حوار مع النّاقد محمّد صالح بن عمر حول كتابه “أبو القاسم الشّابي صوتا استثنائيا”: أجراه عبد المجيد دنقيش

بتاريخ 17 جويلية /يونيو/تموز 2010 أجرى معي الصّحفي التّونسي اللاّمع عبد المجيد دنقيش في صحيفة” العرب”  اللّيبية هذا الحوا ر بمناسبة صدور كتابي “”أبو القاسم الشّابي صوتا استثنائيا”.

1 -من خلال كتابك الذي أصدرته أخيرا الموسوم ب” أبوالقاسم الشابي صوتا استثنائيا” ما هي أبرز سمات العبقرية  في رأيك عند هذا الشاعر؟ وما الذي جعل شعره يسافر في الزمن رغم قصر تجربته الإبداعية؟

كان مفهوم  ” العبقرية ”  ،  إلى عهد قريب  جدا ،  يصنف عند النقاد والباحثين  المعاصرين  ضمن سجل  الخرافة . لكن ما إن انكب عليه  علماء  النفس  العرفانيون  وخاصة منهم الباحث الأمريكي دين كاث سيمنتون  ( Dean Kheikh Simonton ) منذ عشر سنوات تقريبا حتى  تغيرت النظرة إليه   تغيرا جذريا   ، إذ ثبت أن العبقرية ليست تصورا وهميا وإنما هي حالة واقعية  تتصف بها  صفوة من البشر . وقد  التبست هذه الحالة في البداية مع  التفوق الذهني ( Surdouement ). لكن أثبت البحث أنها تختلف عنه من حيث إن العبقري   يتميز ببنية نفسية وذهنية مخصوصة على حين أن المتفوق ذهنيا  يتمتع بقدرات عقلية خالصة تجعله متوازنا نفسيا .

و لعل  من أبرز سمات العبقري   حب المغامرة ورفض الامتثالية  والرغبة في مصادمة السائد والشعور بالتفرد والإحساس  بالتفوق على المحيط والانطوائية والانشطار بحكم عدم  التوافق بين رؤيته لذاته ورؤية الآخرين له والاتصال الدماغي وهو نوع من الاتصال  بمصادر إلهام  بعيدة غامضة  .

وهذه الحالة المعقدة ليست في جملتها   عصابا( Névrose )  وإنما هي ذهان ( Psychose ). ومعنى ذلك أن العبقرية هي – إن شئنا –   ضرب من الجنون الفني . ولقد  بين لنا  استقراؤنا لشعر الشابي ونثره  في هذا الكتاب   أن الذات التي أنشأتهما تستجيب ،  إلى حد بعيد ،  لكل هذه الشروط .

أما انتشار شعر الشابي محليا وعربيا وعالميا  فيرجع الفضل فيه إلى هذه  العبقرية التي نتحدث عنها. وهو التفسير نفسه   للإجماع الذي تحظى به التجارب الشعرية الكبرى في العالم قديما وحديثا  مثل تجارب المتنبي و أبي نواس وشوقي و السياب والبياتي ودرويش و قباني وسعدي وأدونيس في الأدب العربي  وشيلاي وملتون و قوته وهيقو و بودلير ومالارميه وعزرا بوند وطاغور  وبوشكين . والقائمة ليست طويلة .

2 – الناقد يشبه المترجم في أنه شخص كريم معطاء يضحي من وقته وعمره من أجل الآخرين وفي خدمة الثقافة . فكيف تعرف الناقد ودوره في نفض الغبار والتعريف بالإبداعات الأدبية ؟

– أبدا …هذا التعريف أخلاقي بحت . والأخلاق وإن كانت مطلوبة في كل عمل بشري  فإنها غير كافية لتجعل من الشخص مترجما أو ناقدا . وحتى لا نبتعد عن الموضوع لنكتف بالحديث  هنا عن النقد .

إن الشرط الأول الذي ينبغي أن يتوفر في الناقد هو  الاطلاع الدقيق على المدونة التي يدرسها . فأنا  ، على سبيل المثال ،  ناقد متخصص في الأدب التونسي ، قد قرأت تقريبا  كل ما صدر في تونس من مجاميع شعرية وقصصية وروايات وكتب نقدية ما عدا صدر في السنوات العشر الأخيرة التي   استفحلت فيها ظاهرة الطبع على النفقة الخاصة فطغى الكم على الكيف واختلط الحابل بالنابل وأضحت المتابعة الدقيقة الشاملة  شبه مستحيلة  ، كما اطلعت على ما نشر في الصحف والمجلات التونسية منذ صدور العدد الأول من  أول صحيفة بالبلاد – وهي”  الرائد التونسي ” –  التي أنشئت  سنة 1860 .

و هناك شرط آخر هو المعرفة الدقيقة  للاتجاهات والخلفيات الفكرية والفنية الكامنة وراء النصوص ومراحل التطور  الفني الذي يطرأ على الكتابة في  مختلف فترات تاريخ الأدب .

أما دور الناقد  فهو شخصي بحت أي أن الناقد يمارس حقه في التمتع بالكتابة عما يراه متميزا من الآثار الأدبية  . ومن ثمت لا يجوز الحديث عن تضحية وتطوع  . لكن إذا رأى الناس في  نشاط الناقد خدمة للوطن والأمة   فحبذا ذلك لأنه حين يبرز الأعمال الفنية المتميزة يقدم حتى إن لم يقصد ذلك  خدمة للوطن  وللأمة على نحو غير مباشر .

