ثلاثيّةُ الخلقِ و الوجودِ والغيابِ : مشروعُ قراءةٍ لمجموعةِ “خطايا لم يرتكبهْا أحدٌ” للشّاعرِ محمّد رضا الجلّالي : عثمان بن طالب – تونس

المرحوم عثمان بن طالب

المرحوم محمّد رضا الجلّالي

عاش محمّد رضا الجلاّلي الإنسانُ الكائنُ الاجتماعيُّ محنتين :محنة الإقامة في الهوامش والوعي الطّبقيّ بالفقر والقهر ومحنة الغياب واللاّستقرار و الإحساس  الوجوديّ العميق الحادّ بوحدته وفرادته وانفصاله عن الزّمان والمكان …لعلّ الكيان الشّعريّ الذي كان يسكنه ويؤرّقه ويقوده في ساعات الصّحو إلى القلم والورقة كان الأنيس الشّقيق الوحيد الذي جعله من حين إلى آخر يستريح من عناء السّفر ومرارة الوقت ومراودة فكرة الموت الذي لم يمهله كثيرا.

ولد بالرّقاب (ولاية سيدي بوزيد) في  6 مارس 1961ورحل عن الدّنيا في 17 جانفي 2000.فعاش أربعين سنة .لكنّ عمر الشّاعر لا يحتسب بالسّنوات بل بنبضات الرّوح التي وقّعت قصائده وأثثتها بالكلمات تنضح وجعا وغربة وتراتيل تستوطن أرخبيل البكاء.

بعد حصوله على شهادة  ختم الدّروس التّرشيحيّة اشتغل معلّما ثمّ صحافيّا ثمّ منشّطا بدور الثّقافة. انضمّ إلى نادي الشّعر بالنّادي الثّقافيّ الطّاهر الحدّاد سنة   1998 ثمّ أصبح عضوا باتّحاد  الكتّاب التّونسيّين  .

نشر مجموعة شعريّة واحدة بعنوان خطايا لم يرتكبها أحد (دار دمدوم 1997 ). فهو يعدّ إذن من شعراء الثّمانينات و التّسعينات,ولكنّه كان شاعرا متميّزا ومختلفا .كتب الشّعر الحرّ (قصيدة التّفعيلة) والنّثر الشّعريّ بقدرة فائقة على صياغة الصّور الشّعريّة والموسيقى الإيقاعيّة بجماليّة قلّ ما نجد مثيلا لها بين شعراء جيله.تتميّز أغلب نصوصه بالحواريّة من ناحية وبالبعد الملحميّ الوجوديّ من ناحية أخرى. لغته لغة شعريّة قويّة كأنّها مصقولة من صخر الجبال.

سأقترح في هذه النّدوة مشروع قراءة للمجموعة اليتيمة خطايا لم يرتكبها أحد..

والمقصود بمشروع القراءة هو تفكيك وتأويل مجالات الخيال الشّعريّ الذي يؤسّس هذه القصائد ويوزعها ويجعل منها بناءً هندسيّا دلاليّا لمشروع الكتابة .فمشروع القراءة  هو انعكاس لمشروع الكتابة، بمعنى أنّنا سنحاول أن نستجلي  من ناحية  الحقول الدّلاليّة التي تؤثّث مساحات النّصوص وتغذّيها بمدركات التّصوّر و تداعيات الصّور والحالات في خيال الشاعر ، ومن ناحية أخرى العلائق المنطقيّة بين هذه الحقول الدّلاليّة التي تربط النّصوص بعضها ببعض وتجعل من المجموعة الشّعريّة بناءً متكاملا تتحكّم في ترابطه وتجانسه جدليّة معيّنة هي نفسها الجدليّة التي سأبني على أساسها مشروع هذه القراءة .

تضمّ المجموعة 37 قصيدة .كتبت هذه القصائد بين سنة  1978(” صوت الفلاحة” جانفي 1978) وسنة 1992 (4 قصائد). خلال هذه الفترة (14سنة). كان الشّاعر يكتب بانتظام  ولكنّه كان في حالة عدم استقرار .كان يتنقّل بين قفصة والمرسى وسوسة والرّقاب وسيدي بوزيد و قابس وبغداد  وصفاقس و تونس.

