محمّد صالح بن عمر : تجربة يوسف إدريس القصصيّة وإشكالية التّصنيف

يوسف-إدريس

يوسف إدريس

  تعدّ تجربة يوسف إدريس ( 1927 – 1991 )    القصصيّة    ، بلا جدال ، علامة مميّزة في تاريخ  الأدب  العربيّ الحديث عامّة وفي هذا الجنس السّرديّ خاصّة  . وذلك  لسببين رئيسين : الأوّل هو ضخامة مدوّنة هذا القصّاص التي تضمّ سبع عشرة مجموعة قصصيّة (1)  . والآخر  هو امتداد تجربته التي استمرّت قرابة الأربعين عاما ،  من نهاية الأربعينات  إلى سنة 1987 تاريخ صدور آخر  مجموعة له  . وهي بعنوان   العتب على النّظر .

   ولعلّ من أهمّ القضايا التي أثارتها هذه التّجربة  القصصيّة ولا تزال إشكاليّة تصنيفها  ضمن اتّجاهات القصّة العربيّة الحديثة والمعاصرة  . وذلك  لأنّها مرّت بمرحلتين كبريين  متباينتين   : الأولى  امتدّت من نهاية الأربعينات  أي الفترة التي خطا فيها الكاتب خطواته الأولى إلى أواخر الخمسينات وتحديدا سنة 1958 تاريخ خروجه من السّجن   والثانية من تلك السّنة إلى توقّف نشاطه الأدبيّ .

المرحلة الأولى :

   في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات – وهي الفترة التي  بدأ يكتب فيها قصصه الأولى وينشرها بمجلّة  ” روز اليوسف ”  و جريدة ” المصري ” – نجده طالبا بكلّية الطّبّ  يمارس نشاطا حركيّا قياديا حثيثا  ذا طابع ثقافيّ و سياسيّ و نقابيّ . وهو ما  تجسّد في إصداره مجلاّت ثوريّة سرّيّة ذات نزعة ماركسيّة  لعلّ أهمّها مجلّة ” الجميع ”  التي كان  يوزّعها بنفسه على الطّلبة  إلى  أن أحيل  بسببها على مجلس التّأديب وفُصل عن الدّراسة سنتين  . لكنّ ذلك لم يمنعه من أن   ينال  سنة 1952  شهادة  الباكلوريوس في الطّبّ بتقدير جيّد جدّا  ، كما  شارك  في عدّة مظاهرات ضدّ النّظام الملكيّ وحليفه المستعمر البريطانيّ واضطلع بمهامّ السّكرتير التّنفيذيّ للّجنة الدّفاع عند الطّلبة، ثم سكرتير تلك اللّجنة .  

   وقد كان لهذا النّشاط السّياسيّ النّقابيّ والثّقافيّ الكثيف أثر بديهيّ في كتاباته القصصيّة  . وفي ذلك يقول : ” أنا تقريبا من الكتّاب القليلين جدّا  في تاريخ الأدب المصريّ والعربيّ الذين نشؤوا في قلب الحركة الوطنيّة الجماهيريّة  وليس عن طريق قراءة الكتب  ”  ( 2 ) .

   ومن ثمّة فليس من الغريب أن يميل يوسف إدريس –  وهو يخطو خطواته الأولى في تلك الفترة  –  إلى اللّون الواقعيّ الاشتراكيّ . فلم يكن ذلك  الميل من قبيل المصادفة وإنّما نبع من رؤية إيديولوجيّة اعتنقها  في شبابه . وهي الرّؤية الجدليّة الماديّة التي يقوم على أساسها  الفكر الماركسيّ.

   والمعلوم أنّ المذهب الواقعيّ الاشتراكيّ في الأدب الذي نظّر له المفكّر السّياسيّ  الرّوسيّ أندريه ألكسندر  جدانوف  (Andreï      Aleksandrovitch Jdanov1896  – 1948 )  في عهد الزّعيم السّوفييتيّ ستالين (1878 – 1953 )  قد قام على أربعة أسس هي : الإيديولجيّ (   Idéinost )  والحزبي (    Partinost )  والشعبي (  Naradnost  )  والنّموذجيّ (  Tipichnost) . والمقصود بالأوّل هو أن يكون الكاتب آخذا بالنّظريّة الجدليّة الماديّة   وبالثّاني أن يكون منخرطا في الحزب  الشّيوعيّ  ، حزب الطّبقة العاملة وبالثّالث أن يسخّر قلمه في خدمة قضايا هذه الطّبقة بتصوير أوضاعها المتردّية ونضالها من أجل  الانعتاق وبالرّابع  – وهذا خاصّ بالأدب السّرديّ  – أن تكون الشّخوص الفاعلة في الحكايات المرويّة رموزا لطبقات أو فئات اجتماعيّة  لا شخصيّات شاذّة استثنائيّة أو لأنماط بشريّة عامّة  وأن تتوّج الحكايات بانتصار من يمثل تلك الطبقات والفئات وانهزام أعدائها  ( 3).