3 – من خلال تجربتك في الساحة الثقافية التونسية،هل يلقى هذا المجهود صدى لدى المبدع التونسي؟

– إن ردود أفعال الشعراء والكتاب على ما أكتبه عنهم لا  تهمني البتة . فالمفهوم الأكثر شيوعا النقد اليوم في العالم المتقدم هو أنه  قراءة . والقراءة هواية . فإذا تمتع أحد ما  بقراءة مجموعة شعرية أو قصصية أو رواية  ثم كتب عنها  للتعبير عما شده فيها  فماذا يضيف إليه رأي مؤلف الأثر فيما كتبه عنه ؟  لا شيء البتة . ثم إني من الذين  لا يريدون  على ما يكتبونه  جزاء أو شكورا . فحسبي أن أكتب والقراء أحرار  في المواقف التي يقفونها مما أكتب .

4 – هل كتبت في بداياتك الخواطر والشعر أم  هل كان اتجاهك كان منذ البداية الى النقد؟

– في بداياتي كتبت الشعر والقصة ونشرتهما .لقد  كنت أكتب القصيدة أو القصة وأبعث بها إلى صحيفة أو مجلة دون أن أعرف أحدا من المشرفين عليها  فتصدر . لكن ما صدر لي من نصوص شعرية وقصصية لم يقنعني  منذ البداية . ففي سنة 1969 – وكنت إذ ذاك طالبا في السنة الأولى بالجامعة –  صدرت لي قصة بمجلة ” قصص ” . وحين قرأتها استفظعتها وندمت على إرسالها إلى تلك المجلة . وكنت  قد بعثت قبل ذلك بقصة أخرى إلى مجلة ” الفكر ” التي كانت مخصصة لمن يلقبون ب” كبار الحومة ” أي الأدباء الكبار. فخفت أن تصدر أيضا .  فسارعت بمقابلة السيد البشير بن سلامة رئيس تحرير تلك  المجلة في مكتبه . فأراني قصتي مصففة ومهيأة للنشر. وكم كانت دهشته عظيمة حين طلبت منه عدم نشرها . فنزل عند رغبتي على مضض . ولم  ينشرها .وبعد أسبوع عدت إليه بدراسة عن القصاص التونسي  الطاهر قيقة قائلا له : “لقد قمت بنقدي الذاتي جيدا . فأنا غير موهوب في الشعر والسرد . فإذا كتبت  قصيدة أو قصة  أحسست بأن ما أكتبه   يغلب عليه التصنع والافتعال  ، لأني أشتغل ، في حقيقة الأمر ،  بعقلي لا بخيالي وحدسي وحساسيتي” . ومنذ ذلك الحين تحدد  اتجاهي إلى النقد  دون غيره نهائيا .

لكن الكثيرين من أبناء جيلي ممن هم غير موهوبين مثلي لم يقوموا بنقدهم الذاتي واستمروا في تكديس الكتب دون أن يقنعوا العارفين . ولو شئت لكنت الآن مثلهم صاحب مدونة شعرية أو سردية ضخمة  لكن خالية من أي إضافة فنية أو فكرية   .

5 – ما هو الفرق بين الباحث الجامعي والناقد؟ وأين تصنف نفسك؟

الباحث الأكاديمي يكتب للجان : لجان الانتداب والترقية واللجان المشرفة على المجلات العلمية المتخصصة . لذلك  يسعى قدر جهده إلى نيل رضا من يكتب لهم . وغالبا ما  يخفي فيما يكتبه مواقفه الحقيقية إذا خالفت مواقف أولئك  كلهم أو بعضهم . وإلا كان حسابهم له عسيرا .

وتثبت الإحصاءات أن هذا الصنف يتوقف تماما أو يكاد عن الكتابة في هذا الميدان حين يصل الى أعلى رتة عليمة لا  لا ترقية بعدها .

أما الناقد فهو يكتب لجمهور الأدب الذي منه المتخصص ومنه غير المتخصص . لذلك يحرص  في المقام الأول على التواصل مع قرائه ،  التقليل قدر الإمكان من المصطلحات القليلة التداول ، مستعيضا عنها باللغة العامة لكن  دون الإخلال  بالمفاهيم ، كما يجتنب الإكثار من  الإحالات على المراجع  لأنه  صاحب فكر حر وذو رؤية شخصية . فلا

يرتضي أبدا  إخفاء آرائه  أو التفكير بعقل غيره .

وهكذا ترى أن الناقد ينتمي  وجوبا إلى الساحة الأدبية  لا إلى الحقل الجامعي فيشارك مع الشعراء والكتاب السرديين في معالجة القضايا الأدبية الراهنة و  تصميم البدائل المناسبة المنشودة  . لذلك ليس من الضروري أن يكون جامعيا . ففي ما يخص الأدب التونسي مثلا  أرى أن أهم ناقد في مرحلة ما قبل الاستقلال هو محمد الحليوي – وقد كان معلما – أما أهم ناقد بعد الاستقلال حتى اليوم فهو بلا مجاملة ولا مبالغة أبو زيان السعدي .  وهو أستاذ تعليم ثانوي .

أما في ما يخصني شخصيا فقد نشرت مقالاتي النقدية الأولى بداية من سنة 1967 – وكنت وقتذاك تلميذا في التعليم الثانوي –  أي قبل دخولي الجامعة طالبا . وبهذا أكون قد أجبتك عن الشطر الثاني من سؤالك .