كان هذا اللاّستقرار الجغرافيّ يعكس أيضا حالة اضطرابٍ وإحساسا  بالغربة والوحدة .

تبيّن لي بعد قراءة المجموعة عدّة مرّات أنّ الشّاعر لم يرتّب النّصوص بصفة اعتباطية. فالتّرتيب لم يخضع لمنطق المكان ولا لمنطق الزّمان ،إذ هناك  تداخل بين  التّواريخ من ناحية وبين المدن والأمكنة التي كتبت فيها القصائد من ناحية أخرى. لقد تعمّد الشّاعر خلط الأمكنة والأزمنة لأنّه أراد أن يكون ترتيب القصائد خاضعا لرؤية شعريّة خفيّة باطنيّة تتّمثل في جدليّة الخلق /التّكوين/ الوجود/الموت/الغياب.

جدليّة الخلق / الوجود /الغياب :

هي فعلا”جدليّة “، أوّلا لأنّها ثلاثيّة الأبعاد وثانيا لأنّها بنية منطقيّة ثابتة لحركة الولادة والحياة والموت .

فكأنّي بالشّاعر أراد متعمّدا أن يعكس هذا القانون الجدليّ لعلاقة الكائن بالكيان والكون في بناء composition)) مجموعته الشّعريّة فجاءت القصائد في ترتيبها وتسلسلها صورة عاكسة لهذه المحطّات الثّلاث في مصير الإنسان من التّكوين إلى الوجود إلى الموت والعدم والفناء.

وقبل قراءة  مضامين هذه الرّؤية الشّعريّة  وما قد تحيل إليه من أبعاد وجوديّة تتجاوز الذّات الشعريّة ( (le moi poétiqueأودّ الإشارة إلى أمرين يؤكّدان ما سأبيّنه عن هذه الجدليّة.

أوّلا:نلاحظ تواتر الإشارات والإحالات إلى النّصوص المقدّسة والمراجع الأسطوريّة والمدوّنة الصّوفيّة وخاصّة فيما يتعلّق بقصّة التّكوين (le récit de la genèse.  (وسؤال الوجود والموت وتقمّص الشّاعر لصورة الله  الخالق الواحد بفعل “كن فيكون”.

وثانيا نلاحظ أن اللافت في هذا التماهي بين الشاعر والإله هو أن الكيان  الشّعريّ في رحلة الحياة والوجود يصبح كائنا اجتماعيّا بسيطا فقيرا شقيّا نستجلي حالاته وتحوّلاته في أغلب القصائد فلا نعثر على لحظة سعادة أو حتّى فرح عابر بل تتواتر النّصوص  على وقع المعاناة والحرمان والعجز. تشبه أغلب القصائد اللّوحات  الرّماديّة  لليوميّ المعيش والقاسم المشترك بينها هو معنى السّقوط (la chute) والخطيئة المتكرّرة في تنوّعات الشّقاء وتلوينات الخطايا التي لم يرتكبها أحد.

ثانيا : يهدي الشّاعر قصيدة  ” شجرة الخلق يا ندم الأبد ” التي أرادها نصّا افتتاحيّا لمجموعته إلى رمز تراثيّ يعتبر من أهمّ رموز الفكر الصّوفيّ . وتبيّن صيغة الإهداء أنّ الشّاعر يعلن انتماءه إلى هذه السّلالة :

إلى صديقي الحسين بن منصور الحلاّج“.

يعتبر هذا الإهداء من مفاتيح الدّخول للنّصوص وفهمها إذ له أكثر من دلالة  لها علاقة بمضامين القصائد. وهناك على الأقل مستويان :

-مستوى رمزيّ يتعلّق بجوهر نظريّة التّصوّف ومستوى اجتماعيّ تاريخيّ ذو صلة بعلاقة هذه التّجربة بالسّلطة السّياسيّة وواقع الاستبداد والقهر. يحيلنا المستوى الأوّل  إلى نظريّة الحلول عند المتصوّفة (حلول الله في روح المرء.  (يصبح الشّاعر حلاّج عصره عندما يتقمّص صورة الإله ويحاكي فعل الخلق إلى حدّ التّوحّد مع مخلوقاته. يقول أبو المغيث  الحسين بن منصور الحلاّج : ” ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله فيه.” ويقول :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا .

