سيكولوجيا الحزنِ وتمرّدُ الذّاتِ الشّاعرةِ في مجموعة لتكنْ مشيئةُ الربيعِ* الشّعريةِ لسوزان إبراهيم :دراسة : عماد الفيّاض – دمشق – سورية

عماد الفيّاض

سوزان إبراهيم

لتكن مشيئة الربيع هي المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة سوزان إبراهيم بعد ثلاث مجموعات قصصية. وربما لهذا السبب يبدو تأثير القصة واضحا في القصائد التي أودعتها فيها  لا سيما الاستعمال المكثف للسرد والحوار.

إن اللافت للانتباه في هذه المجموعة  هو طغيان ثيمة الحزن على أغلب القصائد. وعند البحث في أسباب  هذه الظاهرة نكتشف أنها تعود إلى سيكولوجيا الذات الشاعرة التي تعيش ظروفا محبطة ناتجة عن عدم فهم الآخر لها. وأعني به الرجل المتمترس وراء عقلية تقليدية تجاوزها الزمن. والى جانب  إلى هذه الثيمة الرئيسة  يلاحظ وجود ثيمة أخرى هي تمرد المرأة على تلك العقلية الذكورية .

ومن جهة أخرى في المستوى الأسلوبي  لا تخلو  شعر الشاعرة أحياناً من إيقاع التفعيلة على الرغم من أنها  لا تكتب إلا قصيدة النثر.

 

  الحزن وتصدع الأنا:

تطغى في القسم الذي عنونته ب”مشيئة الربيع” القصائد ذات النبرة الحزينة ، الطافحة لوعة مبطنة. ومرد ذلك  إلى تصدع العلاقة بين الذات الشاعرة و(الرجل)وانتهائها الى فراق . فالحزن ،إذن، في ما يظهر، ليس حزنا مترسّخا وإنما هو ناتج عن علاقة قديمة انتهت وتركت وراءها جراحا في الذات الشاعرة وسيكولوجيا قلقة ،متوترة.

“في المساء حين لا تأتي

تتوكأ الروحُ

على عكاز يأسٍ

يقعدها عند مفارق الألم

يشب عن الطوق

نخيل احتضار

واجف قلبي خلف الضلوع

ومثخنة بطعم الغياب

شفاهي ص9″

يلوح من هذه الأبيات انشغال الذات الشاعرة بالانتظار. وهو ما يعززه  اختيار عنوان القصيدة :” حين لا تأتي” الذي ينطوي في حد ذاته على كم كبير من الحزن. فهو غائب. أما هي فهي تنتظر وحيدة مع وساوسها وهواجسها. هذه الأبيات  يكشف عن راقات النفس العميقة. ثم إن  المتكلمة لا تحدد الفترة الزمنية التي استغرقها الانتظار. لكن اللغة الشعرية الجوانية التي استعملتها توحي بطول هذه المدة. والذي يؤكد طول فترة غيابه عنها  افتتاح النص بهذه الجملة التي تأخذ بتلابيب القارئ والتي تسمى بالإنكليزية hook sentence (في المساء حين لا تأتي). و من خصائصها أنه  يتولد عنها السرد الشائق الذي يستدرج القارئ للمتابعة حتى النهاية فيما يسمى hook narration حيث تتوالى الأفعال المضارعة: تتوكأ/ يقعدها/ تشب/.ومن خلال هذه العملية يبدو أن هناك انتظاراً يومياً لعودة الغائب. وهو انتظار طويل، على ما يبدو، لأنه يعنّي الروح (تتوكأ الروح على عكاز يأس) .وفي هذا القول ، كما نرى،انزياح  قوي يشحن الكلمة بالكثير  من المعنى, فإذا صارت الروح هي التي تتوكأ على عكاز الانتظار، فمعنى هذا أن الجسد قد تلف وذاب. ولكن الذات الشاعرة لا تعاني فقط طول الانتظار وإنما  الهجران أيضا .وهو أشد إيلاماً. وهذا  جلي في قولها : (ومثخنة بطعم الغياب شفاهي). وفي هذا إيحاء بفقدان التواصل وحميمية علاقة الحب.

