كعبٌ عالٍ…. قصة قصيرة : نور نديم عمران – اللاذقية – سورية

نور نديم عمران

انتفضت ذاكرتي على طقطقة كعبها العالي ، حذاءٌ أحمرُ لمّاع أكثر من مستقبلي ، تشمخ فيه ساقان ممتلئتان كإوزّتين مصريتين محشوتين بما لذّ وطاب. أتوقف طويلاً عند وشمٍ بلونٍ كحلي زَيّن إحدى ساقيها من الخلف على شكل غصنٍ يحمل في أعلاه وردةً . كنت أتتبع حركة الغصن بنهم لأصل ركبتها…ماهذه الفتاة ؟! ألم تركض يوماً في طفولتها؟! ألم تشارك في درس رياضة ؟! كيف لركبتي إنسانٍ طبيعيٍّ أن تكونا قطعتين من الحلاوة بالجبن الملفوفة بعناية ، تلك الحلاوة التي تمتد فوق كل المساحات التي لم تسترها تنّورتها القصيرة جداً. وتوقظني هند من غفلتي : احم احم….نحن هنا يادكتور … وأردّ بعيني من دون أن أنطق: هل أنت أنثى حقّاً ياهند؟! كيف يستيقظ أخي كل يوم على صوتك الخشن هذا ؟ وألوم نفسي لأني فكرت هكذا ،فهند صديقتي ،بل صديقة العائلة ،رُبِّينا معاً في جبال اللاذقية ،ودرسنا ولعبنا وكانت حارس مرمى فريقنا في لعبة كرة القدم . كنا نبوح لها بأسرارنا وهمومنا،وتساعدنا في حل مشاكلنا لأنها أخت رجال . لم يخطر في بالي يوماً أن يقع اختيار أخي عليها ،لأن أحداً منا لم ينظر إليها كأنثى حقاً. نظرت إلى ركبتيها اللتين ارتدت فوقهما طبقات كثيرة من الأقمشة ،وتذكرت منظرهما وهي تنهض غير مكترثة بنزيف دمائهما لتتابع اللعب وتؤدي دورها كحارس أمين. لم أرها يوماً ترتدي ملابس أنثوية كما كانت تفعل كل فتيات جامعة تشرين، ولم أقدر أن أفهم يوماً سر صداقتها العميقة مع هيفاء . هل كانت هيفاء بحاجة مرافق شخصي لها فوجدت في خشونة هند الملاذ ،من يدري ؟! عاد صوت زوجة أخي الخشن مرة ثانية ،ليعيدني للواقع : لقد تغير حالك مذ أخبرتك أني التقيت هيفاء في نشاط الجمعية اليوم ، هل حنّ قلبك؟! ألم تنسها بعد عشرين عاماً يا قيس؟ ضحكتُ بعبثيةٍ مبتذلةٍ ،وحاولت إنكار وصف هند لحالتي ،لكنها تعرفني منذ العاشرة وتحفظ حركاتي . قدمت لي القهوة قائلةً : كانت مصادفةً طيبةً وأليمةً ،حتى بالنسبة إلي ، لم أتوقع أن ألتقيها مرةً ثانيةً بعد أن تزوجت وسافرت للخليج…أخبرتني أنها تطلقت بسرعة وعادت بعد عامين إلى دمشق مع ابنة وحيدة. هتفت بسرعة : هل هي مطلقة ؟! وكأنما لمحت خيطاً يلمع في سمائي ،فأفقدني الشغف بعضاً من وقاري. وضعت صديقتي فنجانها الذي انسكب بعضٌ من قهوته ،ربما رجفت يدها حين فاجأتها بسؤالي الأحمق . حدقت بي قليلاً ثم أمسكت وسادة صغيرة وضربتني بها: وما يهمك إن كانت مطلقة أو غير ذلك؟ …لقد هجرتك ،وتزوجت ثرياً،وأنت تزوجت ولديك أولاد. أنا المخطئة ،ما كان لائقاً أن أخبرك بلقائنا. سيصل شقيقك بعد قليل،أكمل قهوتك لنتناول الغداء. تلعثمتُ وأنا أعتذر منها ،ففي النهاية زوجتي تكون شقيقتها الصغرى،ولابد أن تنتصر لها وتغضب . وفي النهاية أيضاً أنا مثل أخي عشت شغف الشباب وطموحاته وعلاقاته ،وعندما أردت الزواج ،بحثت عمّن أعرف منبتها،وتكون حارساً أميناً لحياتي. وإن كانت زوجتي أكثر أنوثة من أختها بلا شك وصوتها أقل صرامة ، ولكنهما أيضاً تتقاسمان صفات كثيرة . وقفت مستعداً للانصراف ،لكن شيئاً دفعني لأقول : لاتغضبي ياهند…إنه الفضول لا أكثر ، هل مازالت هيفاء جميلة ،ممشوقة ،أنيقة ،أم أن الزمان وجد طريقاً لشكلها كما فعل بقلبها يوماً؟ تمتمت هند وهي تدخل المطبخ : ادخل صفحتي على الفيسبوك ،وتأمل صور منشوري الأخير،لن تضيع عنها. لاتنصرف قبل أن تتناول الغداء . سحبت جوالي من جيب سترتي متلهفاً، وودعت عائلة أخي لأن عائلتي تنتظرني . لم أبتعد بسيارتي سوى شارع واحد حتى ركنتها جانباً ،وبدأت أقلب صفحات الفيسبوك بارتباكٍ من دون أن أجد صفحة هند . وأخيراً ها أنت أيتها المشاكسة، هند حامد ، أمين سر جمعية الأمل لشؤون جرحى الحرب والمقعدين. وهاهو منشورك الأخير يا ست هند . ووقعت عيناي في زيت أنقى من كل مواسم الزيتون في جبالنا الساحلية … إنهما عينا هيفاء ،تختصران اخضرار العشق في قلبي ،وحاجبان شامخان عبثت تحتهما تجاعيد خفيفة لم تنل من جمالهما،ما زالت استدارة وجهها تملأ عين من يراها،وشعرها الأسود المتماوج متناسق مع بياض بشرتها… وعنقها الجميل الذي لطالما طوقته بالورد والياسمين… يا الله ما أبهاك يا هيفائي ! تحيطين عنقك بوشاح ملون يشبه شخصيتك المزاجية… كأن الأيام لم تمر أبداً…مازلت أنيقة ،وترتدين…ماذا….ماذا… لم أكن قادراً على الرؤية، ضباب كثيف غطّى عيني وقلبي ، بالكاد مسحت شيئاً منه لأستوعب ما أرى هيفاء تجلس في كرسي مدولب ،يتدلى منه غطاء من الواضح أنه لا  يستر شيئاً. أين ساقيك يا يمامتي؟! ماذا فعل الدهر بهما ؟! فُتح باب سيارتي ،وجلس شقيقي قربي مواسياً: سامحك الله ياهند،لسانها أطول منها .. طلبتُ منها ألا تخبرك . لقد لمحتك وأنا عائد ،فعلمت أنها أخبرتك . نظرت مذهولا ً في عيني شقيقي: كنت أظن أنها التقتها بصفتها سيدة ثرية تقدم تبرعات للجمعية ،لم يخطر في بالي أن تكون إحدى المصابات في الحرب . لقد نقمتُ عليها طوال عشرين سنة لأنها هجرتني بعد سنوات حبٍ جارفٍ، وتمنيت ألا أراها سعيدةً في حياتها ونادمةً على فراقي . لقد تخيلت لقاءنا مئات المرات وحضرت له آلاف الكلمات ،ثم نسيت ذلك أو تناسيته بفعل انشغالاتي الكثيرة،لكني لا أحتمل رؤيتها هكذا،وإن كانت هذه هي المريضة التي تريدني زوجتك أن أركّب لها أطرافاً صناعيةً فأنا أعتذر ، لا أستطيع أن أقف في هذا الموقف، سأرشح لك أحد زملائي للمهمة . لايمكن أن أدعها تشعر بالعجز والضعف أمامي. عندما عدت كانت زوجتي صديقتي بانتظاري،احتضنتني وبكت معي ،احترمت عزلتي وحرصت ألا يفسد علي أحد خلوتي ،وأنا أسمع طوال الوقت صوت كرسيٍّ مدولبٍ يسير في شوارعَ خاليةٍ إلا من أنفاسي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*