أصالة المبنى ولطافة المعنى في شعر جلال الدّين النّقّاش ( 1910 – 1989): نصّ المحاضرة التي ألقيتها يوم 30 سبتمبر/أيلول 2019بمدينة الثّقافة في النّدوة التي انتظمت لإحياء الذّكرى الثّلاثين لوفاة هذا الشاعر : محمّد صالح بن عمر

 

نُنبّهُ منذ البدء على أنّ هذه الدّراسة تقريبيّة لا غير، لأنّها ترمي إلى تقليب النّظر في بعض العيّنات من شعر جلال الدّين النّقّاش، لا في مجموع القصائد التي تركها.وهو ما سيجعل النّتائج التي تفضي إليها نتائج أوّلية مؤقّتة في انتظار صدور ديوانه الكامل والاطّلاع عليه.

ومنذ البداية أيضا لا يسعنا إلاّ أن نعترف ، من وجهة نظر نقديّة بحتة، أي  بمعزل عن أي اعتبار آخر مهما كان، بأنّ هذه النّدوة التي تلتئم اليوم احتفاء بالذّكرى الثّلاثين لوفاة هذا الشّاعر بالغة الأهميّة ، لا في حدّ ذاتها بل  لأنّه قُصِدَ بها  نفضُ الغبار عن آثار واحد من مجموعة شعراء تونسيّين وافرة العدد لحقهم الضّيم وعصف بهم النّسيان من جرّاء سكوت الغالبيّة الغالبة من النّقاد على  مدوّناتهم ، على الرّغم من أنّهم وسموا حقبة  طويلة من تاريخ الشّعر التّونسيّ  في العصر الحديث،امتدّت  من نهاية القرن التّاسع عشر إلى ثمانينات  القرن العشرين ،لعلّ  من أبرزهم  مصطفى آغا ( 1877 – 1936) ومحمّد العربي الكبّادي (  1880 – 1961) والشّاذلي خزندار (1881 – 1954) و الطّاهر القصّار (1899  – 1988) والشّاذلي عطاء الله (1899  – 1991  )  و محمّد فائز القيروانيّ (1902 – 1953 ) والصّادق مازيغ(1906 – 1990)  وأحمد المختار الوزير (1912 – 1983) ومحمّد الهاشمي زين العابدين (1922 – 2008) ومحمّد الشّعبوني (1928  – 1992)ومحمّد مزهود (1929 – 2003) .وهو ما قد يجعل هذا اللّقاء الاحتفائيّ بواحد من هؤلاء الشّعراء وأمثالهم  فرصة ليراجع النّقّاد التّونسيّون أو بعضهم على الأقلّ موقفهم من اتّجاه شعريّ كامل كادوا  يهملونه ويحكمون عليه بالإلغاء.

وإذا بحثنا عن السّبب الذي جعل المعظم الأغلب من النّقّاد التّونسيّين –   ومنهم صاحب هذا الفصل  – لا يلتفتون إلاّ نادرا إلى هذا الصّنف من الشّعراء بعد ستّينات القرن العشرين ، أمكننا إرجاعه إلى أخذهم بتصوّر معيّن للأدب كانت له ولا تزال الغلبة شبه المطلقة في تونس بداية من تلك الفترة .وهو أنّ الأدب الرّاقي إنّما هو الذي يستوعب روح عصره فتتجسّد فيه على صعيدي الشّكل والمحتوى معا.وهو ما لا يتوفّر في الشّعر التّقليديّ  الذي فيه يتقيّد أصحابه بمواصفات القصيدة التّراثيّة ويلتزمون بمعايير الفنّ الشّعريّ التي كان يأخذ بها الأقدمون  شعراء ونقّادا.

لكنّ هذه الفكرة التي استندت  إلى مفهومي الحداثة والتّحديث ، ذينك المفهومين الإشكاليّين اللّذين هيمنا على الشّعر الفرنسيّ خاصّة والغربيّ عامّة منذ أواسط القرن التّاسع عشر ثمّ عند العرب بدءا من دخول الرّومنسيّة ثقافتهم في أوائل القرن العشرين ، آخذة  اليوم في التّراجع عند الغربيّين أنفسهم.وهو ما يمكن معاينته  في اتّجاههم اليوم على نحو متزايد  إلى تقويم الشّعر في حدّ ذاته أي  بالنّظر في  مدى استجابته لشروط اللّون الذي كُتِب فيه .وهو ما جعل الشّعر الكلاسيكيّ والشّعر الرّومنسيّ والشّعر الملتزم والشّعر السّرياليّ  والشّعر التّجريبيّ  وفي مستوى آخر القصيدة الموزونة وقصيدة النّثر والنّصّ الشّعريّ المنثور وغيرها من ألوان القريض تتعايش في محيط أدبيّ واحد .بل قد يكتب الشّاعر الواحد منهم  في لونين أو أكثر من هذه  الألوان .وذلك على اعتبار أنّ الأساس في الفنّ عامّة ومنه الشّعر والنّثر الأدبيّ إنّما هو  امتلاك الفنّان أو الكاتب أو الشّاعر حساسية جماليّة مرهفة تلوح بصماتها جليّة في الأثر  الذي ينشئه .فإذا وُجدت لديه تلك الحساسية  – وهي ولاديّة وجِبِلّيّة ولا سبيل إلى اكتسابها بالتّحصيل والمِراس وحدهما –   كان قادرا على بلوغ  درجة التّميّز.أمّا إذا حُرم منها – وما في حرمان المرء منها أيّ عيب ، إذ ليس من الضّروريّ أن يكون كلّ هوّاة الفنّ والكتابة الأدبيّة  مبدعين وعباقرة- فإنّه لا يستطيع إلاّ إنشاء نصوص عاديّة .و كلّ ما هو عاديّ في الفنّ رديء بطبيعته.