   وكان  هذا الاتّجاه قد دخل الأدب العربيّ في الفترة نفسها  تقريبا التي ظهر فيها في الاتّحاد السوفياتيّ  . وذلك انطلاقا من سوريا الكبرى  إثر تأسيس الحزب الشّيوعيّ اللّبنانيّ سنة 1934 واضطلاع مجلّتيه ” الطّليعة ” ( 1934- 1938  ) و” الطّريق ” ( 1941- 1942 )بنشر مبادئ الواقعيّة الاشتراكيّة والتعريف بأصولها الفنّيّة .

   ولقد بلغ هذا الاتّجاه أوجه في الخمسينات ، إثر قيام ثورة يونيو بمصر وما حقّقته من نجاح في التصدّي للقوى الاستعماريّة الغربيّة  بعد تأميمها لقنال السويس  سنة 1956و  شروعها في تصفية  الإقطاع . فبرز في الرّواية عبد الرحمان الشّرقاويّ  ( 1920 – 1987 )   وفي  التّنظير والنّقد الأدبيّين محمود أمين العالم  (  1922 – 2009 ) وعبد العظيم أنيس ( 1923 – 2009 )  . وحظي يوسف إدريس الشاب وقتذاك  ، رغم صغر سنّه ،  بمنزلة متميّزة  مكّنته من إصدار الأقاصيص التي كتبها قبل الثّورة في كتب . وهي أرخص الّليالي  وقاع المدينة  و المرجحّية و جمهريّة فرحات .

وهكذا فلمّا كانت الواقعيّة الاشتراكية تنصّ على وجوب جمع الكاتب بين النّضال السّياسيّ  في حلبة الواقع والنّضال بالكلمة ندرك جيّدا الدّوافع التي كانت وراء اختيار يوسف إدريس لهذا المذهب الأدبيّ منذ  بداياته دون غيره . فكانت تجربته نقطة استدلال فارقة في تاريخ هذا الجنس السّرديّ  ، على اعتبار أنّ القصّة العربيّة قبله قد تردّدت بين الرّومنسية والواقعيّة التّقليديّة  – وهو ما يُلمس بوضوح في مجمل أعمال محمود تيمور (   1894 – 1973 )  القصصيّة – ثمّ نحتْ في عصره عند مُجايله يوسف الشّاروني (  1924 ) منحى تعبيريّا تجريبيّا .

   لكنّ اختيار يوسف إدريس بداية من سنة 1952 مهنة الطّبّ التي جعلته على اتّصال دائم بالمرضى من مختلف الطّبقات والفئات وأتاحت له فرص  معاينة الإنسان على نحو متكرّر – وهو في أشدّ أحواله ضعفا أمام الألم والموت  – قد لطّف من غلواء ذلك المذهب الإيديولوجيّ المتشدّد الذي عانى منه الكتاّب والشّعراء في عهد ستالين بالاتّحاد السّوفياتيّ  ، إذ كانوا يتعرّضون للمساءلة  والعقاب وحتى للتّنكيل كلّما التفتوا ، فيما يكتبون ، إلى شؤونهم وشؤون أبناء مجتمعهم الذّاتيّة  ، بتهمة أنّ الاهتمام بتلك الشّؤون إنّما هو من شواغل  الإقطاعيّين و البورجوازيّين .

   وهكذا فقد أل الأمر بذلك القصّاص الشّابّ المتعلّق شديد التعلّق بالقيم النّضاليّة إلى التّوفيق بينها وبين القيم الإنسانيّة الكونيّة التي يستوي من منظورها كلّ البشر مهما كان انتماؤهم الطّبقيّ و حساسياّتهم الفكريّة  ومعتقداتهم الدّينيّة .