نحن روحان حللنا بدنا.

فإذا أبصرته  أبصرتني.

وإذا أبصرته أبصرتنا.

عندما يتكلّم الشّاعر بلسان الله في هذا النّصّ الافتتاحيّ فهو في حقيقة الأمر  يمارس تجربة  الإبداع الشّعريّ  بمنهج التّأمّل في الموجودات  قصد إضفاء المعنى  على وجودها.إنّه منهج الحلاّج يعتمد الفكرة  القائلة بأنّ الله ليس إلها منفردا  عن مخلوقاته  بل إنّه يمثّل قدر البشر المحتوم الذي سيذوب فيه البشر .

أمّا المستوى الثّاني لفهم العلاقة بين الشّاعر والحلاّج فهو يحيلنا إلى التّشابه اللاّفت بين الموقع والموقف بين الكيانين.إنّه الموقع الاجتماعيّ مع المقهورين الفقراء الثّائرين ضدّ أسباب القهر والفقر و أصحاب النّفوذ و ممارسي الاستبداد.

دخل الحلاّج معترك الصّراع السّياسيّ في البلاط العبّاسيّ إلى أن أعدم بعد التّضييق عليه بتهم (خطايا) دينيّة وسياسيّة لم يرتكبها مثل الزندقة والإلحاد .لقد دامت محاكمته تسع سنوات. خاطب قضاته وهم يحكمون عليه بالموت صلبا وتقطيعا وحرقا قائلا :

دمي حرام (…) وما يحلّ لكم أن تتّهموني بما يخالف عقيدتي (..) فالله الله في دمي“.

إنّ تصوّف الحلاّج هو جهاد ضدّ الظّلم والطّغيان في الّنفس والمجتمع.

ينحاز الشّاعر محمّد رضا الجلاّلي أيضا في جلّ قصائده إلى طبقة الفلاّحين الفقراء والعمّال المستغلّين دون أن يسقط في الكتابة الإيديولوجيّة المباشراتيّة. كان الحلاّج ثائرا بقلمه وفكره على الدّولة العبّاسيّة ومظالمها وخاصّة الأوضاع القاسية التي  كان يعاني منها الزّنج (عبيد من أصول إفريقيّة) في  مناجم الملح والتي أدّت إلى ثورتهم والقضاء عليهم .وكان أيضا مدافعا عن البدو الجائعين الذي نزحوا إلى البصرة وبغداد بحثا عن القوت . لم يكن ٱلحلّاج قائدا أو زعيما بل كان زاهدا له مريدون يسمّيهم في قصائده ” أصحابي وخلاّني “.

بعد هذا الإهداء إلى صديقه وصاحبه ٱلحلّاج يضيف الشّاعر تصديرا لنصّه الافتتاحيّ له تقريبا نفس الرّمزيّة  :

أنا كلُّ ما كانَ وما سيكونُ….قناعي لم يكشفْهُ بعدُ إنسانٌ “.

ينسب الشّاعر هذا القول إلى إيزيس. فمن هي إيزيس ؟ هي شقيقة أوزوريس وزوجته وبطلة  القصّة الأكثر تأثيرا ضمن الأساطير الفرعونيّة .أسطورة الحبّ الأوّل في تاريخ البشريّة. تنحدر إيزيس من أصول إلهيّة، إله السّماء و إلهة الأرض. حكمت مع زوجها مصر بالعدل والرّحمة. معاني الأسطورة ترتبط هنا  بحياة الإنسان و بفكرة الموت والأحياء والصّراع بين الخير والشّرّ على مرّ العصور.

بعد هذا التّقديم الذي يضع المجموعة في إطارها نستعرض الآن الحقول الدّلاليّة الثّلاثة التي أشرنا إليها باعتبارها جدليّة تهيكل البنية العامّة للمجموعة ورؤية شعريّة متناسقة لقصّة الخلق والوجود والموت.

  • الحقل الدّلاليّ الأوّل :فعل الخلق والتّكوين :

يتجسّد هذا الحقل الدّلاليّ الأوّل في النّصّ الافتتاحيّ “شجرة الخلق يا ندم الأبد” ويمكن اعتبار هذه القصيدة نصّا برامجيّا  «poème–programme  ». فقصّة الخلق  هي قبل كلّ شيء صورة مجازيّة لفعل الكتابة باعتبارها إبداعا وإنشاء.