وهكذا لم يعد من المقبول اليوم التّعلّل ب”الحداثة” لنفي الإبداع عن كلّ أثر فنّيّ أو أدبيّ سلك صاحبه في إنشائه النّهج التّقليديّ ،إذ الكثير من النّصوص التي ينسبها أصحابها إلى الحداثة  لا جمال فيها ولا ألق البتّة .وذلك أنّ الحداثة إذا كانت مطلوبة بإلحاح  في العلم والتّكنولوجيا، باستيعاب آخر المفاهيم المعرفيّة وهضمها  وباستخدام أحدث  الآلات والأجهزة في جميع ميادين النّشاط البشريّ فهي لا تعني في حدّ ذاتها شيئا البتّة  في مجالي الفنّ و الأدب حيث يبقى ميل الفنّان  أو الأديب ومثلهما   المتلقّي في المقام الأوّل وفي كلّ الأحوال إلى هذا اللّون أو ذاك  محكوما بدوافع ذوقيّة مزاجيّة. أولم يكن لينين من عشّاق الفنّ الكلاسيكيّ؟ وألم يكتب ماو تسي تونغ الشّعر على بحور صينية قديمة  ظهرت منذ أكثر من ألفي سنة ؟

وفي هذا السّياق قد سبق لي شخصيّا منذ أربع سنوات أن شهدت بقصر الأوبرا بفيينا عاصمة النّمسا حفلا في الموسيقى الكلاسيكيّة . فبهتّ لامتلاء القاعة بهوّاة هذا الفنّ وقد قدم الكثيرون منهم لحضوره من مختلف أنحاء أوروبا بل  حتّى من الولايات المتّحدة الأمريكيّة والكندا .ولنفاد التّذاكر نُصِبتْ حول قصر الأوبرا شاشات ضخمة بُثَّ عليها الحفل بثّا مباشرا  لتمكين المتفرّجين الذين لم يحصلوا على تذاكر للدّخول من متابعته.وكان أعداد أولئك بالمئات بعضهم جلوس وبعضهم وقوف.

هذه المقدّمة الطّويلة بعض الشّيء ضرورية ،علّنا نسهم بها في نزع  فكرة خاطئة علِقتْ ولا تزال ببعض الأذهان وأضحتْ بمنزلة الحقيقة البديهيّة – وهي  أنّ الإبداع الفنّيّ والأدبيّ يتوقّف على التّجديد – لنُحلّ محلّها فكرة أخرى أوثق  صلة بالواقع وأقرب إلى المعقول هي أنّ الإبداع  ومثله الرّداءة يمكن أن يوجدا ( والرّديء  ليس الضّعيف – فذلك لا يُلتفتُ إليه – وإنّما هو العاديّ الذي لا يحرّك في المتلقّي ساكنا)  مهما كان النّمط الذي يختار المؤلّف الكتابة فيه.

لكلّ هذا لتكنْ هذه النّدوة عندئذ  منطلقا لردّ الاعتبار للشّعراء التّونسيّين التّقليديّين المهمّين الذين كانوا يُنعتون في زمانهم ب”الفحول ” قبل أن يُلقى بهم في مهاوي النّسيان .ويكون ذلك طبعا بالانكباب على مدوّناتهم الشّعريّة بحثا وتحليلا وتشريحا  قصد الوقوف على جوانب الطّرافة والتّميّز فيها .وهي ،على حدّ معرفتنا بها، غير خالية منها.

I – منزلة الشّاعر جلال الدّين النّقّاش  من أدباء  جيله :

انطلقت تجربة جلال الدّين النّقّاش الشّعريّة في بداية الثّلاثينات. و في تلك الفترة و حتّى الاستقلال كان الأدباء التّونسيّون يتوزّعون إجمالا على أربعة أصناف هي:

1 – أدباء درسوا بجامع الزّيتونة و حصلوا على شهاداته وأضحوا يجسّدون في ما يكتبون نوع التّكوين الذي تلقّوه فيه .ومن هؤلاء مثلا  جلال الدّين النّقّاش والطّاهر القصّار  ومحمّد العربي الكبّادي.

2 – رأدباء زاولوا دراستهم بالمدراس الفرنسيّة العربيّة ثمّ بدار المعلّمين أو بكلّيات أجنبيّة، منهم محمّد الحليوي والصّادق مازيغ ومحمّد فريد غازي ومحمود المسعدي.

3 – أدباء فشلوا في دراستهم ،سواء بجامع الزّيتونة أو بالمدارس الفرنسيّة العربيّة فتكوّنت منهم  تلقائيّا مجموعة من البوهيميّين كانوا يتردّدون على مقهى “تحت السّور” بتونس العاصمة فسُمّوا ب”جماعة تحت السّور” ،منهم علي الدّوعاجي  ومحمّد العريبي ومصطفى خريّف وعبد الرّزّاق كرباكة .

4 – أدباء أكملوا دراستهم بجامع الزّيتونة لكنِ انشقّوا عن خطّه الرّسميّ ، أبرزهم أبو القاسم الشّابّي والطّاهر الحدّاد.

ولقد كان جلال الدّين النّقّاش من الفئة الأولى أي مثقّفا زيتونيّا، رسميّا، ضليعا في اللّغة العربيّة الفصيحة والثّقافة العربيّة الإسلاميّة التّراثيّة. وحتّى في لباسه قد حافظ على زيّه التّقليديّ الماثل في الجبّة والعمامة حتّى وفاته في نهاية الثّمانينات ،  كما كان وحيد اللّغة كمعظم الزّيتونيّين .و هي عوامل تضافرت  لتجعل منه شاعرا تقليديّا.فما هي أهمّ مظاهر التّقليد في شعره؟

II -مظاهر التّقليد  في شعر جلال الدّين النّقّاش :

يظهر التّقليد عند جلال الدّين النّقّاش في عنصرين رئيسين:

1 – ملازمته عمود الشّعر و تقيّده بزحافاته وعلله وقوافيه طيلة مسيرته الشّعريّة التي امتدّت على قرابة السّتّين عاما وانضباطه التّامّ لدقائق البحور الخليليّة المفصّلة في كتب العروضيّين القدامى .فلم يغره ولو مرّة طيلة مسيرته الشّعريّة الشّعر المنثور الذي كتب فيه أبو القاسم الشّابي منذ أواخر العشرينات عدّة نصوص ملأت ديوانا كاملا (1) ثمّ من بعده أبو القاسم محمّد كرو في بداية الخمسينات(2) ولا الشّعر الحرّ الذي دخل الشّعر التّونسيّ في بداية الخمسينات.

