في إسبانيا اليوم شعب واحد وتيّاران فكريّان غالبان : محمّد صالح بن عمر

حسب المحاورات التي جرت بيني وبين عدد من الإسبان في أماكن مختلفة ، سواء في شمال البلاد أو في وسطها أو في جنوبها لفتني أنّهم على الرّغم من كونهم جميعا وطنيّين حتّى النّخاع فإنّهم يتوزّعهم تيّاران متقابلان كلّ التّقابل : أحدهما – وهو الذي له في ما يظهر الغلبة عدديّا – مُغالٍ في المحافظة والتّشدّد .وهو ما يُستنتج من أنّ مقاليد السّلطة بين أيدي اليمين وأنّ الأغلبيّة قد اختارت العودة إلى النّظام الملكيّ بعد أن جرّبت النّظام الجمهوريّ، زيادة على ردّها الاعتبار للطّبقة الأرستقراطيّة التي تقرّر منذ أكثر من قرنين في الجارة فرنسا حلّها بكلّ بساطة.أمّا التّيّار الآخر – و يلوح عليه بوضوح التّأثّر بقيم الثّورة الفرنسيّة – فهو ليبراليّ صراحة. ولقد داخلني كثير من المرح وأنا أنصت إلى آراء كلّ فريق منهما في ماضي إسبانيا وحاضرها ومستقبلها.
فالمحافظون يرون أن طرد العرب من شبه الجزيرة الإبيرية في ما بين القرنين الثّالث عشر والخامس عشر كان مشروعا، على اعتبار أنهم غزاة احتلّوا بلادهم وهيمنوا عليهم وأهانوهم .وكذلك الشّأن مع اليهود الذين كانوا مسيطرين على دواليب اقتصادهم .أمّا إبادة بعض الشّعوب الأمريكيّة الجنوبيّة بعد اكتشاف القّارة الجديدة فيبرّرها، على حدّ قولهم، توحّش أولئك الأقوام الذين كان بعضهم يقدّمون إلى آلهتهم قرابين بشريّة .لذلك كان لا بدّ من تنصيرهم وتمدينهم بالقوّة، كما يرون أنّ استيلاء الجنرال فرانكو على السّلطة سنة 1939 كان عملا وطنيّا لإنقاذ البلاد من ” الفوضويّين”.
لكن يكفي أن تثير هذه المسائل مع اللّيبراليّين حتّى تسمع آراء مختلفة تماما. ففي نظر هؤلاء قد برهن إسبان الأمس على درجة عالية من التّعصّب حين أجبروا المسلمين الأندلسيّين على الاختيار بين مغادرة البلاد واعتناق النّصرانيّة ، معتبرين الأحكام بالإعدام التي أصدرتها ضدّ هؤلاء وضدّ اليهود دواواينُ التّفتيش جرائم في حقّ الإنسانيّة .وكذلك شأن إبادة أقوام بأكملهم في الجنوب الأمريكيّ.أمّا الجنرال فرانكو فكان ينبغي محاكمته من أجل تعامله مع النّازيين والفاشيّين ضد شعبه ( قصف مدينة قرنيكا في بلاد الباسك )ومن أجل عمليّات الإعدام التي نفّذها في أكثر من 200.000 معارض، منهم الشّاعر اليساريّ الشهير فريديريكو قرسيا لوركا.
هذا على صعيد الأفكار.أمّا على أرض الواقع فإنّ اللّيبراليّين رغم كونهم أقلّيّة فقد توفّقوا إلى فرض لائكيّة الدّولة .وطبقا لذلك يدرس التّلاميذ اليوم في المؤسّسات التّربية الحكوميّة كلّ الأديان الكبرى لا الكاتوليكية وحدها، كما أنّي رأيت في كلّ مدينة زرتها جامعا كبيرا يُبثّ منه الأذان.وقد أكد لي الإسبان الذين تحدّثت إليهم أنّ هذه الجوامع بنتها الدّولة الإسبانيّة ولم تبن بتبرّعات من دول إسلاميّة أو من مسلمين أثرياء .وكذلك شأن معابد اليهود وهياكل البوذيّين.ويبدو جليّا أنّ لانضمام إسبانيا إلى الاتّحاد الأوروبيّ دخلا في اختيارها هذا النّهج الذي سيمكّنها من ردم ماضيها المشحون بالتعصّب والتصلّب و ماضيها الاستعماريّ المثقل بالاحتلال الغاشم لتدخل الكونيّة وتنفتح على كلّ شعوب الدّنيا .

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

في إشبيلية ( 13 أوت/آب/أغسطس 2015 )

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

في مالقة 10 ( أوت/آب/أغسطس 2015 )

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

في قصر الحمراء بغرناطة (9 أوت/آب/أغسطس 2015 )

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*