وهناك خطأ شائع في الساحة الأدبية العربية منذ عدة عقود وهو اعتبار طه حسين باحثا أكاديميا في الأدب . لذا يوصف دائما وعلى نحو آلي  ب” الدكتور ” . والحقيقة أنه أكاديميا  لا صلة له بالأدب . فأطروحته دارت ، كما هو معلوم  ، حول الفكر الخلدوني  و أشرف عليه في إعدادها  عالم الاجتماع الفرنسيّ الكبير أميل دوركايم .

ومن ثمت فإنه أدبيا ناقد لا باحث أكاديمي، لأنه كان يشارك في الحياة الأدبية على نحو نشيط خارج تخصصه العلمي . ولعل الخلط بين الناقد الأدبي والباحث الأكاديمي في الأدب قد أحدثته في الثقافة العربية  الشخصية المزدوجة لطه حسين والحال أن لا علاقة لصفة الناقد فيه بصفة الباحث الجامعي .

6 – هل تؤمن بإمكان الجمع بين صفة الإبداع والنقد؟

– ذكرت لك منذ حين أني أخفقت في الجمع بينهما منذ شبابي الباكر . ومن حسن حظي أني تفطنت إلى  تطفلي على الإبداع منذ محاولاتي الأولى . وقد ظللت منذ تلك الفترة أشفق على المتطفلين مثلي من أبناء جيلي والأجيال اللاحقة  الذين لم يقدروا على النظر إلى ما يكتبونه حتى اليوم  نظرة نقدية . ولو فعلوا لاستراحوا وأراحوا .

والجواب العلمي عن سؤالك هو أن الإنسان جهزه الله بشطري دماغ متقابلين : الشطر الأيسر هو مكمن العقل والأيمن هو مستودع المخيلة والحدس والحساسية والإدراك . والفرد عند الولادة يكون أحد شطري دماغه أشد نماء من الآخر . فإذا كان الشطر  الأيسر لدماغه هو الأشد نماء  نجح في العلوم والأعمال والتسيير وما شابهها .أما إذا كان الشطر  الأيمن هو الأقوى فإنه  يبرز في الإبداع الفني .

وتفيد الإحصاءات التي أجريت في هذا الميدان  أن  نماء شطري الدماغ   بدرجة واحدة   حالة نادرة جدا .  فعدد العلماء الذين تفوقوا في الإبداع الفني لدى كل الأمم محدود جدا . منهم مثلا عمر الخيام صاحب الرباعيات الرائعة وقد كان في الوقت نفسه عالما في الرياضيات ومثله الشاعر الألماني العظيم قوته وقد كان باحثا في علم النبات . وهذه  الندرة  معقولة  .ذلك أن الفن لمّا كان  في جوهره عدولا عن السائد  فإن  العقل الممنهج المتعود على الانضباط للمبادئ والقواعد من العسير عليه أن  يخرج عن السكة . فالذي تعود أن يجلس على الكراسي تؤلمه رجلاه حين يجلس على الأرض . طبعا غير الموهوب يمكنه أن يكتب الشعر والسرد .والأمثلة على ذلك كثيرة جدا . لكنه مهما فعل فلا يقدر على تحقيق  الإضافة الفنية والتميز ولن يحتفظ التاريخ باسمه ضمن زمرة المبدعين .

7 – هل لديك مشروع نقدي محدد تشتغل عليه؟

أنا الآن في خريف العمر كما ترى . ومشروعي حاليا هو جمع محاضراتي التي ألقيتها عن الأدب التونسي  طيلة ما يزيد على أربعين عاما وعددها  قد تجاوز اليوم المائتي محاضرة  . وقد أصدرت إلى حد الآن خمسة كتب  ضمت حوالي خمسين محاضرة ، كما أني لا أزال ألبي الدعوات التي توجه إلي  لأشارك في الندوات التي تنتظم في مختلف جهات البلاد  ، كما أن لي سلسلة أخرى من الكتب عنوانها ” دراساتي ” أصدرت فيها كتابا واحدا .وهي مخصصة للمقالات النقدية التي كتبتها لتنشر لا لتلقى .

8- لماذا هذا الإصرار على   الاشتغال بالمدونة الإبداعية التونسية في الوقت الذي يتحين فيه أغلب زملائك من النقاد والباحثين أول فرصة للاحتفاء بأبسط التجارب الأدبية المشرقية نشوءا طمعا في بعض الدعوات والبريق؟

لا تسمح لي لي أخلاقي بتوجيه مثل هذه التهم الى زملائي وأصدقائي .كل ما في الأمر أن الناقد ، كما قلت لك ،  ينبغي أن يكون متخصصا ليفيد فعلا . والأدب العربي اليوم يتجسد في عدد لا يكاد يحصى من المجاميع الشعرية والقصصية والروايات . فمن ذا الذي يقدر على قراءة كل  هذا الكم الهائل من الكتب في مختلف أنحاء الوطن العربي  بل حتى خارجه ؟ لذا فوجود نقاد مثلي  قادرين على الحديث حديث العارف عن أدب قطري معين  من شأنه أن يقدم فائدة  جمة للقارئ العربي . هذا ولا مانع من أن يتخصص تونسي في الأدب الأردني وموريطاني في الأدب التونسي وعماني في الأدب الليبي . فالمهم هو الاطلاع الدقيق على المدونة و الإلمام بالفلسفات الفنية والفكرية التي تنبع منها الكتابة .