2 -كتابته في جلّ الأغراض القديمة و خاصّة منها المديح والرّثاء والغزل  وشعر المناسبات والإخوانيّات. وهي أغراض يمتنع عن الكتابة فيها مبدئيا أيّ شاعر ينظر إلى الشّعر على أنّه تجربة مع اللّغة والوجود و لا يتحرّج من طرقها إلاّ الذين يعدّون الشّعر صناعة بالمفهوم التّراثيّ .ومثل ذلك  إقباله على كتابة الأناشيد والقصص الشّعريّة الموجّهة إلى الأطفال. وهذا ما يدلّ دلالة واضحة على أنّه كان يوظّف قدرته على النّظم في تناول موضوعات شتّى لا يكاد بعضها يمتّ بصلة إلى بعض ككلّ الشّعراء النّظّامين.

وأشهر قصيدة كتبها باب المديح هي النّشيد الرّسميّ الوطنيّ الذي  جمع فيه بين التّغنّي بأمجاد الوطن ومدح الزّعيم الحبيب بورقيبة . وأوّل مقطع منها :

ألاَ خلّدي يا دمانا الغوالي ***جهادَ الوطنْ

لتحريرِ خضرائِنا لا نبالي *** بأقسى المحنْ

          جهادٌ تحلّى بنصرٍ مبينْ

على الغاصبينْ  على الظّالمينْ   طغاةِ الزّمنْ

نخوضُ اللّهيبْ  بروحِ الحبيبْ  زعيمِ الوطنْ

ومن أمثلة فصائده في باب الرّثاء القصيدة  التي ألقاها في موكب دفن الشّاعر مصطفى آغا (3). و التي يفتتحها كالآتي :

بنتَ الخيالِ قضى الحبيبُ فودّعي *** اليومُ يومُكِ فاندُبي وتفجَّعي

ما أنتِ ملمهةُ البيانِ لآغةٍ  *** وعروسُ خاطرِهِ إذا لم تفزَعي

هجعَ الأليفُ فلا انتباهَ لطرفِهِ ***  فعليكِ بعد الإلفِ أنْ لا تهجَعي

وأخرى كتبها بمناسبة وفاة المخرج المسرحيّ التّونسيّ عليّ بن عيّاد وقد  حصلنا على  نسخة منها بخطّ الشّاعر (4).وقد صدّرها بهذه الأبيات :

هنا ودّعَ الفنُّ في موكبٍ *** من الدّمعِ آمالََهُ الضّائعةْ

عليُّ بنُ عيّادٍ في لحدهِ *** يؤلّفُ مأساتَهُ الرّائعةْ

بباريسَ بالفنِّ هامَ وفيها *** طوتْهُ نهايتُهُ الفاجعةْ

أمّا قصائده الغزليّة فهي تدور، بوجه عامّ، في فلك الشّعر الغزليّ العربيّ القديم سواء منه الإباحيُّ ، كما هو عند عمر بن أبي ربيعة وبشّار بن برد  أو العاطفيّ الصّادق كشعر ابن زيدون في ولاّدة  لكن  مع البقاء دائما في حدود تصوير العواطف بلغة غالبا ما تكون صريحةً و دون أن تشغل الشّاعرَ في اختيار مفرداتها وعباراتها فكرةُ الإيحاء أو فكرةُ العدول في  عن السّائد .

فمن اللّون الأوّل قوله في قصيدة بعنوان” الثّغر المقدّس”(5):

ابسَمي يا مناي ما أعذبَ البسمةَ في ثغرِكِ الصّبوحِ الشّهيِّ

ابسَمي إنّ في ابتسامِكِ سحرًا  يغمرُ القلبَ بالهوى القُدُسيِّ

ومن اللّون الثاّني هذه الأبيات من قصيدة له عنوانها:”حنين”(6). والحنين ، كما هو معلوم، من الموضوعات الرّئيسة في الشّعر الذي قاله ابن زيدون في ولاّدة:

أوّاهُ إنّي قد سئمتُ العيشَ في دنيا الغرورْ

يا رُبَّ ليلٍ قد سهرتُ وفيهِ طيفُكمُ السّميرْ

للهِ ذو الطّيفِ منكمْ فهو عن بعدٍ يزورْ

بالعهدِ كان مُذّكَّرًا  والقلبُ بالذّكرى خبيرْ

ومنها قولُه :

حيثُ البقاءُ  يُظِلُّنا والدّهرُ مبتسمُ الثّغورْ

والبدرُ في كبدِ السّماءِ إلى سعادتِنا يسيرْ

عهدٌ تقضّى لستُ أدري هل يعودُ له نظيرْ؟

ولجلال الدّين النّقّاش أيضا عدّة قصائد من  جنس شعر المناسبات كهذه القصيدة التي قالها بمناسبة تأسيس شعبة دستوريّة تابعة للعدليّة (7) والتي قال فيها:

لولاَ شبابٌ من بني أمّتي***أحسستُ منهمْ هزّةَ الشّاعرِ

لولاَ نفوسٌ منها أشرقتْ   *** تعبّدُ المنهاجَ للسّائرِ

صوتُ الضّميرِ الحرِّ فلينطلقْ *** من الشّبابِ الحازمِ القادرِ

وممّا قاله في باب الإخوانيّاتِ هذه الأبياتُ  التي نظمهَا لتهنئةِ صديقٍ رُزق مولودا جديدا(8):