    وهكذا فلقد صوّر في قصصه الأولى   – ومنها التي أودعها  في مجموعة أرخص الليالي  – التي نشرتها له سنة 1954   “روز اليوسف ” بالاشتراك  مع دار النّشر القوميّ  – بتعاطف شديد  المعاناة  اليوميّة لأبناء الطّبقات السفلى من صغار الفلاّحين والعملة والمهمّشين  سواء في المدينة أو في القرية من أجل ضمان الحدّ الأدنى من  متطلّبات العيش الكريم    ونقل بكلّ أمانة  تخبّطها في الفقر والحرمان ومواجهتها ، على نحو مستمرّ ، للقهر والاستغلال ورزوحها تحت  كَلْكَل المعتقدات الخاطئة و نير العادات البالية  .

   لكنّه في قصص أخرى كثيرة  لاسيّما  التي  جعل أبطالها مرضى جسميّا أو نفسيّا يتوقّف عند  ضعف الكائن البشريّ ووجوده  الهشّ المهدّد في كلّ حين بالموت . فإذا لشخصيّة الطّبيب  فيها حضور مواز مؤثّر إلى جانب شخصيّة المناضل الحركيّ الملتزم .

   ففي قصّة ” نظرة ”  تُختزل الحادثة في   عودة خادمة صغيرة السنّ من الفرن إلى بيت مخدومتها وعلى رأسها  صينيّة ضخمة ثقيلة  .وفي أثناء تلك العودة ترى أطفالا يلعبون  في الطّريق العامّ . فتتذكّر طفولتها البائسة التي  ضاعت منها  ولم تتمتّع  فيها بما تمتّع به من هم في سنّها من رعاية وطمأنينة ولعب وترويح عن النّفس .

   وفي قصّة ” أسيوط ” يصف الرّاوي – وهو طبيب – حالة رجل ريفيّ بائس من أسيوط  جيء به إلى المستشفى  وهو في حالة يرثى لها  ،  خائر القوى ، متلبّد الوجه  قد سرى في قدمه المتورّمة داء الأُكَال  فيطلب منه أن يعفيه من العمليّة الجراحيّة وأن يسمح له بالعودة إلى بلدته .

   وفي قصّة ” أبو سيد ” يصاب شرطيّ المرور رمضان بعجز جنسيّ يظنّه عابرا  . لكنّه يتكرّر  فيصيبه اليأس ويتعكّر مزاجه في البيت وفي العمل ويعرض على زوجته الطّلاق لكنّها تبدي له كلّ المودّة والوفاء .وفي ذلك تصوير لمعدن المرأة الشّعبيّة الطيب الأصيل  و إخلاصها لزوجها في السرّاء والضرّاء وحرصها على تماسك العائلة في المقام الأوّل .

   وفي قصّة “حادثة شرف ” من المجموعة التي تحمل هذا العنوان  يصوّر الكاتب انغلاق المجتمع الرّيفيّ على نفسه وخضوعه لقوانينه الدّاخليّة المتوارثة  منذ أقدم العهود . فمدار الحكاية  على تعلّق أهل الرّيف المصريّ الشّديد بقيمة الشّرف إلى حدّ الهوس  . ففاطمة فتاة جميلة  كانت ، ذات مرّة  ، متّجهة إلى ” غيط  ” أخيها  ، حاملة الطّعام  . فإذا هي تبصر الشّابّ  الوسيم غريب قادما نحوها من حقل الذّرة فتصرخ من  قوّة الصّدمة ويتجمّع حولها أهل القرية ويظنّون بها الظّنون ولا يتركونها وشأنها إلاّ بعد أن تفحّصنها العجوز أمّ جورج وأكدّت  لهم أنّها سليمة لم يمسسها إنسيّ ،  مع ما في ذلك من إزعاج لها و إهانة .