9- إلى أي مدى يمكن الاطمئنان لهذا التقسيم التاريخي الذي كثيرا ما يتحدث عنه  في تخصص المغرب العربي في مدرسة النقد والفلسفة وتميز المشرق العربي بالإبداع؟

هذا التقسيم غير علمي  ولا يستند إلى أي معيار عقلي موضوعي .  إنما  هو نابع من معاينة ما هو ظاهر من انتشار الأدب المشرقي في المغرب العربي  مقابل عجز الأدباء المغاربة عن تخطي حاجز  المحلية الذي  يقف في طريقهم منذ القديم .

في الحقيقة أن الأسباب خارجة عن نطاق هؤلاء  الأدباء . فهي ترجع أساسا الى صعوبة وصول الكتاب من المغرب إلى المشرق . ومرد هذه الصعوبة إلى عدم وجود موزعين  مقتدرين يتولون إيصال الكتاب على نحو منتظم ومكثف  إلى الشرق ، على حين أن العكس موجود .وهو تخصص موزعين  كثيرين في نقل الكتاب من المشرق إلى  المغرب . ويبدو أن القوانين الرائدة الصارمة  التي تحمي الكتاب عندنا تشجع المشارقة على إيصال كتبهم إلينا  في حين أن موزعينا يخشون من صعوبة محاسبة الباعة والموزعين في المشرق . وهذا هو الذي لا يشجعهم على التوزيع هناك .و ثمت عائق آخر وهو ارتفاع ثمن الكتاب  المطبوع  في المغرب الغربي مقارنة بالأسعار  المتداولة في المشرق .

أما من الناحية الإبداعية الصرف ففي المغرب العربي أصوات شعرية وسردية ذات قيمة عالمية  لا عربية فقط أذكر  منها أبا القاسم  الشابي وإبراهيم الكوني وعزالدين المدني والبشير خريف  وحسن نصر ومحمود المسعدي وأحلام مستغانمي والطاهر وطار  وإبراهيم الدرغوثي ومحمد شكري ويوسف رزوقة ومنصف الوهايبي ومنصف المزغني  وجعفر ماجد وجميلة الماجري وفضيلة الشابي  ومحمد الغزي . وهناك أصوات تسعينية ممتازة  في الطريق .

وفيما يخص النقد ليس صحيحا أنه مقصور على المغرب العربي . فقد أنجب المشرق نقادا كبارا أسهموا إسهاما بعيد اللمدى في تطوير الأدب العربي من بداية القرن العشرين إلى  اليوم منهم عباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة ومارون عبود وطه حسين ومحمد مندور وعيسى الناعوري  وغالي شكري وجورج طرابيشي و إدوارد الخراط وجابر عصفور. فمن هم النقاد المغاربة الذين اضطلعوا بمثل دور هؤلاء ؟  لعلك تقصد الجامعيين المغاربة الذين ينكبون على دراسة الأدب المشرقي . إن دور هؤلاء –  وهم قلة –  في تطوير الأدب العربي بالمشرق غير ثابت . كل ما في الأمر أن الشعراء والكتاب السرديين المشارقة يجدون فيما يكتبه هؤلاء عنهم دعما لمكانتهم التي اكتسبوها من النقد والإعلام المشرقيين الشديدي التطور على الأقل من الناحية الكمية .  بل اني أزعم أن هؤلاء النقاد المغاربة هم الذين أفادوا من الكتابة عن المشارقة لا العكس لأن الذي يكتب عن مشهور يصبح و إن إلى حد ما مشهورا مثله .

10- ما مدى مشروعية الرأي الذي يروج اليوم باضمحلال سلطة النقد وتخلفها عن المنتج الإبداعي العربي؟

إن سلطة النقد خرافة . فهل استطاع النقاد العرب القدامى الذين انتصبوا خصوما للمتنبي أن يطيحوا بعرشه ؟  لقد ذهبت ريحهم . وظل هو كالطود الشامخ ينال شعره إعجاب الأجيال المتلاحقة على مر القرون .

لم يدّع الناقد الفرنسي الكبير رولان بارط يوما أن له  سلطة على الكتاب والشعراء . بل كان يلح دائما على أنه يقرأ من أجل التمتع بلذة النصوص الراقية التي تقع بين يديه .إنما السلطة الحقيقية في هذا المجال  يمتلكها  التاريخ  وحده  بفضل غرباله  الدقيق الصارم  الذي لا  ينفذ من مسامه إلا المتميز حقا  . أما  العادي ولا أقول الرديء فلا أمل له البتة  في البقاء مهما وجد من إعانة ودعم ونفخ بعض النقاد  المتحيزين المتواطئين في صورته .

فالناقد اليوم قارئ جيد بفضل ما يمتلكه من معرفة معمقة  بالمدونة التي يدرسها و إنصاته لنبض الساحة الأدبية وإلمامه بقضايا الراهن .