لمّا أتيتُ مهنّئًا ***  بقدومِهِ من وحيِ فنّي

قالتْ لي الأمُّ استمعْ *** نظمتُ بِشارةً لبُنَيّ

إن رمتَ تاريخًا لهُ *** يا ابنَ الكرامِ فخذْهُ عنِّي

أنا أمُّهُ أرّختُهُ  *** باكورةَ الزّهراتِ منّي

إنّ السّمات المشتركة بين هذه الأمثلة القليلة المقتطفة من قصائد متفرّقة لجلال الدّين النّقّاش نظمها في مناسبات شديدة التّباعد هي ، بوجه عامّ، فصاحة اللّغة ومتانة العبارة وجزالة اللّفظ وتمكُّنُ صاحبها من الصّناعة العروضيّة ،مع حسن استخدامٍ لأساليب تخريج الكلام وفق ما يناسب المقام من خبر وإنشاء ووصل وفصل وتقديم وتأخير وغيرها و تحلية السّياق اللّفظيّ بصنوف من وجوه  تحسين الكلام من تشابيه ومجازات وكنايات .وهو ما يحتاج  وحده إلى وقفة مطوّلة لا تتّسع لها هذه القراءة ذات الطّابع الشّموليّ .وهي كافية عمليّا للحكم ، لا فقط بانتماء جلال الدّين النّقّاش إلى الاتّجاه  التّقليديّ أو الكلاسيكيّ أو الإحيائيّ – وهي كلّها بمعنى واحد –  بل إلى الصّفوة من ممثّلي هذا الاتّجاه في تونس .ولإدراك قيمة هذا اللّون من ألوان الكتابة الشّعريّة  ينبغي ألاّ ننسى أنّه كانت في تونس  حتّى السّبعينات على الأقلّ نخبة وافرة العدد من المثقّفين الأحاديّي اللّغة لا يتقنون إلاّ اللّغة العربيّة تخرّجوا في جامع الزّيتونة وفروعه حيث تلقّوا تكوينا تراثيّا متينا معمّقا.لذلك فمن الطّبيعيّ أن تكون لهؤلاء  ذائقة شعريّة قديمة وأن يتجاوبوا كلّ التّجاوب مع الشّعر  التّقليديّ .وقوام تلك الذّائقة  الميل إلى الشّعر والنّثر الفنّيّ اللّذين يمتازان بمتانة اللّغة ،الماثلة في  فصاحة الألفاظ طبقا للشّروط التي حدّدها مؤلّفو القواميس العربيّة التّراثيّة و في سلامة العبارة  وفقا لما قرّره النّحاة العرب القدامى وفي جماليتها التي ضبط مقاييسها البلاغيون باستقرائهم وجوه البيان والبديع والمجاز والكناية في القرآن الكريم والمدوّنة الشّعريّة  القديمة.ويعني ذلك أنّ استساغة الشّعر التّقليديّ ليست في متناول أيّ كان وإنّما هي مشروطة  بامتلاك  الفرد ثقافة مخصوصة.وهذه الثّقافة  أخذت – والحقّ يقال-  في التّناقص بدءا من أوائل السّبعينات نتيجة للتّخلّي عن التّعليم الزّيتونيّ وتعميم التّعليم المزدوج في مرحلتي التّعليم الابتدائيّ والتّعليم الثّانويّ.

لكلّ  ذلك لا بدّ من الاعتراف بأنّه توجد ذائقة شعريّة قديمة إلى جانب الذّائقة الشّعريّة الحديثة و الذّائقة الشّعريّة الحداثيّة وبأنْ لا مجال للمفاضلة بينها لأنّ الذّوق جزء لا يتجزّأ من شخصيّة الفرد فلا يمكن عندئذ مؤاخذته عليه أو حمله على استبداله بذوق آخر. وإنّما تكون المفاضلة بين الرّفيع والرّديء في الأثر الذي ألّفه هذا الشّخص أو ذاك دون اعتبار للّون الذي اختار أن يكتبه فيه.وبذلك يكون التّقويم الموضوعيّ للشّعر التّقليديّ بالنّظر إليه في ذاته أي في إطار القواعد والقيم الجماليّة التي تحكمه وباعتماد المعايير التي  حدّدها القدامى لتمييز جيّده من سقيمه  ما دام المثل الأعلى الذي ينزع إليه أنصاره شعراءَ ومتلقّين هو  الشّعر الذي أجمع القدامى على أنّه رفيع. لذلك كلّ شعر أشبهه في العصر الحديث  كان عندهم  مقبولا مستساغا، لأنّ  للأصالة كما للحداثة هوّاتها وعشّاقها.

III – مظاهر التّجديد في شعر جلال الدّين النّقّاش :

على أنّ جلال الدّين النّقّاش وإن كان في الأمثلة التي أوردناها شاعرا تقليديّا دون أدنى خلاف  – وذلك  لأنّ الشّاعر غير التّقليديّ لا يسمح لنفسه أبدا بطرق  مثل الأغراض التي طرقها فيها  ، فإنّ تصنيفه في هذه الخانة وحدها غير مطابق للواقع ، لأنّ  للرّجل  في الوقت نفسه  قصائد أخرى نشرها في الدّوريات – وليست في ما يبدو بالقليلة وإن كنّا لا نعرف نسبتها الحقيقيّة إلى مجموع  القصائد التي  كتبها في حياته – عدل فيها تماما عن هذا النهج أسلوبا ومحتوى إلى ضرب من الشّعر  أقرب إلى اللّون الغنائيّ .وهذا ما جعلني أقدّمه في مختاراتي الشّعريّة التي صدرت سنة 1990عن مؤسّسة”بيت الحكمة”  كالآتي : ” ولد بتونس سنة 1910 وتوفّي بها  في 30 أفريل سنة 1989 . زيتونيّ التّكوين .شاعر غنائيّ يمتاز شعره بالرّقة وشفافية الصّورة .لولا وطنيّاته التي يغلب عليها الافتعال لحكمنا بانتمائه إلى المدرسة الكلاسيكيّة الجديدة ” ( 9).بل إنّنا نجده في إحدى قصائده يشير صراحة إلى تعلّقه بهذا اللّون  الجديد من الكتابة.وهي قصيدة  بعنوان” انظروه خالدا”(10) أبّن بها أبا القاسم الشّابّي وصاغها على هيئة بيان شعريّ  .ومنها قوله :