   فهذه القصص – وما هي إلاّ عيّنات قليلة جدّا  نكتفي بالإشارة إليها  لضيق المجال – تنبئ عن الاتّجاه العامّ الذي انتهجه يوسف إدريس في  أدبه السّرديّ والذي جمع  فيه بين لونين كانا يعدّان  نظريّا  متعارضين لا سبيل إلى تلاقيهما عند كاتب واحد  ، إلاّ أنّه قد استطاع بفضل تجربته المزدوجة في حلبتي الحياة والواقع أن يختطّ لنفسه اتّجاها يرضي في ذاته تينك النّزعتين على نحو يبعث على الإعجاب . فإذا هو ليس بالواقعيّ الاشتراكيّ المسيّس المنضبط لتعليمات حزب معيّنة تنزل عليه من عل وما عليه إلاّ تنفيذها ولا بالإنسانيّ المحلّق في أجواء المثل المجرّدة البعيدة عن شواغل النّاس اليوميّة. وإنّما سخّر قلمه لتصوير أحوال المعذّبين في الأرض من أبناء شعبه  ، سواء في عهد الاحتلال الإنقليزيّ أو بعد الاستقلال  ،  لا من النّواحي الاجتماعيّة والاقتصاديّة فحسب بل   أيضا من جهة كونهم  ذواتٍ إنسانيّة  . وهذه – لعمرنا –   معادلة صعبة أخفق الكثيرون من الكتّاب والشّعراء في تحقيقها .

المرحلة الثانية :

    لقد غنم يوسف إدريس من ثورة يونيو ذيوع صيته وسطوع نجمه مصريّا وعربيّا  ، بفضل تتالي صدور كتبه في وقت وجيز واحتلاله مكانة متميّزة في الوسطين الثّقافيّ والإعلاميّ .

   والحقيقة أنّه  لم ينتفع  وحده بهذا الغنم وإنّما شمل التيّار السّياسيّ والفكريّ برمّته الذي كان ينتمي إليه  – وهو اليسار المصريّ  – بفضل  تحالفه مع الدّولة الوطنيّة الوليدة التي  كان يقودها الضبّاط الأحرار . وقد تجسّد ذلك التّحالف في   وقوف اليسار إلى جانب   أولئك الضبّاط  في موقفهم المناهض للامبرياليّة العالميّة التي لم تكن تنظر بعين الرّضا إلى النّظام السّياسيّ المصريّ الجديد  لاسيّما بعد إعلانه نزعته القوميّة العربيّة واتّجاهه الاشتراكيّ  ، كما تحمّس اليسار لسياسة الإصلاح الزّراعيّ التي كانت تنفّذها الدّولة   من أجل القضاء على النّظام الإقطاعيّ وتوزيع الأراضي الشّاسعة التي كان يملكها كبار الفلاّحين على آلاف الأسر الريفيّة الفقيرة المُعدِمة  . لكنّ خلافات حادّة كانت قائمة ، مع ذلك ،  بين الطّرفين أهمّها حول سياسة التّضييق الشّديد على حريّة التّعبير التي  كان يمارسها النّظام النّاصري مع المثّقفين  و  سياسته  الوحدويّة العربيّة  التي  كانت تشتّت جهود الدّولة  وتعوقها  عن التفرّغ لحلّ  مشكلات التخلّف والفقر المستشرية بالبلاد .

   وقد أدّى ذلك الخلاف  بعد فترة وجيزة إلى الزجّ بالكثيرين من اليساريّين في السّجون ومنهم يوسف إدريس  الذي اعتقل سنة 1954بسبب إمعانه في انتقاد السلطة  وقضّى في السجن أربع سنوات  . ولكنّ  ذلك الحدث لم يكن عاديّا في حياة الرّجل . بل كان له  ، على الأقل  فيما هو ظاهر ،  الأثر العميق في توجّهه الفكريّ والأدبيّ  . فما إن أفرج عنه سنة 1958 حتّى  قطع صلته ـ على نحو غير منتظر ،  باليساريّين  وبدا في مواقفه مواليا للنّظام القائم   . أمّا في كتاباته السّرديّة  والمسرحيّة فقد تخلّى  عن  تصوير أوضاع الفئات الفقيرة والمهمّشة ،   طالعا على القرّاء بنمط من الكتابة جديد يغلب عليه العبث والانقطاع  عن الواقع   والإيغال في الرّمزيّة سمّاه  بعضهم  ” الآفاق العالميّة ” وآخرون ” النّزعة الإنسانيّة ”   ، على حين أطلق عليه هو تسمية ” القصّة التّعبيريّة ” .

