كتاب الجمع في القرآن وأبعاده الدلاليّة للباحث التّونسيّ يوسف العثماني : محمّد صالح بن عمر

يوسف العثماني

 

لقد كان لي منذ عدّة  سنوات شرف المشاركة بصفة مقرّر في مناقشة أطروحة دكتوراه الدّولة لصاحب هذا التّأليف الأستاذ يوسف العثماني وقد تعلّقت بموضوع لم يلفت انتباه الباحثين العرب المعاصرين وهو أبو العلاء المعريّ اللّغوي ، مقابل انشغالهم به شاعرا وفيلسوفا وكاتبا سرديّا إلى حدّ الإملال والابتذال من جرّاء التّكرار والاجترار.

ومنذ ذلك الحين أدركت أنّ هذا الرّجل يتعلّق بالمفهوم  الصّحيح المثاليّ  للبحث وهو اقتحام المسالك الوعرة و ارتياد المناطق الخفيّة المعتّمة ، بحثا عمّا هو مطلوب في هذا الميدان من الإضافة المعرفيّة ،تلك التي لا تتأتّى بالسّير في الطّرق المعبّدة و التّحرّك في الفضاءات المكشوفة المضاءة  بالأنوار السّاطعة .

ويكفي أن تتصفّح هذا الكتاب وأن تتفحّص عناوين فصوله  حتّى تتأكّد من وفاء الأستاذ يوسف العثماني لهذا المبدإ . فمعظم   المباحث التي يخوض فيها ثمّتَ تتعلّق بالمصدر الأصليّ للتّفكير اللّغوي العربيّ وهو النّصّ القرآني الذي لا تزال   لغته ، في تقديرنا ، ضنينة بأكثر أسرارها ،على الرّغم من الجهود المكثّفة التي بذلها النّحاة والبلاغيّون العرب القدامى لضبط خصائصها ضبطا دقيقا صارما.

فهذه اللّغة قد أربكتهم بانفتاحها على لهجات القبائل التي حكموا بأنّها غير مقدَّمة في الفصاحة لإقامتها بمناطق بعيدة عن الحجاز و نجد وتهامة . أولم يقل الصّحابي وابن عمّ الرّسول  عبد الله بن عبّاس : ” كل القرآن أعلَمُهُ إلا أربعةً : غِسْلين وحنانا وأواه والرّقيم” ؟ فقد أحصي قديما وحديثا في القرآن الكريم  أكثر من خمسين لهجة . وهو ما جعل لغته وان شملت لهجات الشّمال التي تعصّب لها النّحاة  تستوعب رصيدا مهمّا  من الألفاظ والتّراكيب المستعملة في اللّهجات التي أنكروها  من جنس التي قال فيها أبو عمرو بن العلاء :  ” ما لسانُ حمير بلساننا “.

وهكذا وجد أولئك النّحاة أنفسهم يقعون في تناقض صارخ . فمن جهة اتّخذوا من  القرآن  أصلا  أوّل ، تأسّيا بما دأب عليه الفقهاء والمتكلّمون في أصولهم  و من جهة أخرى حصروا الفصاحة في لهجات قبائل الشّمال .فإذا هم يضعون قواعد لا يعبأ بها القرآن في  عدّة مواضع  كقاعدة التثنية وامتناع المطابقة بين الفعل وفاعله  ونصب اسم إن”  وغيرها .

ومن مظاهر التّناقض في مواقف النّحاة ما زعموه من  أن لغة قريش هي أفصح اللّغات ربّما  لأنّ الرّسول قرشيّ، على الرّغم من أن هذه القبيلة حضريّة وقولهم في الوقت نفسه إنّ الفصاحة تنحصر في لغات الأعراب ، والحال أنّه كان للرّسول موقف  صريح واضح من هذه المسألة إذ قال : ” أنا أفصح من نطق بالضّاد  بيد أنّي من قريش وقد تربيت في بني سعد “. وقد كان بنو سعد  بدوا تميميّين نجديّين .

وقد انعكس هذا التّناقض الذي وقع فيه النّحاة فيما وضعوه من قواعد لم يراعوا فيها مرونة لغة القرآن الكثيرة الجوازات و حيويّتها  المتأتّية من انفتاحها على جلّ اللّهجات العربيّة زمن التّنزيل . فأنشؤوا لغة أخرى متشدّدة ألزموا العرب في القرون اللاّحقة للقرن الثّاني الذي وضعت فيه القواعد بالانضباط لقيودها المجحفة . وهي حالنا اليوم .