هي فعل لغويّ ينزاح عن اللّغة بأدواتها بكسر قوانينها التّركيبيّة والمعجميّة وابتكار علائق جديدة بين مفرداتها ومدلولاتها.

وقد لفت انتباهي اختيار ٱلجلاّلي هذا النّصّ ليكون فاتحة لاستهلال المجموعة رغم أنّه أخر نصّ كتبه  (سنة 1992) مقارنة بتواريخ كتابة النّصوص الأخرى. ذكّرني هذا الاختيار بما قام به الشّاعر الفرنسيّ أبوليبنار الذي اختار قصيدة”منطقة” (zone )ليكون أوّل نصّ في ديوانه “كحول” (Alcools) رغم أنّه كتب هذه القصيدة  عندما انتهى من كتابة بقية قصائد الدّيوان. من المفيد منهجيّا أن نبحث في دلالة هذا الاختيار.

بالنّسبة  إلى شاعرنا محمّد رضا الجلاّلي  لا يتطلّب التّفسير جهدا كبيرا عندما ننزّله في إطار الجدليّة الشّعريّة لقصّة الخلق والوجود والموت والخلق والتّكوين .

التّكوين هو بداية قصّة الإنسان في الوجود.إنّه زمن البراءة قبل الخطيئة ولحظة الخروج من العدم .تتمّ عمليّة الخلق في القصيدة بقوّة الفعل القوليّ وقدرته بفعل “كان” في صيغة الأمر.

يفتتح الشّاعر هذا الفصل من الخلق بالقول :[1]

  بيدي هاتينِ أنا سوّيتُ لها هذا الجسد

صقلتُه من حجرٍ رخوٍ وهيّأتُ لها من رمادي كحلَ الغزلانِ

 وقلتً يا صنيعتي

استوي وكُوني .

إنّي …بدوني

قدحتُ صوّانةَ الخلقِ فاستوى بأمري عواءُ الذّئبِ البعيدِ 

طينةً أولى وسالَ بين يدي  صهيلٌ و استوى التّفّاحُ (…)

كنْ أيّها الوعلُ فإنّي جعلتُ لكَ من خدِّها القيدَ

وجعلتُ السّراجَ وقلتُ امتدّي  يا قامة َالسّرولِ

وكنْ أيّها الخالُ كعبةَ الطّائفِ ” (ص 2)

يوجِد فعل” كان ” الكائنات كلّها لتأثيث الكون. ثمّ يأتي فعل التّسمية لتتجسّد الكائنات في الكلمات وتستقرّ في أسمائها :

ضربتُ كفًّا بكفٍّ فتجلّى جوهري  وجلالتي وابتكرتُ خصرَكِ

فسمّيتُهُ خط َّاستواءِ الكونِ (..)

وقلتُ :” استوي وكُوني …..

يا صنيعتي كُوني “(ص-2-3)

هذه هي إذن نظريّة الحلول الصّوفيّة :الجوهر يتجلّى في الكائنات.ولو تساءلنا من هي هذه الكائنة التي تمتزج في عناصرها الموجودات وتتشكّل من خصائصها الكائنات. يجيب الشّاعر عن السّؤال قائلا إنّها أنثى تُعمّد الملكوت ” يهبُّ إليها الخلائقُ العاشقونَ والصّابئونَ . “يقودونَ الأرضَ الحرونَ من قرنِها فيحنّون كفّيّها بدم الذّبيحة ويقطفون من نعناعها نطف الخلق الأولى” (ص3)

من أجلها مدّ الخالق الشّاعر المتقمّص جبّة الله للشّمس أراجيح وجعل من المحيطات مرايا ومن الأشجار والأقمار هدايا…وهبها الخالق / الشّاعر من جوهر روحه ما يرقص له شجر الغابات ويغنّي له سعف النخلات” (ص4)

من يكون هذا الكيان العجيب الغريب؟ إنّه ببساطة الإنسان. يفصح الشّاعر عنه في نهاية القصيدة بعد أن تمّ فعل التكوين وسمّى الكائنات :

لكِ من ذاتي كلُّ الألوانْ

صنعتُكِ …..فاستوي وكوني

إنّي سمّيتُ باسمكِ الإنسانْ “(ص4)