   ومن أبرز القصص  التي جسّد فيها هذه النّزعة  تلك التي أودعها في مجموعته  النّداهة ( 1970 )   . ففي إحدى قصص هذه المجموعة – وهي بعنوان ” المقعرة ”  –   مثلا ،  يجرّد البطل من كلّ ملامحه الخارجيّة  وحتى من اسمه ،  مكتفيا برصد بعض حركاته وسكناته ونَقْل أقوالٍ له يُفهم منها أنّه يجسّم أنموذج الإنسان الذي لا يبادر بصنع الحدث بل  يظلّ ينتظر وقوع أحداث مّا  تدفعه على التّحرّك وإذا لم تقع مثل تلك الأحداث  فإنّه يبقى  ملازما لوضعه  إلى أن يأتيه الموت  ،  كما نحا منحًى  مماثلا في مسرحتي  الفرافير ( 1964 )   و المهزلة الأرضيّة  ( 1966 )   .

   والحقيقة أنّ هذا اللّون من الكتابة لم يكن جديدا بمصر . فقد سبق إليه يوسف الشّاروني  ( ولد سنة 1924 ) منذ الأربعينات .وهو من تأثير الأدب السّرديّ والمسرحيّ الوجوديّ الذي ازدهر منذ ثلاثينات القرن العشرين في الغرب وكان من أبرز أعلامه جان بول سارتر ( Jean Paul Sartre 1905 – 1980  )  وألبار كامو  ( Albert Camus 1913 – 1962  ) .

   وممّا  علّل به يوسف إدريس  انتقاله إلى هذا الضّرب من الكتابة أنّ  ” تجسيد الشّخصيّة المصريّة ليس غاية في حدّ ذاته  إنّما الغاية هي الإنسانيّة الشاملة أو نواحي الإنسانيّة الشّاملة في تلك الشّخصيّة ” . أمّا في ما يخصّ الاشتراكيّة فقد ذهب إلى أن ” لا بدّ من ثورة بعد الاشتراكيّة ”   ( 4 ).

   ولقد اختلف النقّاد في تأويلهم لهذه النقلة . فمنهم  من عدّها ” تطوّرا ” ومنهم من اعتبرها ” رِدّة ” ومنهم ذهب إلى أنّها  “تقيّة  ” .

    فهل قام الكاتب بنقده الذّاتيّ  وهو في السّجن ؟ أم هل ساومه النّظام السّياسيّ وحصل منه على تعهّد بالتخلّي عن انتقاده ؟ أم هل  غيّر أسلوبه في الكتابة  من باب التخفّي ؟

    فأن يكون قد تخلّى عن مذهبه الشّيوعيّ ليعتنق المذهب القوميّ العربيّ الناصري  أمر مستبعد جدّا  . ولعل الذي حصل هو أنّه كان  ككل اليساريّين في السّنوات الأولى التي عقبت الثّورة  يأمل أن يتطوّر النّظام الجديد إلى نظام اشتراكيّ بالمفهوم الماركسيّ  . فقد صرّح سنة  1984 قائلا : ” كنت أومن بالنّاصريّة لكنّي تساءلت  : لماذا أنت السيّد وأنا العبد ؟  ” وبأنّ ” التّجربة النّاصرية كانت فوقيّة مرتبطة بحياة زعيم وبفئة محدودة من الأشخاص ” والحال أنّ ” نجاح أيّ فكرة مرتبط ارتباطا وثيقا بتحوّل هذه الفكرة من فكرة شخصيّة إلى فكرة شعبيّة يتبنّاها ويناضل من أجلها حزب شعبيّ حقيقيّ ”  ( 5 ).

   لكن متى آمن بالنّاصريّة ؟ قبل دخوله السّجن أم بعده ؟  وتقويمه هذا لها  إنّما هو من زاوية  نظر ماركسيّة  صريحة .  وهو ما يزيد في تعقيد لغز  هذا التحوّل الذي طرأ على تجربته بعد خروجه من السّجن .