ويستمر اشتغال الشاعرة بثيمة الحزن وخاصة منه الناتج عن الغياب في قصيدة “أمام الشعر أعترف” .وهذا الغياب لا تفصح عن هوية المتصف به : أهو الحبيب أم العشيق أم الزوج؟

“لك..

مثلما للبحر..

عمق..

واتساع..

فهل يعبر..

شراع قلبي الأخير

كنورسين..

يداك..

تبشران بأرض

وقد..

“آن لهذا الحزن أن يترجل” ص20

والملاحظ في الجملة الأخيرة أن التناص يشي بحجم الحزن الجاثم على الذات الشاعرة محمولاً على أمنية ضمنية بزواله لكنه يبدو  لا نهاية له . والدليل على ذلك ما تشي به التأتأة والتلعثم في قصيدة النص الغائب  الماثل في  استعمال تقنية الفراغ حيث يتبع التنقيط كل كلمة وحيث  لا توجد جملة واحدة مكتملة .وهو ما يشي بأن هذا الحزن مقيم وبأنه لن يترجل. وهذا اليقين ناتج عن خبرة سابقة  بالآخر تعزز عدم الثقة به. وهو المشبه بالبحر، البحر الذي يعني في علم النفس السر وعدم القدرة على التنبؤ بما يخبئه من مفاجآت.

وفي قصيدة “فضاء آخر للكستناء” يستمر  طغيان الحزن فيرشح من كل مفردة في القصيدة.

“أذكر أني

وقفت بباب يديك

أطلب وردا..

أو قمحا..

أو بعضا من ماء أخضر ص36

هنا نكتشف أن الذات الشاعرة لم تركب رأسها في حلاقها مع الرجل .وهذا ماثل في ما يصدر عنها من ترجّ وتنازل وما تتصف به في  معاملتها إياه من تواضع. لكن ماذا كانت النتيجة؟

“يا عصي التلون بغير السماء

أوغلت العطور في شرودي

وعاودني وجع المفارق

ليبقى الحزن..

على قيد.. احتراق ص37

رغم كل التنازلات التي قدمتها ورغم محاولاتها الاقتراب منه لم يتغير شيء.  فقد ظل يبتعد عنها  بعد السماء عن الأرض  . ولم يبق لديها غير الحزن الذي كان  عنواناً مباشراً لإحدى قصائدها. وهي قصيدة “كنت مشروع حزن” حيث  الحزن الذي كنا نبحث عنه في التفاصيل أصبح معلناً.

“عند تقاطع للحزن

التقيت بتائه

لونت أوراق خريفه

علمته أبجدية الفرح

ولما أينع العشق فينا

عاجلني بالرحيل ص44

تشف اللغة الشعرية هنا عن خلل بنيوي أورث هذا الحزن. وهو يكمن في الآخر الذي كان على وشك السقوط كورقة من أوراق الخريف وكان تائهاً لا يعرف سواء السبيل ولا مفردات الفرح .ومع ذلك حين تعلم الحب على يديها غادرها.

وما يعزز هذه الرؤية ما نلمسه في  هذه الأبيات التي استخدمت فيها  اللغة السرية الإشارية  المعبرة عن هذا الخلل والتي نفهم منها  حصول التفاف على الحب بعد محاولة فاشلة لتوفيره. فبقي الغائب الوحيد  بينها وبينه .وهو ما تشي به الكلام التالي  الذي يكشف عن وجود تنافر وصراع خفي.

تحاورنا..

اقترفنا الإحساس بالكلمات

ارتكبنا كل أنواع الذكاء

ونسينا الحب طفلا

على بوابة القلب يبكي

يتسول كسرة شوق ص45   

وهكذا فقد تحول الحب إلى متسول. وهذا الانزياح يدل على فداحة الخسران. ويعترضنا الحزن أيضا في قصيدة “ما عمر الكلمات” حيث تقول :

“للحزن..

شكل جرحي

عمقه..

لونه..