هذا هو إذن مدخل المجموعة الشّعريّة يلتقط لحظة الخلق لحظةً إبداعيّةً من سلالة حلاّجيّة تسعى إلى الحقّ والحقيقة بفعل معجزة  الشّعر وابتلاء الشّاعر برسالة الجمال والعدل وأسرار الوجود .في قصيدة “رسالة”(ص52) يتشبّه الشّاعر بالإله  قائلا :”أنا مثل لله مفرد و وحيد” (ص51) .وبما أنّ هذا الفعل الإبداعيّ هو فعل مجازيّ بالأساس يتدارك الشّاعر في قصيدة “الطّيور” (ص52) صورة التّوحّد بالله وقوله إنّه مثل الله المفرد الوحيد “عندما يدركُ أنّهُ بلا أجنحةٍ مثلَ كلِّ الشّعراءِ.”

في هذه القصيدة يشبّه الشّاعر الشّعراء بالطيور” بلا أجنحة.”:

يا حبيبي ……يا للهُ.

لأيِّ حكمةٍ خُلِقتِ النّجمةُ والزّهرُ والفَراشُ والعصفورُ يطيرُ.

وجعلتَني ابنَكَ الشّاعرَ أسيرًا 

على رجلينِ أسيرُ 

لأيِّ حكمةٍ  خلَقْتَ الشّعراءَ

 طيورًا لا تطيرُ “(ص52).

*الحقل الدّلاليّ الثّاني :رحلة الوجود:

الوجود هنا هو تجلّيات  لحياة الشّاعر عبر مختلف حالاتها ومحطّاتها كأنّها سيرة ذاتيّة عاكسة لمعاناة سيزيف مع عبثيّة الحياة وعدم الاستقرار .  من نصّ إلى نصّ تتحوّل الكتابة إلى كاميرا متنقّلة بين الذّاكرة والواقع . مشاهد متقطّعة تطغى عليها رماديّة الحزن وتغيب عنها ألوان الفرح والحبّ.

في هذا البعد ننتقل من طقوس الخلق والتّكوين إلى  مرارة الذّكريات وشقاء الحياة  اليوميّة. منذ البداية في قصيدة “طفولة” (ص8) يعلن الشّاعر انتماءه إلى أصوله القرويّة و إلى طبقة الفلاّحين الكادحين:

مرّاتٍ

أبحثُ حتّى عن نفسي

في أزمنةٍ مالحةٍ كالدّمعِ

(…)

وأرى أمّي تطبعُ فوقَ جبيني الغرِّ قبلاتٍ كالجمرِ

لكنْ إذ أبصرُ بينَ يديها المتشقّقتينِ صِباي

 يذوبُ العمرُ” (ص9)

 

وفي نفس السّياق  نقرأ في  قصيدة “صوت الفلاحة ” (ص11) ما يولّده هذا الإحساس في نفس الشّاعر  من سخط مكتوم :

صوتُ الفلاحةِ

في البيدرِ سنبلةٌ فوّاحةٌ

أطيبُ أطيبُ أطيبُ من عودِ النّدِّ

لكنّهُ إذ يشتدُّ ويحتدُّ ويشتدُّ ويحتدُّ ويشتدُّ ويحتدُّ

يصبحُ مثلَ هديرِ مظاهرةٍ في السّاحةِ ” )ص 12(.

 

في قصيدة ” كنت أستطيع البكاء” (ص13) يقيم الشّاعر مقارنةً  بين زمنين :

زمن الطّفولة والبكاء والبراءة وزمن الكهولة المطبوع باليأس إلى درجة تشحّ فيها الدّموع. زمن الطّفل المسنّ الذي تحاصره الأراجيف وتلفّه الأيّام كالرّحى تدور بلا طحين :

وآهٍ  لكَ …ثمّ  آهٍ يا رضا.

مثلَ الرّحى

دارتْ على قلبِكَ عقاربُ السّاعةِ

لا تستطيعُ البكاءَ

 قلبُكَ مرتجفٌ في العراءِ” (ص46)

كلّما اتّسعت خطى الشّاعر الهلاليّ ضاقت الدّنيا عليه وضنّت السّماء بمنافذها. الخيل سلاحف . والخيام متاحف. والبلاد مقابر للأحبّاء.