من هنـاكَ استقى أبو القاسمِ الوحــيَ فأحيا  مشاعرًا وعقولاَ

لم يـــــــلدْهُ القديمُ بل ثارَ جبّارًا على العصـــرِ ينشدُ التّحويلاَ

هامَ أهلوهُ بالمآثرِ حتّى      ***  كربوا يعبدونَ تلكَ الــطّلولَ

فدعاهمْ إلى التّحرّر لمّا     ***  وجدَ الشّعرَ بينهمْ مــغلولاَ

وأتاهمْ بالبيّناتِ اللّواتي     ***  وردوا من حياضِـها سبيلاَ

نفخَ اليـقظةَ التي كرهتْها   ***  أنفسٌ تستلذُّ نومًا طويــلاَ

ليسَ بالشّعرِ عندَهُ كلَّ قولٍ ***  في مجالِ البيانِ والشّعرِ – قيلاَ

وافقَ الأقدمـينَ فيما ارتأوْهُ ***  من مواضيعِهمْ وأرضى الخليلاَ

لا ولا ما حوى اعتزازًا بمجدٍ ***  قد دعا الرّواةُ مجدًا أثيــلاَ

إنّما الشّعرُ أدمعٌ في المآقي        ***   طَهُرتْ منبعًا وطابتْ مسيـلاَ

نغمةُ الرّوحِ غبطةً وابتسامًا *** وصدى النّفس زفرة وعويـلا

وحديث الضّمير أصدقُ نجوًى *** ولسانُ الدّموعِ أقومُ قيــلاَ

ففي الأبيات الثّلاثة الأخيرة يعدّ جلال الدّين النّقّاش بكلّ وضوح  الشّعر لغة القلب لا لغة العقل.وهذا مطابق إجمالا لمفهوم الشّعر عند الرّومنسيّين  ومنهم الشّابي الذي قال :”شعري نفاثةُ صدري”.فهل قال النّقّاش هذه الأبيات تناغما مع المناسبة التي قاله فيها وهي رثاء أبي القاسم ليس غير ؟ وهذا التّساؤل لا بّد من طرحه هنا،  لأنّ أيّ شاعر عرّف الشّعر في شعره أو في نصّ نثريّ تعريفا معيّنا صار ملزما بحترامه والتقيّد به في كلّ ما يكتب من شعر  .لكن  تعريفَ النّقّاش للشّعر الواردَ في هذه القصيدة  لا ينطبق على قصائده التّقليديّة التي استعرضنا ،في ما سبق، نماذج منها والتي قد تفوق من حيث الكمّ قصائده الوجدانيّة . لذلك فهو، إن شئنا،  شاعر تقليديّ خالص في مدائحه و إخوانيّاته وشعره المناسباتيّ ومرثياته ،ما عدا هذه القصيدة التي يطغى عليها نفس الشّابّي وأسلوبه وهو في الوقت نفسه شاعر غنائيّ أو شبه غنائيّ في وجدانيّاته. وما هذا التّذبذب بين تيّارين إلاّ  مظهرُ اختلاف لافتٌ جديرٌ بالدّرس والبحث ،لأنّه ربّما   يكون عنصرا مميّزا به يفترق عن باقي الشّعراء الكلاسيكيّين التّونسيّين.

لكنّ البتّ  الصّحيح النّهائيّ في هذه المسألة  متعذّر اليوم في غياب نسخة جامعة شاملة لقصائد جلال الدّين النّقّاش. ولا ندري إن ترك لدى أحد  أقاربه  أو معارفه ديوانا  يمكن تحقيقه وإصداره ، أم هل ينبغي جمع  قصائده من  الدّوريات.وهو أمر صار اليوم شاقّا مضجرا لأنّ المؤسّسات التي تتوفّر فيها  نسخ من الدّوريّات التّونسيّة القديمة  تَمنَعُ النّسخَ منها بآلات النّسخ العاديّ وتَشتَرط  بدلا من ذلك التّصوير بتقنية الميكروفيلم.لكلّ هذا اكتفينا في هذه الدّراسة بتفحّص نماذج قليلة من قصائد هذا الشّاعر  حصلنا على بعضها  بنقلها يدويّا من تلك الدّوريات  وعلى بعضها الآخر مخطوطةً مكتوبة بيد الشّاعر وقد أمدّنا بها بعض الأصدقاء .والجزء وإن كان غير كاف  فهو – لعمرنا – كفيل في الكثير من الأحيان بتقديم فكرة  وإن تقريبية عن الكلّ ،في انتظار صدور الكلّ  المنشود في كتاب.

فما هي الخصائص الأغراضيّة والدّلاليّة والأسلوبيّة لهذه النّماذج؟  وبلغة أدقّ :  ما هي مظاهر خروج جلال الدّين النّقّاش فيها عن نهج التّقليد في شعره ؟

ثمّة ملاحظة لافتة ،بارزة للعيان تشمل تلك النّماذج كلّها هي أنّ جلال الدّين النّقّاش كلّما طرق موضوعا أتاح له فرصة الحديث عن نفسه أو التّأمل في بعض الظّواهر الإنسانيّة المجرّدة  خفّت أو حتّى امّحت نزعته التّقليديّة التي توقّفنا عندها آنفا  لتحلّ محلّها نبرة غنائيّة بالمعنى الاصطلاحيّ للغنائيّة الذي حدّده التّيّار الرّومنسيّ في القرن التّاسع عشر والذي جعل من الشّعر خطابا يدور حول الأنا (11) قوامه  الإفصاح عن المشاعر الحميميّة.وهو ما لا نكاد نجد له نظيرا عند الشّعراء التّقليديّين الآخرين السّابقين له أو من أبناء جيله.

وتتجلّى نزعة جلال الدّين النّقّاش التّجديديّة هذه  في ستّة عناصر بارزة هي:

1 -طرافة الموضوعات التي يطرقها. فالقصائد المنتمية إلى هذا اللّون عنده ، تنبع ، على الرّغم من اختلاف أغراضها وموضوعاتها ، من نَوىً  دلاليّة تأسيسيّة  منتقاة راعى في اختيارها  قدرتها على شدّ اهتمام القارئ ونيل إعجابه.وهو ما يندر  أن نجد له مثيلا عند الشّعراء التّقليديّين العرب المعاصرين الذين يغلب عليهم الميل إلى محاكاة القصائد المعالم في التّراث الشّعريّ العربيّ.وذلك لأن الهاجس الأوّل عند  الشّاعر المقلّد  ليس التّجديد والإضافة وإنّما هو نظم قصائد  شبيهه بقصائد راقية استقرّت في الذّاكرة الشّعريّة العربيّة على مرّ القرون ،من موقع الانبهار ببراعة قائليها لا السّعي إلى بلوغ الدّرجة الرفيعة  التي  بلغوها في عصورهم  بإنشاء قصائد  يعدلون في كتابتها عن أساليبهم .