11 – كثيرا ما يشار الى أن النقد تابع للإبداع  وأنه هو الذي يشرع لوجوده . فلماذا هذه النظرة الدونية إلى النقد في البيئة العربية؟

إن النقد تابع فعلا للإبداع  لكن ليس في هذه التبعية ما يضير . فالشكلانيون الروس مثلا  استنبطوا نظريتهم من نصوص بوشكين وقوقول ومايكوفسكي وتشيكوف وتولستوي ودوستافسكي  وبلزاك وموباسان وغيرهم من الشعراء والكتاب السرديين الأفذاذ  .وقس على ذلك كل المدارس النقدية في العالم . فالإبداع أولا ثم يأتي النقاد  لتفكيك النصوص  قصد استخلاص الطرائق  التي وفقها بنيت والأساليب  التي  بمقتضاها  أنشئت  . هذه حقيقة تاريخية  لا يرقى إليها الشك . لكن النقد ،  مع ذلك ،  إذا أنتج نظريات متماسكة  و صمم بدائل  فنية صلبة أمكن له أن يؤثر تأثيرا عميقا  في الكتابة الإبداعية  بفضل ما يفتحه أمام الشعراء والكتاب السرديين من مسالك جديدة .ومعنى ذلك أن ليس ثمت أي مانع من  أن يتحول  التابع  إذا صلب عوده الى رائد . أولم يسهم غربال ميخائيل نعيمة مثلا  على صغر حجمه في تطوير القصيدة العربية  شكلا ومحتوى  في النصف الأول من القرن العشرين ؟

12 – هل تؤمن بإمكان إسهام  النقد الجيد في اكتشاف قامات إبداعية قادمة على عجل؟

طبعا . إن من الملكات الضرورية التي ينبغي أن تتوفر في الناقد قوة الحدس . فبفضل هذه الملكة يستطيع أن يحزر إن كان  لاسم صاحب الأثر الذي يقرؤه  حظ في البقاء بعد خمسين أو مائة  أو ألف سنة . فإذا آمن بقدراته الإبداعية كتب عنه وراهن عليه . وإلا فالأفضل أن يتجاهله وأن يلتفت إلى غيره  لأنه ليست  كل محاولة أدبية جديرة بالدرس   . ومن حسن حظي أن معظم الذين راهنت عليهم في الأربعين سنة الماضية أكدوا جدارتهم بثقتي في مواهبهم . ولهذا حين تتصفح كتبي تجدني لا أعتمد معيار السن ولا  الأقدمية في الساحة الأدبية ولا  حجم المدونة  ولا الألقاب ولا الجوائز بل اتبع حدسي ومعرفتي لمسيرات المبدعين الكبار في العالم قديما وحديثا  وأقيس هؤلاء على أولئك. و مهما يكن من أمر فليس ثمت أي إشكال إذا أخطأ الناقد في  التقدير لأنه ليس نبيا يوحى إليه .

13 – هناك بعض الأعمال الإبداعية تجد صدى واسعا لدى القراء والمتقبل في حين أنها تبدو ضعيفة في نظر النقاد، فبماذا تفسر هذا ؟ وهل من الصعوبة بمكان الجمع بين ذائقة المتقبل ورأي الناقد؟

من المعلوم منذ القديم أن شهرة الشاعر أو الكاتب أو الفنان تسهم فيها عوامل كثيرة متنوعة  منها ما هو ذاتي يعود إلى تفوق المدونة الإبداعية في حد ذاتها  ومنها ما هو خارجي كحساسية القضايا المتناولة  لاسيما ما يتصل بالثالوث المحرم ( الجنس والسياسة والدين ) أو العلاقات الخاصة بأجهزة الإعلام . أما  الشهرة المستحقة فتكتسب من   إجماع النقاد و غزارة  الدراسات والبحوث التي  تتناول آثار شاعر  أو كاتب معين ( صدرت مثلا سبعمائة دراسة عن الشابي لخمسمائة ناقد وباحث وثلاثون كتابا عن محمود المسعدي ومائة دراسة عن الدوعاجي  رغم أنه لم يترك سوى مجموعة قصصية صغيرة ورحلة مبتورة ). وأما  الشهرة المفتعلة  فهي دون أدنى شك عابرة ومعرّضة للزوال بزوال العوامل الخارجية التي نشأت عنها .

   14 – هل صحيح أن انتشار الوسائط التكنولوجية الحديثة وسيطرة ثقافة الصورة والأنترنت قلصت من نسبة القراءة والمطالعة في مجتمعاتنا العربية.

الفضائيات والفيديو قلصت فعلا من نسبة الإقبال  على المطالعة لقيامهما أساسا على الصورة  . لكن الأنترنات سرعان ما  أعادت الأمور إلى نصابها . فأكثر مستعمليها يلجؤون إلى القراءة والكتابة بفضل مئات الملايين من  النصوص  التي تنشر فيها  ويقبل الناس على قراءتها . وهي  تستجيب لكل الشواغل و وتتماشى مع جميع المستويات التعليمية. وبذلك تغيرت صورة الكتاب في هذا العصر  فصار ألكترونيا بعد أن كان ورقيا فقط . وهذا يعد مكسبا لأن المهم هو الاطلاع على محتوى الكتاب  لا نوعية المادة التي يصنع منها.

