المناضل محمّد بن جنّات(11 فيفري 1940 – 12 نوفمبر 2012) وحركة الطّليعة الأدبيّة التّونسيّة

 

كان محمّد بن جنّات شخصيّة متفرّدة  ذات آفاق ذهنيّة رحبة وثقافة واسعة صلبة .كان عقلانيّا خالصا يحلّل تحليلا منطقيّا ويدعم وجهات نظره بحجج دقيقة مناسبة ، لا ينفعل أبدا ولا ينزلق إلى   شتم  خصومه وتشويههم.

لقد عرفه التّونسيّون لأوّل مرّة في شهر جوان/حزيران 1967 يوم قاد مظاهرة صاخبة أمام السّفارة البريطانيّة بالعاصمة بمناسبة اندلاع حرب الأيّام السّتّة.وكان آذ ذاك طالبا بكلّيّة الشّريعة وأصول الدّين وفي الوقت نفسه عضوا في حركة “آفاق التّونسيّة ” اليساريّة الممنوعة.فأُوقِف وحوكم وصدر ضدّه حكم بالإعدام عُوّض بعشرين عاما سجنا ،كما صدر ضدّه حكم ثان بالسّجن لمدّة سنتين.

لقد لقيته لأوّل مرة سنة 1970مصادفة بعد أن أطلق سراحه بعفو رئاسيّ .كنت ذات يوم من تلك السّنة بشارع باريس بالعاصمة قرب ساحة”الباساج”رفقة القصّاص والكاتب المسرحيّ عز الدين المدنيّ إذ أبصرنا شخصا على الرّصيف المقابل يومئ نحونا بيده ثمّ اجتاز الطّريق وسلّم على عزّ الدّين عناقا .فقدّمه لي قائلا  “هذا محمّد بن جنّات” .ولم يكن ثمّة حاجة إلى أن يضيف شيئا آخر لأنّ الطّلبة القدامى كانوا لا ينفكّون يتحدّثون عنه بإعجاب.

وحين انصرف سألت عزّ الدّين: ” ألا تخشى أن تُرى مع محمّد بن جنّات وأنت رئيس تحرير الملحق الثّقافيّ لجريدة “العمل” لسان الحزب الحاكم؟” فقال: ” لا أبالي أنا كاتب  يكتب لكلّ النّاس .لذلك أتحدّث مع كلّ النّاس .ومحمّد بن جنّات واحد من أصدقائي .وإذا أرادوا عزلي فليفعلوا”.

في السّنة الموالية، سنة 1971كنت أجلس بمقهى على بابا الكائن بنهج ابن خلدون لقربه من المطعم الجامعيّ الذي أنا مسجّل فيه وكان يجالسني الهادي بوحوش وحمّادي التهامي الكار وحسين الواد ورفاق دراسة آخرون .فأخذ محمّد بن جنّات ينضمّ إلى مجلسنا من حين إلى  آخر ثمّ انتقلنا بداية من الثّلاثيّ الثّاني من تلك السّنة إلى الجلوس بمقهى “برازيليا” الذي كان يوجد داخل مبنى “البالماريوم” لأسباب سأذكرها في مقال لاحق أخصّصه لهذا المقهى .

ما بقي عالقا في ذهني من تلك اللقاءات مع محمّد بن جنّات هو مواقفه من أهمّ مقولات “الطّليعة الأدبيّة”. وهي الثّلاث التّالية:

1 – لم تكن الطّليعة الأدبيّة حركة يساريّة .فمنذ بداياتها في سنة 1968 لم تكن تؤمن بقدرات  البروليتاريا الثّوريّة التي يعوّل عليها اليساريّون بل كانت تحتفي بالفئات الاجتماعية المهمّشة .ولم يكن من قبيل المصادفة أن اختار عزّ الدّين المدني بطل قصّته الشّهيرة “الإنسان الصّفر” التي صدرت بمجلّة”الفكر” في ديسمبر 1968 وأثارت ضجّة ضخمة في وسائل الإعلام من هذه الفئات ،إذ جعله مثقّفا عاطلا عن العمل سرق رغيف خبز ليسكّن به جوعه. فألقي عليه القبض وحوكم وسجن في في اليوم نفسه .، كما أنّ الشّاعرين محمّد الحبيب الزّنّاد والطّاهر الهمّامي والقصّاص سمير العيّادي كانوا يصوّرون في نصوصهم الشّعريّة والسّرديّة معاناة أفراد من تلك الفئات مثل بائع السّجائر وماسح الأحذية الصّغير وبائع الأثاث القديم المتجوّل والمشرّدين في الشوارع ليلا ومن شاكلهم .