يتجاوز هذا الإحساس بالفجيعة ذات الشّاعر إلى مشهديّة المدن الخالية المكتظّة بالأجساد الخاوية. وذلك ما تصوّره قصيدة ” رجل الفراغ ” (ص46)

يتجسّد الوجود هنا في صورة الفراغ  ماثلا في كلّ مظاهر الحياة :

للفراغِ ……فروتُهُ النّاعمةُ (…)

وهو إذا اصطفاني خليلاً

يفتحُ بابي كلَّ صباحٍ

فيناولُني الجوربَ والحذاءَ

لنقتلَ الوقتَ في المقهى

         أجلسُ………… فيجلسُ

         أبكي ………………فيبكي.”

في هذا الفراغ حتّى الحلم يصبح مستحيلا. في قصيدة “حلم ” (ص59) يقول الشّاعر :

في فمي جمرةٌ وعلى جبهتي .

شامةُ الفقرِ والانتحارِ الجميلِ (…)

يشهقُ الجرحُ بالنّارِ والانفجارِ

و يحبلُ بالممكنِ المستحيلِ

هذا هو الوجود كما يعيشه الشّاعر و يصوّره. سجن يشبّهه بصحراء منهكة والشّاعر فيها صيّاد شريد بلا نهرو لا شبكة (ص52).

*الحقل الدّلاليّ الثّالث :دائرة الغياب:

بعد احتفاليّة الخلق وسقوط الوجود إلى لعنة الخطيئة تنتهي القصّة بما لا بدّ منه.

إنّه انكشاف العدم من العدميّة وإطلالة الموت من تباشير الحياة الخاطئة .

في البداية يأخذ اللاّوجود صورة اللاّوطن بمعنى تجربة الغربة والغياب والانفصال واللاّنتماء.

في قصيدة ” كفن العاشق… محرمة العرس ” (ص5) ينزع الشّاعر عن الوطن مشروعيّة الانتماء إليه :

اسمي قمرٌ يتكسّرُ فوقَ جدارِ اللّيلِ

لي وطنٌ

يتوالدُ فيه السّيلُ وراءَ السّيلِ وراءَ السّيلِ

وأنا بينَ مرايا عطشي

ما زلتُ أطاردُ رسمي

اسمي” (ص5)

لهذا التّمرّد على فكرة ” الوطن” خلفيّة اجتماعيّة تحيلنا إلى التّموقع الطّبقي وحالة التّهميش التي يسمّيها الشّاعر” تخم الجوع الشّعبيّ” وحال لسانه يقول ” الوطنُ غنيٌّ وأبناؤهُ جياعٌ “.

اللاّوطن هو “خابية القهر اليوميّ ” و لذلك هو عنوان للموت البطيء . صورة أخرى للاّوجود نجدها في قصيدة ” مملكة الصّمت” (ص20). يتقمّص الشّاعر هنا صيغة الجمع. المتكلّم هو كائن جمعيّ يتقاسم أفراده ” الوجعَ المتهدّلَ من تعبِ السّفرِ المتوحّشْ. يستنيرُ ببرقٍ . ويتشكّلُ من  سحبِ الحزنِ”. هل يكون هذا الصّمت هو الصّبر على المحن بالحزن؟

أليس الصّمت الجماعيّ هو موت  اجتماعيّ؟ يقول الشّاعر :

يا منْ أجاهرُكَ الآنَ

هل نسكنُ المملكةَ ؟

نتوغّلُ في يدِها المنهكةِ ؟

ورغم حرص الشاعر على تجنّب المباشراتيّة وخطاب التّحريض الذي نجده في الشّعر الإيدولوجيّ العروبيّ أو الماركسيّ فإنّه لا يتردّد في تسمية الأشياء بأسمائها. في قصيدة ” فلامينكو تونس 1992″ يحدّد الشّاعر عنوان المكان الحاضن لحالته الخاصّة يسمّيها حالة ” اليتم” وهو توصيف لوحدته في تونس المدينة و تونس الوطن :

رميتُ قلبي حصاةً على شباكِها.

لكنّها لم تردَّ

وحيدًا تركتْني

مفردًا في حاناتِها

(…)

سمّيتُها بوصلةَ الخليقةِ و انتظرتُها.