ولنتوقّف هنا عند قصيدتين اثنتين من قصائد جلال الدّين النّقّاش عدل فيهما بوضوح عن نهج الشّعراء القدامى.

أولى هاتين  القصيدتين قصيدة ” حلم الرّضيع ” (12) التي طرق فيها موضوعا قليل التّداول في الشّعر عامّة  فضلا عمّا ينطوي عليه من  طاقة تشويق ومباغتة ،إذ ليس هو من الموضوعات التي تخامر ذهن الإنسان العاديّ .وذلك لأنّ أحلام الرّضّع تشكّل موضوعا من موضوعات علم تحليل النّفس حتّى إن لم يكن الشّاعر على علم بذلك.

ومثلها قصيدة” سرّ الدّموع “التي يتناول فيها دلالات الدّموع وصعوبة إدراك حقيقتها وفكّ ألغازها والتي هي ، مثلما هو معلوم ، من مشمولات علم النّفس.ذلك أنّ موضوع الدّموع  حتّى إن تردّد في الشّعر العربيّ القديم ،كما هو الشّأن عند الخنساء وعند عليّ  الحصري، فالجديد هنا  هو أنّ الشّاعر لم يتحدّث عن  دموعه هو وهو يبكي  فقيدا عزيزا عليه   وإنّما تناول  الدّموع باعتبارها ظاهرة إنسانيّة عامّة.

2 – النّبرة الغنائيّة العالية  الماثلة  في تدفّق الأحاسيس وانسيابها دون توقّف من بداية القصيدة إلى نهايتها، مع تناسل الانطباعات  و الخواطر وتواليها دون تخطيط  ينتظمها أو تسلسل منطقيّ تجري وفقه إلاّ في ما ندر .وهو ما يكشف عن  ضعف سلطان المفكّرة  عند منشئ النّصّ في زمن التّلفّظ مقابل الحضور القويّ لمشاعره وسوانحه.وهذا ما جعل القصائد التي تنتمي إلى هذا الصّنف عند  جلال الدّين النّقّاش تطابق ما أسماه الفيلسوف الأمريكيّ سيرل   (   Searle ) في تصنيفه للأقوال الكلاميّة  القول “التّعبيريّ”  (l’expressif  ).

من ذلك على سبيل المثال هذا المقطع من قصيدة” اُنظروه خالدًا “(13)

التي رثى فيها ، كما قلنا، الشّابيّ على إثر وفاته سنة 1934:

نغماتٌ هزَّ القلوبَ صداها ***فكان الصّدى يدا جـبريلاَ

وكأنَّ الحياةَ تبدو نشـيدًا    ***  علويًّا مُنزّلاً تنزيـــلاَ

اُنظرِ الرّاعي الذي يتغنّى   ***  نافخًا نايَهُ يناجي الأصـيلاَ

والطّــيورّ الطّرابَ تأوي إلى الوكرِ وقد أزمعَ النـّــهارُ رحيلاَ      

وانظرِ الشّمسَ ودّعتْ وتوارتْ    *** ومن الاختيالِ جرّتْ ذيــولاَ

وهذا المقطع من قصيدة ” حلمُ الرّضيعِ”(13):

هيَّا ابتسمْ يا طفلُ رُبّتَ بسمةٍ ***      حملتْ لأمّكَ في شذاها مَغْنـَمَا

ما أنتَ إلاّ ذلكَ اللّحنُ الذي *** عن عطفِها الفيّاضِ باتَ مُترجمَا

رقصتْ مشاعرُها على نغماتِهِ ***وغدَا به إحساسُـها مترنّما

أو ذلكَ القَطْرُ الذي أضحى به *** روضُ الأمومةِ كالرّبيعِ مُنمـنَما

و قولُهُ في هذه القصيدة نفسها(14) :

في عِطفِ أمّكَ ذقتَ طعمَ سعادةٍ ***ورشفتَ أعذبَ ما رشفتَ على ظــمَا

قبّلْ بها غمرتَكَ يا ابن حنانِها ***     كالشّهدِ من لذّاتِها لن تُفطمَا

ما فازَ في روضِ الطّفولةِ ناشئٌ ***بأرقَّ ممّا قبّلتْكَ وأرحـمَا

حّييتُما من نيِّريْنِ تألّقـَـا ***      وسعدتُما من طائرينِ ترنّـمَا

متعانقينِ تعانقَ الإلفــينِ في ***نجواهُما بل أنتُما عندي هُمَا

       ما النّائيانِ تلاقيَا والسّاجـعا ***نِ تآلفَا حبًّا بأسعدَ منكُـمَا

3 – انسياق  الشّاعر وراء لذّة العبارة  وانغماسه في ضرب من الانتشاء اللّغويّ. وهو ما سمّاه البلاغيّون القدامى “استلذاذا”.وهذا ما نلمسه، مثلا، في هذا المقطع الذي يفتتح به قصيدة عنوانها “على الشّاطئ”(15) :

على شاطئِ البحرِ والجوُّ صافٍ ***ومؤنستي قرّةُ النّظرِ

وهبَّ النّسيمُ علينا عليلاً ***ولذّتْ لنا نغمةُ الوترِ

وأفلاكُ تلكَ السّماءِ استدارتْ***كفُلْكٍ على لَجّةِ النّهرِ

وقد كمُلَ البدرِ كالغادةِ المحلاّةِ في أنفسِ الدّررِ

وكفُّ الصَّبا رسمتْ في المياهِ***بنورِ السّما أبدعَ الصّورِ

وقدْ رقصَ الموجُ في طربٍ *** وقد سَرَتْ فيه فتنةُ البصرِ

ثمّ يُغلقها على النّحو التّالي(16):

فما للزّمانِ علينا مساوٍ***وذنبٌ له غيرُ مُغتفَرِ

تخيّلتُها ليلةَ القدرِ لمّا*** بلغتُ بها منتهى وطري

لقد كلَّ عن وصفِها قلمي***وقد قَصُرتْ دونَها فِكَري

فآليْتُ أشكرَها طولَ عمري***كشكرِ النّباتِاتِ للمطرِ

بكلِّ قصيدِ يبُزُّ الثّريَّا***ويسمو على طالعِ المشتري

فهل هذا الشّعر مما يمكن أن يكتبه شاعر تقليديّ ؟ كلاّ ، هذا شعر غنائيّ خالص من اللّون الذي كتب فيه كبار الرّومنسيّين الفرنسيّين أمثال شاتوبريان وألفراد دي فينيي وألفراد دي موسّي ومن لفّ لفّهم.