لكنّ محمّد بن جنّات كان يرى في هذه الحساسية نزعة شعبويّة لا طائل من ورائها ،لأنّ تلك الفئات الاجتماعيّة المهمّشة في نظره ليست من حيث أوضاعُها وموقعها الاجتماعيّ ودرجة وعيها قادرة على إحداث أيّ تغيير ايجابيّ، إذ يمكنها لا محالة الخروج إلى الشّارع لتصرخ وتهشّم وتحرق وتنهب لكن لا أمل لها أبدا في الوصول إلى السّلطة وحتّى إن أطاحت بالنّظام القائم فتستولي عليه أطراف أخرى ولن يجني الشّعب من ذلك شيئا.وما يحدث في تونس منذ سنة 2011 ربّما يجعل كلام محمّد بن جنّات في محلّه.

2- الأسّ النّظريّ الثّاني الذي كان محمّد بن جنّات يعترض عليه عند الطّليعيّين هو مفهوم الطّلائعيّين للهويّة الذي نقلوه عن النّاقد والقصّاص محمّد البشروش (1911 – 1942)في الدّعوة التي أطلقها في ثلاثينات القرن الماضي إلى إنشاء أدب تونسيّ لا شرقيّ ولا غربيّ.فكان محمّد بن جنّات يقول في هذا الصّدد : ” الفنّ كونيّ ولا هوّيّة له  فأنا أجد نفسي في مؤلّفات فكتور هيقو وتولستوي ودوستوفسكي وهيمنقوي وغيرهم من كبار الأدباء العالميّين  ولا قيمة عندي لأيّ أدب محليّ.أمّا في ما يخصّ أصولي العرقيّة فأيّ فائدة أجنيها إذا كنت بربريّا أو بونيّا أو عربيّا أو تركيّا؟ فالمهمّ هو الحاضر والمستقبل .اليوم في بلادنا طبقتان : طبقة تملك وسائل الإنتاج وطبقة لا تملكها وعلى الكاتب أو ألفنّان أن يختار المعسكر إلي يقف فيه.ولا مجال للحياد أبدا.

3- المسألة الثّالثة هي رفض الطّليعة الأشكال الأدبيّة القديمة بحجّة أنها لم تعد صالحة في هذا العصر .فقد كان محمّد بن جنّات يرى أنّ الشّعر العموديّ مثلا قادر على التّعبير عن خلجات الإنسان المعاصر وأفكاره إذا وجد الشّاعر المتمكّن من شروطه وأدواته ، مستدلاّ على ذلك بشعر الزّعيم الصّينيّ الكبير ماو تسي نونغ الذي كان يكتب شعره على بحور قديمة ترجع إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة ، كما كان يؤاخذ الطّليعيّين على عدم اعترافهم بالقيمة الفنّيّة لشعر الشّعراء التّونسيّين الكلاسيكيّين .فكان يقول :” أحمد اللّغمانيّ والطّاهرالقصّار وجلال الدّين النّقّاش شعرء كبار لكنّهم شعراء رجعيّون. فالرفض ينبغي أن يكون لمواقفهم وللموضوعات التي يطرقونها لا لقيمة ما يكتبون.

طبعا كنّا ننصت إليه جيّدا و نردّ على كلّ حجّة من حججه بحجّة  من حججنا .ويستمر النّقاش سّاعات ويبقى في النّهاية مفتوحا.

رحم الله محمّد بن جنّات وأسكنه فراديس جنانه. لقد كان مناضلا ديمقراطيّا حقيقيّا .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*