15 – هل صحيح أننا نعيش أزمة ثقة وعلاقة توتر بين الكاتب والقارئ في المرحلة الراهنة؟ وما هي أسباب هذا التوتر؟

في هذا السؤال  تعميم لا يطابق الواقع .ففي كل الفترات يظهر عدد كثير من كتاب الشعر والسرد وبعض كتاب النقد فيملؤون السوق يكتبهم  . لكن القارئ لا يقبل على قراءة إلا المتميز منها  حرصا على الاستفادة واجتناب التبذير . لذا فللشعراء والكتاب المهمين  جمهور  محترم في كل عصر ومصر .أما العاديون العاجزون عن الإضافة فمن الطبيعي ألا يقبل الناس على قراءة ما يكتبونه . وأرقام البيع التي تسجل كل سنة في معرض الكتاب الدولي بتونس دليل على ترسخ عادة القراءة في الشعب التونسي . لكن هذا الجمهور الضخم لا يقرأ لكل من يكتب وينشر . وادعاء  غياب القارئ صادر عن هذا الصنف من ممارسي الكتابة حتى لا أستعمل لفظ ” كتّاب ” . وهكذا كما ترى لا توجد علاقة توتر بين القارئ والمؤلف إنما القارئ الحصيف انتقائي بطبيعته .

16 – ألا توافقني الرأي  في أن حرية النشر المطلقة التي يتميز بها الفضاء الافتراضي قد جعلت الأمور تختلط على القارئ؟و أنه قد اختلط الحابل بالنابل حتى ما عدنا نفرق بين الباث والمتقبل؟

إن المرحلة الحالية التي تمر بها البشرية طبيعية جدا . فالثورة الاتصالية التي تجتاح العالم اليوم هي من ثمار التقدم العلمي والتكنولوجي .لكن هذا التقدم تنجر عنه أيضا مشكلات عرضية طبيعية أيضا منها هذه الفوضى التي نلاحظها في شبكة الأنترنات واستغلال بعضهم هذا الاختراع العظيم لأغراض لاأخلاقية أو عنصرية . كل هذا يشبه التلوث الذي نتج عن اختراع المحرك وآلات النقل المتطورة والمعامل والمصانع المجهزة بأحدث المعدات . ولعمري إن العلم لقادر على التخفيف من حدة هذه المشكلات العرضية . لكن الأمر يحتاج في تقديري إلى وقت كاف .

17 – هل غيرت الأنترنت من مفهوم الكتابة وأسهمت في بروز أنماط تعبيرية مستحدثة؟

كلا … إن القضايا التي نخوض فيها على شبكة الأنترنات فيما يتعلق بالنصوص الإبداعية  التي ينشرها بعض الشعراء والكتاب هي نفسها التي نتجادل في شأنها في دور الثقافة والنوادي الأدبية وعلى صفحات الجرائد والمجلات . وهذا من شأنه أن يسهم في  المحافظة  على معايير الإبداع . لذا لم ألاحظ ظهور أنماط جديدة في الكتابة .

18 – يشتكي أغلب الكتاب التونسيين اليوم من عدم اللامبالاة التي يلقونها من قبل النقاد الذين  يركزون كل جهدهم النقدي على  تجارب معينة  لشعراء وكتاب أموات مثل الشابي والمسعدي ومصطفى خريف ويهملون تجارب إبداعية لافتة أصحابها من الأحياء؟

لا يحق لأحد ممن يكتب  و ينشر أن يطالب بالنقد فضلا عن الاحتجاج على عدم اهتمام النقاد بما يكتب .وذلك لأن النقد ،كما قلت لك، قراءة. والناقد مواطن حر يقرأ ما يشاء ويكتب عما يشاء مما يقرؤه .  والخطأ كل الخطإ  أن يتصوره بعضهم  بمنزلة الموظف المكلف بتسجيل المواليد الجدد  في مصالح الحالة المدنية بالبلديات . فإذا تقدم إليه مواطن لتسجيل مولود جديد كان مجبرا قانونيا على تسجيله . إنما الكتاب الأدبي  ، على عكس ذلك ، بضاعة والقارئ حريف . فهو حر في اقتنائه أو عدم اقتنائه ، في الاحتفاظ به أو رميه في القمامة بعد الاطلاع عليه أو حتى دون الاطلاع عليه. فمثلما أن  أن المؤلف حر ّحين يكتب فإن الناقد حر في اقتناء ما ينشر وفي قراءته والكتابة عنه. ولما كان الناقد يكتب للمتعة الفنية فهل  من أهمية لأن يكون المؤلف المعني بالنقد حيا أو ميتا ؟ وإذا كانت آثار المؤلف الميت ينبوعا ثرا لا يجف  من الدلالات ،  بقدر ما تعيد قراءتها  تخرج منها بنتائج جديدة  –  وهذه هي حال  آثار الشابي والمسعدي واالبشير خريف وعلى الدوعاجي فما المانع من أن  تعاد دراستها ؟

19 – هناك الكثير من الأصوات النقدية والإبداعية التي تنظر اليوم لاضمحلال المفهوم الكلاسيكي للكتابة الأدبية وتؤمن بتداخل الأجناس وتقاطع وسائل التعبير الفنية وضرورة انفتاح بعضها  على بعض، فما مدى وجاهة هذا الرأي؟ وهل أنت من أنصار تداخل الأجناس الأدبية وتظافرها ؟

إن الذين يقولون هذا الكلام اليوم يستحقون   الإشفاق  لجهلهم المدونة الأدبية التونسية . فهم لا يعرفون مثلا أن حركة الطليعة التونسية ( 1968 – 1972 ) قد نظّرت بعمق وبكثافة لفكرة تداخل الأجناس الأدبية  كما مارستها  على نحو مكثف في مستوى التطبيق . وما عليك إلا أن تعود مثلا إلى مجموعة ” فضاء ” للمرحوم محمود التونسي  التي صدرت سنة 1973 بتونس لتجدني أنظّر في مقدمتها لهذه التقنية في الكتابة  ولتجد صاحب الكتاب يجسمها في نصوص يتداخل فيها السرد والمسرح والرسم والشعر.