لكنّها لم تعدْ

يتيمًا خلقتْني

طفلاً لم يولدْ أو لم يلدْ

جائعًا أقتاتُ من بدني

حتّى أعرفَ أنّ لي رأسًا ويدْ ” (ص34) .

وهنا تحديدا يعطينا الشّاعر مفتاح دلالة عنوان المجموعة. إنّها الغربة ،غربة الشّاعر عن الوطن  و استعصاء الوجود عن الفهم .يسمّي الشّاعر هذه الحالة “روحًا تسكنُ كلَّ الخطايا التي لم يرتكبْها أحدْ“.(ص35)

ويقول:

تونسُ  روحي  بل  أنا روحُها

لذا سأظلُّ هنا

بعد أن أتلفَ هذا الجسدْ ” (ص36).

ماذا بعد إتلاف الجسد ؟ هو الموت .الموت وحده يعطي للشّاعر لحظة انتماء واستقرار بعد استحالة الانتماء في شقاء الغربة. من كتابة الموت إلى كتابة ما بعد الموت يقودنا الشّاعر إلى وصيّته . في قصيدة “موت” (ص66) (ضمن ثلاث قصائد تختم المجموعة بفكرة الموت.)[2]

الآنَ يموتُ كلُّ شيءٍ

(…)

ولا يبقى سوى طفلٍ حزينٍ

بمحفظةِ الصّوفِ

وأحذيةِ الطّينِ بعدَ المطرْ” (ص66)

هذه القصائد كأنّها قصائد الوداع تقفل المجموعة الشّعريّة على اللّحظة الأخيرة من ثلاثيّة الخلق والوجود والغياب. وهذه وصيّة الشّاعر في قصيدة ” الشّهيد “(ص74)

” يقولون انتهيت

ولكنّني لا أزالُ أقولْ (…)

أنتَ بينَ الشّوارعْ

أنتَ بين المناجمْ

أنتَ بين المزارعْ

لكنّهم في ذهولْ

وأقولْ

إنّكَ الصّحوُ والشّمسُ في غفوةٍ خلفَ هذا الغمامْ

ثمّ أصمتُ …أصمتُ …. لعلّكَ الآن تشرقُ

قبلَ انتهاءِ الكلامْ” (ص74)

تتجاوز وصية الشّهيد فكرة الموت بمعجزة الشّعر. الشّاعر كائن وكيان. الكائن يموت و الكيان لا يموت لانَ عنوانه هو القصيد ة.

يتنبأ الشّاعر بموته القريب في قصيدة ” إلى الأصدقاء”(ص73)

فيقول:

مثلَ كبيرِ الفيلةِ

حينما أهرمُ

 سألمُّ قماماتِ عمري

 وأمضي إلى غابةٍ مهملةْ

 ثمّ أموتُ ” (ص73)

إنّ موت الكائن الشّعريّ هو صورة لا تختلف كثيرا عن حياة الغياب و اللا وجود التي وقّعت سنوات عمر الشّاعر وطبعتها بالمعاناة.ولكن  كيان  محمّد رضا الجلاّلي  الشّعريّ يعيش بيننا ويطلّ على واقعنا وزمننا من خلال قصائده .هذه المجموعة الشّعريّة  تعبّر عن قيمة هذا الشّاعر المغمور الذي لم ينل حظّه بما يستحقّ من دراسة وتعريف .ولعلّ برمجة  هذا الشّاعر التّونسيّ المتميّز في أشغال هذه الندوة ستكون فرصة لمزيد التّعريف به  و بتجربته.

فكلّ الشّكر للصّديق محمّد صالح بن عمر على مبادرته وأرجو أن تكون هذه القراءة مدخلا إلى مزيد دراسة الخصائص الفنّيّة والأسلوبيّة لنصوص الشّاعر وحافزا على جمع النّصوص التي لم تنشر  والسّعي  إلى نشرها في مجلّد جامع يعطينا صورة أدقّ وأشمل على تجربة الشّاعر.

……………………………….

[1] القصيدة جزء من ملحمة تتكوّن من ثلاثة فصول.

” موت ” (ص66) ” إلى الأصدقاء ” (ص73) و” الشّهيد “(ص74).[2]

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*