***

نظرة إجمالية إلى تجربة يوسف إدريس القصصية :

   إذا نظرنا الآن نظرة جُمْليّة إلى تجربة يوسف إدريس القصصيّة بمرحلتيها المتباينتين  ملنا إلى الاعتقاد أنّ الإشكاليّة التي أثارها  تحوّله بعد خروجه من السّجن  من الناحية الأدبيّة والتي لم تفتأ منذ ذلك الحين  تثير النقاش والجدل  إشكالية مفتعلة . وذلك للأسباب الثلّاثة التّالية :

  • إنّ النّقلة التي طرأت على هذه التّجربة بعد سنة 1958 لم تكن شاملة . وذلك لأنّ النّزعة  الإنسانيّة الخالصة التي وسمتها في المرحلة الثّانية كانت حاضرة في قصص الكاتب  منذ بداياته  في أواخر الأربعينات  .  ومن ثمّة فإنّ الذي حصل إنّما هو تمحُّضُ تجربته لهذه النّزعة في المرحلة الثّانية بعد أن كانت مزدوجة : واقعيّة اشتراكيّة وإنسانيّة  في المرحلة الأولى .
  • إنّ يوسف إدريس لم يكن الكاتب المصريّ الوحيد الذي وقف بعد سنة 1958 ضدّ الواقعيّة الاشتراكيّة . فقد تعرّض هذا الاتّجاه إلى انتقاد شديد لاسيما من قبل أدباء الستّينات الذين روا فيه إغراقا في المثاليّة وابتعادا كلّيّا عن الواقع وسقوطا في رفع الشّعارات الإيديولوجيّة الرنّانة على حساب الفنّ  . وهو ما أدّى إلى انتشار الرّداءة والإسفاف  اللّذين تجسّدا في استخدام الخطاب المباشر ومنح الأولويّة المطلقة لتبليغ الأفكار والتّعبير عن المواقف .

    فسياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا  قد نشأت  بعد ثورة يونيو شيئا فشيئا  طبقة بيروقراطيّة طفوليّة تتكلّم باسم الثّورة والشّعب  لكنّها  كانت ، في واقع الأمر ،  تتمتّع بامتيازات ومنافع كبرى ، حالّة بذلك  ، على نحو مّا ،   في محلّ الطّبقة الإقطاعيّة المنهارة  ، على حين لم  يطرأ على أوضاع الكادحين والمهمّشين أيّ تغيير محسوس  . وهو ما يجعل الإشادة بنضال تلك الفئات المسحوقة ،  مثلما تنصّ عليه الواقعيّة الاشتراكيّة ، متضاربا مع الواقع  ، خاصّة أن هذا المذهب كان المذهب الرّسميّ لمثقّفي السّلطة .

    وقد أدّى هذا الوضع  ، بداية من أوائل الستّينات ، إلى ظهور  تيّار مضادّ لها عُرف ب”الواقعيّة الجديدة”  قاده أدباء من  الجيل  الجديد  عُرفوا ب” جيل الستّينات ”  واتّجه إلى تعرية التّناقضات  الجديدة  ونقد النّتائج السّلبيّة التي تولّدت عنها   .ومن أهمّ أعلامه يحي الطّاهر عبد الله و جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم ويوسف القعيد وعبد الرحمن الأبنودي .

  • إنّ السّبب الرّئيس في إثارة هذه الإشكاليّة هو ، في تقديرنا ، خلط الذين أثاروها بين السّياسيّ والإبداعيّ . فأن يمارس كاتب أو فنانّ  ما السّياسة لا يعني ضرورةً تأثير أحد هذين النّشاطين في الآخر على نحو آلي  . وهو ما كان يوسف إدريس واعيا به كلّ الوعي . فقد صرّح في هذا الصّدد بأنّ ” الأدب السّياسيّ ليس أدبا ولكنّه دعاية سياسيّة ”  وبأنّه ” في عزّ إيمانه بالماركسيّة  ” حين  “كان يجب أن يكتب عن الواقعيّة الاشتراكيّة ”  لم يفعل ذلك  ” تمرّدا منه على هذه الفكرة ” ( 6 )  . وهنا يكمن الفرق الجوهريّ بين السّياسيّ والأديب أو الفنّان  .  فالأوّل منضبط  لمبادئ صارمة لا يحيد عنها إلاّ للمناورة أو لغرض تكتيكيّ . أمّا الأديب  – ومثله الفنّان – فهو شخصيّة متمرّدة ،  ديدنه البحث الدّائم عن الحقيقة من جهة وعن الأشكال التّعبيريّة الأقدر على إدهاش المتلقّي ونيل إعجابه  من جهة ثانية  . وفي هذا يقول : ” أنا إنسان محدود النّظر بحكم إنسانيّته وباحث بحكم مهنتي ككاتب . لذلك فمن الطّبيعيّ أن أصادف من خلال هذا البحث عن الحقيقة والأصالة أكثر من فكرة وأكثر من رأي . ومن الطّبيعيّ أيضا أن أتعرّف على هذه الأفكار وأتفاعل معها  بل أومن بما تحتويه من إيجابيّات وأدعو الآخرين إلى الإيمان بها  ،  كما أعمل على كشف حدود هذه الأفكار وسلبياّتها لأتمرّد عليها  وأدعو الآخرين إلى التمرّد عليها . وفي النّهاية أستطيع القول إنّي لست ديمقراطيّا ليبراليّا فقط بل إنّي متطرّف في المطالبة بالحرّية الكاملة المطلقة لأنّي رافض للدكتاتوريّة النّظريّة أيّا كانت هذه النّظريّة  ”  ( 7 ) .

