلى أخرى يُحسب له ألف دقّة قلب ” (نفسه، ص 15).
* مرأى اتّصال القارّتين أروبا وآسيا بمضيق الدّردنال أوحى إليه بأنّ له زوجتين إحداهما شقراء بيضاء والأخرى سمراء كحلاء وهو يعاملهما بالعدل والإنصاف (نفسه، ص ص 31-54) وفي هذا تأكيد لهوّيته الثّقافية المخضرمة.
* إزاء منظر البحر في اللّيل – وقد انكسرت عليه أشعّة القمر- ترتسم في مخيّلته صورة راقصة إسبانيّة تلبس “ثوبا من الفرمسود الزّيتيّ وقد انعكست عليه أشعّة كشّاف بروجكتور مسرحيّ قويّ ” (نفسه، ص 59) .

خاتمة :

تفضي بنا هذه الدّراسة إلى نتائج تلوح لنا في غاية الأهمّيّة . فثقافيّا يبدو الدّوعاجي متعلّقا بهويّة إسلاميّة حضاريّة لا يقيم في نطاقها وزنا لما هو طقوسيّ تعبّديّ، طبقا لما تشير إليه المقولة الفرنسيّة Croyant mais non pratiquant ، (أي مؤمن لكن غير مطبّق لقواعد الدّين). ولعلّ هذه النزعة كانت هي الغالبة على المَدْرسيّين في المدن التّونسيّة الكبرى زمن الاحتلال الفرنسيّ نتيجة حذقهم للغة موليار التي تمكّنهم من التّواصل مع الفرنسيّين وفهم إنتاجهم الثّقافيّ. وهذا ما لمسناه بوضوح عند صاحب الرّحلة الذي بدا مطّلعا على بعض عيون الأدب السّرديّ والرّسم والسّينما الأروبيّة في عصره. لكنّ انتماء الدّوعاجي إلى هذا الأنموذج الذي كان مُباينا للأنموذج الزّيتونيّ الرّسميّ لم يمنعه من أن تكون له هويّة فرديّة عميقة متميّزة تتجسّد في مزاجه الفكاهيّ الخلاّق الذي كان يتيح له بفضل معاضدة ملكته التخيّلية القويّة رصد المتنافرات المثيرة للابتسام في الواقع المعيش وكذلك إنتاجها إمّا على صعيد التصوّر وإمّا في مستوى القول .
هذا وقد بيّن البحث أيضا أنّ هذا الكاتب لو شاء أن ينشئ نصوصا جدّية لحالفه فيها نجاح مماثل، لأنّ قوة ملكته التّخيّلية ثابتة وغير مرتبطة بمزاجه الفكاهيّ .

الهوامش :

1- علي الدّوعاجي، جولة بين حانات البحر المتوسّط ، الشّركة التّونسيّة للتوزيع ، ط 1 ، تونس 1962
2- Ricoeur ( Paul ) ,Soi-même comme un autre , Editions Du Seuil , Paris 1990

3- انظر دراسة ميشال فياني (Michel Vianni ) الجيّدة لموقع المزاج الفرديّ من الهويّة السّرديّة بعنوان ” الاستعداد العاطفيّ والهويّة السّرديّة ” ( Stimmung et identité narrative )
http://www.vox-poetica.org/t/pas/vanni2.html
.
المصطلحات :

*الهويّة السّرديّة ( L’identité narrative)

علي الدّوعاجي

ولد بتونس سنة 1909. وتوفي سنة 1949. عاش يتيم الأب . عمل في التجارة. ثم انتقل إلى القطاع الصحفي، مستثمرا مواهبه في الرسم والكتابة ونظم الأزجال. ألف للإذاعة أكثر من مائة وستين مسرحية باللغة الدارجة التونسية . انتمى إلى جماعة ” تحت السور”. وهم جماعة من الأدباء والفنانين البوهيميين كانوا يجتمعون بمقهى يحمل هذا الاسم بحي باب سويقة من مدينة تونس العتيقة . توفي بمستشفى الرابطة بالعاصمة في 27 ماي 1949 بتونس لمرض عضال أصابه من جراء إدمانه على استهلاك المخدرات . كان قصّاصا وصحفيا ورساما كاريكاتوريا. هو أول من كتب القصة القصيرة في تونس بالمفهوم الحديث. لذلك لقبه توفيق بكار بـ ” أبي القصة التونسية ” . كتب مسرحية باللغة العربية اختلف في شأنها النقاد والباحثون عنوانها راعي النجوم .
أعماله السّرديّة:
ـ رحلة بين حانات البحر المتوسط، ط1 الشركة القومية للنشر والتوزيع، تونس 1962 ثم طبعات أخرى
ـ سهرت منه الليالي، ط1 جمع عزا لدين المدني وتقديمه، الدار التونسية للنشر، تونس 1969 ثم طبعات أخرى عدة

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*