أما موقفي الشخصي من  الإبداع فهو لا يتأثر بأسلوب دون آخر . فالذي يهمني هو تفوق النص في اللون الذي كتبه فيه صاحبه  دون اعتبار لكونه تقليديا أو حداثيا . وذلك لأن الرداءة  يمكن أن توجد  مهما كان الاتجاه الفني والفكري لصاحب الأثر . والحق أن جحافل المتطفلين على الإبداع   تعج بهم كل الصفوف . ولا فرق لدي بين متطفل على التقليد ومنتسب زيفا إلى التجديد .

20 – كيف يتعامل الناقد مع حمى الكتابات المستحدثة في الساحة الإبداعية التي تحاول افتكاك مشروعيتها تحت راية التجريب؟

أنت تلقي علي هذا السؤال لأنك لم تطلع على سيل المقالات التي نشرتها في نهاية الستينات وبداية السبعينات وخصصتها لدراسة النصوص التجريبية للطليعيين . وكانت وقتئذ رائدة عربيا .

فالتجريب في جوهره هو كتابة نص على غير منوال  .وهو أمر مشروع  على شرط أن يكون المجرب فنانا حقيقيا يفتنك بطرافة أسلوبه ويسرح بك في العالم المتخيل البديع  الذي أنشأته مخيلته .أما إذا وجدته يهدم لمجرد الهدم ولا يقيم  في محل ما يهدمه بناء جديدا فهل ثمة أسهل من الهدم  ؟

فمناقشة هذه القضية تعود  بنا  دائما إلى نقطة انطلاق جوهرية لا بد منها وهي مدى تمتع الشخص الذي  يكتب بملكات خارقة سواء كان تجريبيا أو خاضعا لقواعد الكتابة المنمطة  .ويعني هذا أن إلا بداع  ليس مرتهنا بلون الكتابة ( نمطية أو تجريبية ، تقليدية أو حداثية ) بل بالقدرات التي يمتلكها  الكاتب على أصعدة التخيل والحدس والحساسية . وهي ملكات أضحت تقاس اليوم علميا  تماما كالذكاء .

21 – كيف تقوم المشهد الإبداعي التونسي اليوم؟وهل هناك تجارب إبداعية يمكن أن يكون لها شأن عربي أو عالمي في قادم الأيام؟

عندنا في تونس قرابة الألف مواطن ينشرون الشعر منهم حوالي سبعين شاعرا وسبعمائة مواطن ينشرون القصة والرواية منهم ما يقارب الثلاثين قصاصا وروائيا .

ويمكن أن ننتخب من هؤلاء وأولئك قرابة الخمسة عشر اسما  لنصوصهم قيمة عالمية.

وهناك جيل تسعيني بصدد النضج وتراكم الأعمال الشعرية والسردية قادم على مهل . وستعزز عناصر منه هذه النخبة من المبدعين .

22 –  اليوم تعالت في العالم العربي صيحات الفزع التي تخشى على اللغة العربية من التشويه والاندثار. ولعل ذلك يظهر بوضوح في الدعوات المتكررة من قبل الألكسو الى ضرورة الاعتناء أكثر باللغة العربية وإصلاح المنظومات التعليمية في كافة الأقطار العربية، فكيف تنظر إلى المسألة؟

إن وضع العربية اليوم لا تحسد عليه . فهي بعد ستة أو سبعة عقود من حصول الأقطار العربية على استقلالها  لا تزال لغة الدين والسياسة والأدب . والمعلوم أن أي لغة تعزل نفسها أو يعزلها أهلها عن علوم العصر  تكون مهددة بالانقراض . فالعلوم في معظم الأقطار العربية تدرس بالفرنسية والانقليزية  والبحوث العلمية تكتب بهاتين اللغتين . وأسباب ذلك كثيرة منها عدم توفر المصطلحات اللازمة-  وأعدادها بمئات الآلاف في كل تخصص علمي مع تناسلها السريع –   وعجز العرب عن تعقبها بالترجمة وإيصال  ما يترجم منها بالسرعة الكافية إلى  أهل التخصص في كل قطر عربي .

يضاف إلى ذلك تعدد المجامع اللغوية العربية وعدم التنسيق بين أعمالها وغياب القوانين التي تلزم الدول بتنفيذ قراراتها .

فمجمع اللغة الفرنسية مثلا –  وهو مجمع موحد –  تخضع لقراراته كل المؤسسات السياسية  والعلمية والتعليمية والإعلامية بالبلاد  وله صلاحية التدخل لإصلاح خطإ أو فرض استعمال لفظ جديد ، كما ينضبط لأوامره الناطقون بالفرنسية في بلجيكا وسويسرا والكندا .

وقاموس لاروس الفرنسي يحين كل سنة بإدراج ما تواتر من ألفاظ جديدة  وحذف ما مات منها . وهو ما يجعله يوفر لمستعمله كل الألفاظ التي يحتاجها  للتعبير عن معطيا ت الحياة العصرية .وهذا يحرم منه المعلم والأستاذ والتلميذ والكاتب والصحفي في الوطن العربي حيث تعاني القواميس فقرا مدقعا  وأكثر ألفاظها تحيل على البيئة البدوية حتى القرن الرابع الهجري .