ومن ثمّتَ فإنّ اختيار الأستاذ يوسف العثماني عن روّية  الاعتماد  أساسا  على النّص القرآنيّ في تفحص الظّواهر النّحويّة التي يدرسها هو- لعمري – اختيار صائب، لاسيّما أنّ مقولة الجمع في اللّغة العربيّة هي  من أشدّ المقولات خصوصيّة فيها . ولا أدلّ على ذلك من تنوّع صورها في مستوى الأداء ( جمع مذكّر سالم ، جمع مؤنث سالم ، اسم جنس جمعي، جمع تكسير،  اسم جمع ، ، جمع لا واحد له من لفظه  … )  وخرق معظم هذه الصّور المنطق العامّ .من ذلك أنّ الدّلالة على الجمع تكون تارة بالزّيادة إلى المفرد (في الأنواع الثّلاثة الأولى) وطورا بالصّيغة (في  النّوعين المواليين ) و طورا ثالثا بوحدة معجميّة (في  النّوع الخامس ) دون أن يكون هناك مبرّر منطقي لهذا التّنويع. و من ذلك صيغة المفرد التي يرد عليها اسم الجمع  على الرّغم من أنّه يدلّ على الجمع   واسم الجنس الجمعيّ الذي يفترق عن واحده بالتّاء وهي في الأصل علامة تأنيث أو بالياء المشدّدة  وهي في الأصل زائدة خاصّة بالنّسب. ومن ذلك أيضا معاملة الجمع غير العاقل معاملة المؤنّث المفرد  ومثلها توظيف الفعل المسند إلى جمع المؤنّث الغائب في الدّلالة على القلّة في نحو : ” ثلاث سنوات خلون ” والفعل المسند إلى المفرد المؤنّث الغائب في إفادة الكثرة في نحو : عشرون سنة خلت ” .

كلّ هذا يبيّن مدى تعقّد هذا المبحث وتشابك قضاياه وصعوبة الاستنجاد بالنّظريّات اللّسانية لتجلية غوامضه لأنّ الظواهر التي تتشكّل فيها  مقولة الجمع في العربّية لا تنتمي إلى الكلّيّات اللّغويّة التي تعالجها تلك النّظريّات و إنما يحتاج المرء هنا إلى التّعويل في دراستها على إعمال رأيه و رشح جبينه واستثمار تجربته الخاصّة في مراس لغة الضّاد قراءة وكتابة وتدريسا وبحثا . وهو ما ينطبق على الأستاذ يوسف العثماني الأديب المبدع ذي الأسلوب التّراثيّ الممتع  في أحاديثه التي وسمها بالصواهل و الشواحج و مدرس اللغة الناجح الذي يتمتّع بصيت عال بين طلبته والباحث اللّغويّ القدير الملمّ الماما دقيقا بخصائص العربيّة وقضاياها المعرفيّة قديما وحديثا .

كلّ هذه الخصال وغيرها تلوح لك بصماتها جليّة في  جميع فصول الكتاب . فاللّغة فصيحة جزلة من جنس السّهل الممتنع، منقّاة من الألفاظ والتّعابير  ذات الشّحن الانطباعيّة، لكن من  دون أن تقع في التّقريريّة الجافّة .و معالجة القضايا تخضع عند المؤلّف لمنهجيّة صارمة تنطلق وجوبا و على نحو قارّ  من إشكاليّة داخليّة كما هي مثارة  بالضبط في اللّغة العربيّة، لا من تصوّر عامّ خارجيّ مستدعى من نظريّة لسانيّة وافدة ،  يلي ذلك تقليب الإشكاليّة من مختلف أوجهها بحثا عن أهم الأجوبة الممكنة ثمّ الأخذ بأشدّها إقناعا دون تسرّع أو إسراف أو إصدار أحكام مشطّة.

لكلّ هذا  نقول دون غلوّ إنّ هذا الكتاب لبنة جديدة صحيحة صلبة  تضاف إلى صرح  المدوّنة البحثيّة اللّغويّة التّونسيّة  الرّاقية. وهو ما يجعله بحقّ  مرجعا لا غنى عنه لأيّ باحث أو طالب في تخصّص  النّحو العربيّ.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*