4 – التّردد المرتفع لضمائر المتكلّم المفرد الظّاهرة  منها والمستترة، المنفصلة نحو :”أنا”،  والمتّصلة نحو: “ي”،”ت”،.من ذلك كثافة هذه الضّمائر في قصيدته” على الشّاطئ” مثلما تبرزه هذه القائمة : مؤنستي- طربي – فتاتي- أختار- مسكري- قلبي- أشمّ – أجتني- أنسى – خلعتُ – ركنتُ – تردّيتُ – بعتُ – بلغتُ – فكري – أشكرُها.

5 – كثافة الوحدات المعجميّة  المستدعاة من حقل الطّبيعة. من ذلك على سبيل المثال هذه القائمة من المفردات التي وردت في قصيدته “اُنظرُوه خالدًا” :غار- بلابل – جدول –نسيم- خرير- هديل- هزار- ثرى –  صدى – نغم –أصيل – طير – نهار- شمس- زهر- سلسبيل – نجم – سنى – دجى – فجر وهذه القائمة الأخرى  في قصيدته”على الشّاطئ” : شاطئ – بحر- نسيم – نغمة – بدر- صَبا- ماء – نور- سماء- موج- ورد- ثمر- زهر- رمل – ليل – نبات – مطر- الثّريا – المشتري.

6 – ميل الشّاعر في هذه القصائد إلى استعمال الألفاظ المتداولة في اللّغة العربيّة المعاصرة وأكثرها من المعجم المشترك بين الفصحى والدّارجة واجتنابه إلى أقصى حدّ ممكن الألفاظ القليلة الشّيوع التي يُحتاج في فهمها إلى الاستنجاد بالقواميس التّراثيّة.ولعل ما ساعده على ذلك أنه كان يكتب الأغاني باللّهجة الدّارجة التّونسيّة.

هذه العناصر مجتمعة لا يمكن أن تتوفّر إلاّ في قصائد  تصدر عن “ذات شاعرة” لها شواغل وهموم  حقيقيّة ،على عكس الشّعر  المنظوم في الأغراض التّقليديّة  الذي لا  يصدر إلاّ  عن شاعر حِرَفيّ متمكّن من الصّناعة العروضيّة والبلاغيّة يؤدّي في ما يكتب عملا تقنيّا بحتا.

وإذا كانت هذه العيّنات من قصائد جلال الدّين النّقّاش نابعة من  ذات شاعرة  حقيقيّة فمن المفيد أن نحاول الوقوف على بعض  ملامحها لكي تتبدّى لنا بصماتها في الملفوظ الشّعريّ.

إنّ الصّورة التي تلوح لنا للشّاعر جلال الدّين النّقّاش من بعض  هذه القصائد تتعارض كلّيّا وصورة المثّقّف الزّيتونيّ الرّسميّ الوقور  التي تعترضنا في قصائده غير الوجدّانيّة .واليك هذا المثال المقتطف من قصيدته “على الشّاطئ” يقول فيها :

بدَا طربي …وبقربِ فتاتي *** تبادلُني أعذبَ السّمَرِ

وتُزجى كؤوسُ اللّمى والحُمَيَّا ***فأحتارُ أيُّهما مُسكري

عجبتُ لقلبي من الثّغرِ يَرْوَى *** ويُرمَى من الخدِّ بالشّررِ

أشمُّ به الوردَ طورًا وطورًا*** بهِ أجتني يانعَ الثّمرِ

ولا أنسى قولَهُ قُمْ واقترحْ *** تجدْني أطيعُ بلا ضجرِ

بها قد خلعتُ العِذارَ وما ***ركنتُ لخوفٍ ولا وجلِ

تردّيتُ ما قد أرادَ الشّبابُ ***وبعتُ  التّنسّكَ للكِبَرِ

فالمتكلّم في هذه الأبيات الإباحيّة الصّريحة أقرب إلى شخصيات عمر بن أبي ربيعة وبشّار بن برد قديما ومحمّد العريبي وعبد الرّزّاق كرباكة البوهيميّيْن من جماعة “تحت السّور” بتونس حديثا في عصر الشّاعر على الرّغم من أنّه لم تكن له تاريخيّا علاقة متينة بأولئك الجماعة .وهكذا فالعدول هنا ليس في مستوى الأسلوب وإنّما على صعيد النّمط السّلوكيّ الذي عُرف به في المجتمع.

وأغلب الظّنّ عندنا أنّ هذه القصيدة من أثر بعض مطالعات الشّاعر، إذ نجد شبها بينها وبين قصّة لمحمّد عبد الخالق البشروش الذي كان رومنسيّا صريحا من مدرسة الشّابّي عنوانها”من تكون هذه السّاحرة؟ ” (17).لذلك فالحادثة التي يرويها هنا لا تكون إلاّ خياليّة .ومن جهة أخرى تلوح قصيدته ” حلمُ الرّضيعِ “(18) التي صدّرها بالبيتين التّاليين :

هيَّا ابتسمْ يا طفلُ رُبّتَ بسمةٍ ***      حملتْ لأمّكَ في شذاها مَغْنـَمَا

ما أنتَ إلاّ ذلكَ اللّحنُ الذي *** عن عطفِها الفيّاضِ باتَ مُترجمَا

مطابقة أو تكاد من حيث بنيتها الإيقاعيّة لقصيدة إيليا أبي ماضي “قال السماء كئسبة ” التي مطلعها:

قالَ: السّماءُ كئيبةٌ وتجهّمَا … قلتُ: ابتسمْ يكفي التّجهّمُ في السّمَا

وهو ما يدلّ على تأثّره  إن قليلا و إن كثيرا بالشّعر الرّومنسيّ العربيّ.