خاتمة  :

   يتبدّى لنا إذن أنّ يوسف ادرس القصّاص مستقلّ  كلّ الاستقلال عن يوسف إدريس السّياسيّ بل متمرّد عليه  . فحين يكتب يغوص في أعماق إنسانيّته لينشئ أدبا سرديّا كونيّا حتّى إن كان منطلقه الواقع المصريّ . ومن هذه الإنسانيّة جاء في مرحلته الأولى إلى الواقعيّة الاشتراكيّة لا العكس  . وحين فاض الدّفق الإنسانيّ في كيانه ولم تعد تلك الرّؤية الإيديولوجيّة قادرة على  تأطيره  و احتوائه  والتّعبير الدّقيق عنه  تركها جانبا ليواصل مسيرته حرّا طليقا  بمنأى عن كلّ القوالب والتصوّرات المسبّقة المجهّزة .

الهوامش :

  • تتألّف مدوّنة يوسف إدريس القصصيّة من المجموعات التّالية :

أرخص ليالي ، سلسلة “الكتاب الذهبي”، روز اليوسف ودار النّشر القوميّ، القاهرة 1954.

جمهورية فرحات ، قصص ورواية قصّة حبّ، القاهرة، تقديم : طه حسين سلسلة “الكتاب الذّهبيّ” روز اليوسف، القاهرة  1956

حادثة شرف، دار الآداب  ، بيروت و عالم الكتب ، القاهرة 1958.

أليس كذلك؟، مركز كتب الشّرق الأوسط ، القاهرة  1958. وصدرت بعدها ( د.ت )  تحت عنوان قاع المدينة عن الدّار نفسها.

آخر الدنيا، سلسلة “الكتاب الذّهبيّ” روز اليوسف، القاهرة 1961.

العسكري الأسود ، دار المعارف، القاهرة 1962  – دار الوطن العربيّ، بيروت 1975 مع رجال وثيران والسيّدة فيينا.

قاع المدينة ، مركز كتب الشرق الأوسط ، القاهرة 1964.

– لغة الآي آي ، سلسلة “الكتاب الذّهبيّ” ، روز اليوسف، القاهرة 1965.

– النداهة ، سلسلة “رواية الهلال”، دار الهلال، القاهرة 1969 –  ط2 بعنوان مسحوق الهمس، دار الطّليعة، بيروت 1970.

بيت من لحم، عالم الكتب، القاهرة 1971 .

المؤلفات الكاملة، القصص القصيرة، ج 1  ، عالم الكتب، القاهرة 1971.

ليلة صيف ، دار العودة، بيروت د.ت. والكتاب  برمّته مقتبس من مجموعة أليس كذلك؟

أنا سلطان قانون الوجود ، مكتبة غريب، القاهرة 1980.

أقتلها، مكتبة مصر، القاهرة 1982.

العتب على الّنظر ، مركز الأهرام، القاهرة   1987 .

  • مفكّرة يوسف إدريس، مكتبة غريب، القاهرة 1971 ص 31.
  • وليمز ( ريموند ) ، الواقعيّة والرّواية المعاصرة ” ، تعريب : عبد الواحد محمّد ، مجلّة ” الأقلام ” عدد 11 ، بغداد أوت 1980 ص ص 206 – 207
  • مفكّرة يوسف إدريس ص 72
  • الثّقافة العربيّة بين الأصالة والمعاصرة ، حوار مع يوسف إدريس أجرته نعيمة جنينة ، مجلّة ” المستقبل العربيّ ” ( 134 – 145 ) ص  138
  • نفسه ص 137
  • نفسه ، الصفحة نفسها .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*