له وجه الخريف

وتساقط القصائد

والياسمين” (ص55 )

مما لا ريب فيه أن العودة  هنا إلى استخدام تقنية الفراغ تشير إلى المسكوت عنه. وهو حزنها الذي اتخذ  شكل جرح عميق. وهذا ما جعله لا  يقتصر على ظاهر النفس وإنما يتجاوزه إلى أعماق الروح. إنه حزن سيكولوجي مَكِين لا سبيل إلى زواله . له وجه كوجه الخريف منهتتساقط القصائد والياسمين. والذي تسبب في هذا الجرح النفسي  هو الآخر أي الرجل.

ولقد جعل  هذا الحزن الذات الشاعرة  في حالة اضطراب و حيرة  مستمرة .وذلك لأنها ضحت وقدمت كل شيء ولم تحصد سوى الخيبة والحزن.ومن هنا ورد على لسانها هذا  التساؤل المر:

“فلماذا صار الحزن مزارنا

بيتنا..

فيئ أشجارنا

كنت أحبك

حتى البكاء

حتى الوجع

بلهفة عاشقين

على شفير الوداع

توحدا..

كنت أحبك” (ص57 )

ينوس  هذه الأبيات بين حالتين: الأولى  هي استعذاب الحزن الذي تحول إلى مزار ، إذ هي  تعيش مرارة الحزن لأنها قدّمت كل شيء لم تبخل على الحب بشيء  لأجل أن يستمر وتكتب له حياة أطول. لكنه فشل ولم يترك سوى   المرارة . أما الحالة الثانية  فهي الاستعداد للطلاق من هذا الرجل والخلاص من الحزن الذي أغرقها فيه .وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في تكرار عبارة (كنت أحبك) مرتين .وبقدر ما تبدو هذه الإشارية  خارجية ووعابرة فهي عميقة تشي بما سيحدث لاحقاً.

  البحث في أسباب الحزن وانتهاء الحب :

“خوفي

على (عطيل) فيك,

يصحو متأخراً.

فأحسن القتل,” (ص21 )

في هذه الأبيات  النابعة من اللاوعي نضع اليد على أحد الأسباب الجوهرية للفراق والحزن الذي تولد عنه . فالآخر الشريك أي الرجل يشبه (عطيل). بل هو صورة أخرى له إذ هو رمز للغيرة العمياء ،ينصت على الدوام إلى دسائس الآخرين. وهذا ما جعله من صنف الرجال الذين لا يعول عليهم لإقامة علاقة سوية مبنية على الثقة المتبادلة.  فكانت  النتيجة أنه ترك شرخاً نفسياً عميقا في العلاقة لأنه منذ البدء  يعاني من شرخ نفسي  أو بعبارة أدق مريض نفسياً. وما يؤكد شخصية ذلك الرجل  المشكاك المتذبذب  هذا القول الصريح للشاعرة :

“فلماذا.. حرائق ظنك تحصدني

ولماذا صوتك يصلبني

على ألف احتمال” (ص53 )

فنحن هنا دون شك إزاء عطيل  يأكله الشك وتحرقه الغيرة تلك التي تحرق بالتبعية الأنثى. وهذا “العطيل” الجديد لا يصمت بل هو دائم التأنيب وإطلاق الإشارات المبطنة الجارحة لظنونه “ولماذا صوتك يصلبني على ألف احتمال” .

وبالعودة إلى انسرابات اللاوعي التي تشي بالأسباب الكامنة وراء حزن  الذات الشاعرة نقرأ ما يلي:

“مستبد نيرون فيك

تغريه الأنوثة

فوق مائدة الرماد” (ص43 )

وهكذا فبالإضافة إلى وجه الشبه السيكولوجي بين هذا الرجل وعطيل نجد لديه صورة أخرى مطابقة  لصورة نيرون وهذا يشي بحجم  الصادية والجنون  اللذين كانا يعصفان بعقله ووجدانه وعلاقته غير السليمة بالنساء.إنه  نيرون الذي لا يجد  منتهى المتعة  في تعذيب الآخر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*