والحلول معروفة لكن لا أحد تجرأ على  إدخالها حيز التنفيذ أهمها التوحيد العاجل للمجامع وفتح فروع للمجمع الموحد في كل الأقطار العربية وإصدار قوانين تتيح له سلطة القرار و صلاحية التدخل وإنشاء مراصد لغوية تتولى قراءة كل ما يصدر من نصوص عربية  وإحصاء ما يتواتر منها قصد إثباته في المعجم  بعد تقييسه والمصادقة العلمية عليه .

23 – كيف تنظر أستاذ محمد إلى دور الإعلام  في  المحافظة  على  سلامة اللغة العربية أو على العكس فيما يتسبب فيه من إضعافها وتشويهها ؟  وهذه العلاقة الاشكالية  بين الإعلام واللغة العربية  أ هي خاصة  بالتلفزة وتأثيرها القوي في النشء؟

لوسائل الإعلام  العربية لاسيما  المرئية  والمسموعة منها  دور  لغوي خطير فعلا  في المجتمع . فإما أن تنهض باللغة القومية وإما أن تتسبب في إضعافها . والخطر متأت من مصدرين : الأول اللغة الدارجة المحلية والآخر اللغات الأعجمية .  فلقد استفحلت في السنوات الأخيرة ظاهرة العردارجة . وهي لغة وسطى تجمع بين الفصحى ولهجة من اللهجات العربية . وقد بدأت هذه اللغة الهجينة تتسرب إلى  لغة تلاميذ المدارس وحتى طلبة الجامعات .

والمصدر الآخر هو لغة المستعمر السابق التي تتسرب منها عشرات التراكيب ومئات الألفاظ المعربة صوتيا . وهو ما يحول اللغة العربية إلى لغة خلاسية . فإذا هي عربية الحروف لكن أعجمية البنى والمفردات .وخطر هذا الوضع جسيم لأن من شأنه إفقاد لغة الضاد خصوصيتها مثلما حصل للغة المالطية التي هي اليوم مزيج من العربية والايطالية والانقليزية .

والحل هو تركيز لجان تتألف من مدرسي العربية المتقاعدين توكل إليهم مهمة مراجعة البرامج لغويا قبل بثها .

24 – كيف تنظر إلى واقع الترجمة اليوم في العالم العربيوالى مراكز الترجمة الناشئة حديثا؟ولكن السؤال الذي يطرح اليوم هو:ماذا يجب علينا أن نترجم في هذا الظرف الراهن؟ ووفق أي إستراتيجية؟

إن وضع الترجمة في العالم العربي مترد . فالمخابر ومراكز البحوث في العالم المتقدم  تضع كل سنة مئات المصطلحات الجديدة لكن العرب لا يبذلون الجهد اللازم في متابعة ما يصدر  فضلا عن ترجمته  . أما الكتب الأدبية والحضارية فلا تثير إشكالا  لأن الكثير منها يترجم  ويصل إلى القارئ العربي الوحيد اللغة  و إن كان يغلب على ما يترجم التسرع  والافتقار إلى الدقة .

أما الترجمة للآخر أي ترجمة الكتب العربية إلى اللغات الأجنبية  فتقف دونه عوائق جمة . فالسوق الفرنسية مثلا تكاد تكون مغلقة أمام الكتاب التونسي المؤلف باللغة الفرنسية . وهذا لا يساعد على  إيصال ما نترجمه من إنتاج أدبائنا  إلى  الناطقين الأصليين بتلك اللغة . فلماذا نترجم إلى الفرنسية إذن ؟  لكن الأمر لا ينعكس فالسوق التونسية مفتوحة أمام الكتب الفرنسية على مصراعيها .

25 – ونحن نتحدث عن الترجمة أستاذ محمد  ومن منظور تجربتك هل أنت مع الجاحظ الذي يعتبر أن ترجمة الشعر أمر عسير إن لم يكن مستحيلا؟

كون ترجمة الشعر أمرا عسيرا هو حقيقة  لا شك فيها  لأن هذا النوع من الترجمة  يحتاج إلى خصال أخرى غير إتقان لغتين . فلا بد من أن يتمتع المترجم بحس شاعري  ومن أن يكون محبا للشعر الذي يترجمه وعارفا بتجربة صاحبه . هذا فيما يتعلق بالشروط الخارجية . أما عملية الترجمة في حد ذاتها فينبغي أن تتحقق بأن يستحضر المترجم الحالة التي عاشها الشاعر عند إنشائه لكل عبارة ثم أن يحاول التعبير عنها باللغة الهدف .

أما مراجعة النص المترجم فيتعين أن يؤديها شعراء من أهل اللغة المترجم إليها . وقد قمنا بمحاولة من هذا القبيل في دار إشراق للنشر التي أشرف عليها  تجسدت في  نقل المترجمة التونسية ابتسام ساسي مجموعة من قصائد الشاعرة إيمان عمارة  إلى اللغة الفرنسية . وقد توفرت فيها كل الشروط التي ذكرتها أعلاه ثم عند الفراغ من عملية الترجمة أحلنا الكتاب على أستاذة جامعية متخصصة في اللغة الفرنسية فراجعته  ثم من بعدها على أربعة شعراء فرنسيين كتب كل واحد منهم شهادة خطية نشرت في آخر الكتاب . وكان إجماع هؤلاء  جميعا على جودة النص في صيغته النهائية .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*