وهذا إن شئنا ضرب من ازدواجيّة الشّخصيّة  متأتّ من وفاء جلال الدّين النّقّاش لصورة المثقّف الزّيتونيّ الرّسمىّ التي تفرض عليه أن يتمسّك في سلوكه بمبادئ الأخلاق الدّينيّة العامّة  و أن يجري في  شعره على سنن الأقدمين و في الوقت  نفسه من رغبته  أحيانا في خرق المحظور سرًّا أو من اضطراره إليه في بعض الظّروف الطّارئة  عملا بالحديث النّبويّ الشّريف : “إذا عصيتم فاستتروا”.

على أنّه  مهما كانت أسباب هذه الازدواجيّة  فإنّ القارئ الموضوعيّ  لشعر جلال الدّين النّقّاش بنوعيه : التّقليديّ والغنائيّ لا يفوته خلوّهما من أي أبعاد عميقة ، لأنّ رائد هذا الشّاعر في ما يكتب إنّما هو إمتاع المتلقّي  سواء أ كان ذا ذائقة قديمة أم ذا  ذائقة حديثة وليس استدراجه للخوض في قضايا فكريّة أو فلسفيّة أو التّحليق به في عوالم مجرّدة.وهذا ما قصدناه في عنوان هذا الفصل ب”أصالة اللّفظ ولطافة المعنى”.

خاتمة :

ما هذه إذن بدراسة مستوفيةٍ لشروطَ البحث والنّقد وإنّما هي  مجموعة ملاحظات  عنّت لنا عند تقليبنا النّظر في العيّنات التي حصلنا عليها من شعر جلال الدّين النّقّاش. وهي ،دون أدنى شكّ، قليلة، مقارنة بمسيرته الشّعريّة التي امتدّت على قرابة السّتّين عاما.لذلك تبقى قابلة للمراجعة  بعد  أن نطّلع على ديوانه كاملا إن قًدّر له الصّدور.

ولعلّ أهمّ تلك الملاحظات أنّ هذا الشّاعر تداول على نوعين متقابلين كلّ التقابل من الشّعر : أحدهما شعر تقليديّ حاكى فيه الشّعر العربيّ القديم شكلا وأغراضا ومعانيَ والآخر شعر غنائيّ قريب من الشّعر الرّومنسيّ العربيّ الذي ازدهر في الثّلث الأوّل من القرن العشرين.وهذه، في الحقيقة، ازدواجية غير عاديّة ،  لكون هذين التّيّارين تواجها وتصادما طيلة أكثر من ثلاثة عقود حتّى في تونس حيث  تصدّى أبو القاسم الشّابّي سنة 1929  في محاضرته الشّهيرة ” الخيال الشّعريّ عند العرب” للشّعر العربيّ القديم  منتقدا الأسس التي قام عليها ومنكرا  شاعريّة قائليه، على حين كان الشّعراء السّائرون في نهج  الأقدمين من التّونسيّين يتبّؤون الصّدارة في المحافل الرّسمية ويعلنون استخفافهم بالشّعر الجديد.ففي مثل ذلك المناخ الثّقافيّ لم يكن من الممكن ألاّ يقف شاعر من الشّعراء  في أحد هذين الصّفين المتعارضين لامتناع إمكان الحياد في مثل هذا الموقف . لذلك جسّد جلال الدّين النّقّاش حقّا بوقوفه طورا هنا وطورا هناك حالة خاصّة به ميّزته عن معاصريه.

هوامش :

1 – أبو القاسم الشّابيّ ، صفحات من كتاب الوجود : القصائد النّثريّة ، جمع سوف عبيد وتحقيقه ، نشر ” بيت الحكمة ” ، قرطاج ، تونس  2009

2 –  أبو القاسم محمّد كرّو، كفاح وحبّ، المكتبة العلميّة ومطبعتها، بيروت 1952

3 – سلسلة مشاهير ، جلال الدّين النّقّاش، منشورات محمّد بوذينة ، الحمّامات، تونس 1996ص 33

4 -تسلّمت نسخة من هذه القصيدة من الباحث محمّد المي

5 -جلال الدين النقاش، قصيدة ” الثّغر المقدّس”، سلسلة مشاهير ، جلال الدّين النّقّاش، منشورات محمّد بوذينة ، الحمّامات، تونس 1996ص 32

6 – جلال الدّين النّقّاش،”حنين”، مجلّة”الثّريّا” العدد 8 ،جويلية 1944 ص 49

7 – سلسلة مشاهير ، جلال الدّين النّقّاش، منشورات محمّد بوذينة ، الحمّامات، تونس 1996ص 25

8 -المصدر نفسه ص 24

9 -محمّد صالح بن عمر، مختارات الشّعر التّونسيّ الحديث والمعاصر، مؤسّسة”بيت الحكمة”، قرطاج ، تونس 1990 ص 85

10- جلال الدّين النّقّاش،قصيدة”انظروه خالدا”، مجلّة “العالم الأدبيّ”، السّنة 4 ، العدد 2 ص 8

انظر :

Poésie lyrique in Encyclopédie Larousse en ligne11 –

12 -جلال الدّين النّقّاش،قصيدة”حلم الرّضيع”، مجلّة “العالم الأدبيّ”، 1935 ،السّنة 4، العدد 11 ص 224

13 -جلال الدّين النّقّاش،قصيدة” انظروه خالدا”.انظر الإحالة رقم 10.

14 -المصدر نفسه والإحالة نفسها.

15 – جلال الدّين النّقّاش،قصيدة”على الشّاطئ”،مجلّة”الثّريّا”، 1944، العدد  9  جويلية 1944 ص 32.

16 – المصدر نفسه والإحالة نفسها.

17 – محمد البشروش،مجلة”العالم الأدبيّ”،السّنة 3العدد 25 ،19 سبتمبر 1932 ص 11.

18 – جلال الدّين النّقّاش،قصيدة”حلم الرّضيع”،انظر الإحالة رقم 12.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*