شذَراتٌ مِنْ وحيِ الفَقْدِ :شعر: ريتا الحكيم – اللاّذقية – سورية

ريتا الحكيم

 

كما في كلِّ ليلةٍ…

يتعرّى القمرُ مِنْ ضيائهِ، ويتخلّى عن نُذورهِ

فأخيطُ لهُ قميصاً مِنْ دانتيلِ وحدتي

 

للحكايا سراويلُ مزركشةٌ

تضيقُ عِنْدَ خَصْرِ الكلامِ

كلّما لوّحْتَ لِيَ مُوَدّعاً

 

حقلُ ألغامٍ… أنتَ

كلّما دنوتُ مِنْهُ.. يُبعثرُني 

قبلاتٍ على وجنتيْكَ

 

العينُ لا تبكي لحظةَ الفراقِ

إنّما تتعرّقُ مِنْ وهجِ العناقِ

 

أبي…

لا يعلمُ شيئاً عنِ الشّعرِ

لكنّهُ يتلو على قبرِ أمّي المجاورِ لقبرهِ

صلاةً مُقفّاةً على وزنِ

أوجاعِ الوطنِ

كلّما سمعتْهُ أمّي، تنهضُ مِنْ رُقادِها الأبديِّ

وتَؤُمُّ إخوتي الأمواتَ في نحيبهِم

 

كلَّ ليلةٍ…

تُبلّلُ أمّي ترابَ وحدتِها

وفي الصّباحِ تنشرُهُ على حِبالِ الوطنِ

أحزاناً بسبعةِ ألوانٍ

 

الطّريقُ الذي شقّتهُ أمّي في مِئزرِها

كان جُرحاً

دَلَفْنا إليهِ خَجَلاً مِنْ دُموعِها

 

كلَّ يومٍ… منْ هُناكَ حيثُ هي

تُضرمُ أمّي النّارَ بحطبِ أشواقِها

وتخبزُ لنا أرغفةَ حُبّ طازجةً

إلى أنْ يتفحّمَ الدّمعُ في مُقلَتَيها

 

أخي المُقعَدُ… لا يُجيدُ السّباحةَ

إلاّ في بحرٍ مِنْ دُموعِ أمّي

 

أنا أكبرُ مِنْ أمّي

أمّي تصغرُني بألفِ عناقٍ

وملايينِ القُبَلِ

 

كانتْ أمّي تَفكُّ أساورَ ابتسامتِها

وتُطْلِقُنا مِنْ ثغرِها أوطاناً تَحبو عندَ قَدَمَيْها

تسألُنا: هل أنتم بخيرٍ؟

هي تعرفُ أنّنا غَرِقْنا في الأزرقِ المالحِ

لكنّها تُصَمّمُ على أنْ تسْمَعَها مِنّا 

نصمتُ.. فتنتحِبُ الإجاباتُ على نعشِها

تَدقّ على صدرِها ثلاثاً

وتُرَدّدُ في سِرّها: لسْتُمْ بخيرٍ

تفيقُ مِنْ وعكةِ الموتِ

تبحثُ عنْ حبوبِ الضّغطِ والرّوماتيزم

في خيمةِ عزائِنا

وتَزفّنا حلماً ميّتاً، راهنتْ عليهِ بكلّ أمراضِها 

 

كبرتُ قبلَ أنْ تتزوّجَ أمّي مِنْ أبي

وحينَ رأيتُ النّورَ لأوّلِ مرّةٍ، كنتُ قدْ بلغتُ الثّمانين

أبي اتّخَذَ لهُ زوجةً ثانيةً لأنّ أمّي لمْ تُنجبْ منهُ 

سوى الكهولِ

خذلَتْهُ الثّانيةُ وبعدَها الثّالثةُ والرّابعةُ

تحوّلتِ العائلةُ الآنَ إلى جيشٍ مِنَ المُحاربينَ القُدماءِ 

وذوي العاهاتِ والأطراف الاصطناعيّةِ

يعيشونَ على المُسكّناتِ والأنسولين

لمْ يُهْرَمْ أبي، وأمّي ما تزالُ في عقدِها الثّاني

تنتظرُ أبي على ناصيةِ الحياةِ ليُلقيَ

بوردتهِ البيضاءَ على شُبّاكِها

ويفرَّ هارباً، كما يفعلُ العُشّاقُ عادةً

ضَبطّهُ مرّة، مُتلبّساً بقبلةٍ أرْسَلَها لها عَبْرَ الأثيرِ

خطفتُها وطبعتُها على جبينِ شاهدةِ قبرِها

 

أمّي…

تكرَهُ البُقَعَ العنيدةَ

لسوءِ حظّها، انتشرْنا على أثوابِها بُقَعاً 

بكلّ التّدَرّجاتِ

وحدهُ الموتُ، أزالَنا عَنْها

اليوم، هي أكبرُ لطخةِ حُبّ تلتصقُ بذاكِرَتِنا 

إلى أبَدِ الآبدين

 

كضحكةٍ أنتَ…

تلوذُ بشفتيّ

تتمسّكُ بحقّ العودةِ

ولا تقوى على رحيلٍ

 

كدمعةِ أنتَ…

تزحفُ صعوداً على وجنتيّ

في رحلةِ شوقٍ إلى مآقيها

 

ليلةً بعدَ ليلةٍ…

يتكوّرُ الجرحُ.. جنيناً في الذّاكرةِ

وعندَ اكتمالِ الوجعِ

ينهمرُ منْ مآقيها.. وطناً مُعاقاً

 

في السّماءِ فقطْ…

تُحصي الأقفالَ التي أوصَدوا بها 

زنزانةَ الحياةِ في وجهِكَ

 

أجْمَلُ ما في حُزنِنا أنّهُ بَهِيّ.. شَهِيّ

كفاكهةٍ نَضَجَتْ للتّوِ

 

الوسادةُ كحصّالةِ النّقودِ

نحشوها بهواجسِنا، لنقتصدَ في صرفِ أحلامِنا

وكلَّ صباحٍ، نتصدّقُ بها على خيباتِنا

 

اليقظةُ…

بروفةٌ لعرضٍ مسرحيٍّ فاشلٍ 

عنوانهُ، الحياةُ”

الغفوةُ…

إعادةُ تدويرٍ للنهاياتِ

تحتَ مُسمّى موتٌ سريريّ

 

بتوقيتِ شُروقِكَ

ثمّةَ شهقاتُ حَيْرةٍ تكتُمُها السّماءُ بغيظٍ

تَشي بغيرتِها مِنْ أنفاسِ الضّوءِ الزّاحِفَةِ

على اخضرارِ ربيعِكَ.

 

 

 

 

 

 

 

 

احتفاليةُ الموتِ

 

الموتُ يحتفلُ بِنا، الآنَ وكلّ أوانٍ…

ينسجُ بأصابعِنا المبتورةِ

حَكايا عنْ شاعرٍ أخفى قصائدَهُ

في عُبوّةٍ ناسفةٍ

البارحة، عبرتُ فوقَ جُثثِ كلماتهِ المحروقةِ

لأنقذَ حبيباتٍ، نَظَمَ لهنّ الشّعرَ

نِكايةً بالحربِ

الشّاعرُ، مُحاربٌ عتيقٌ

يُسَيّجُ قلوبَ المدائنِ بالصّبارِ والعوسَجِ

ويزنّرُ خاصرتِها بأكاليلِ شوقٍ، انتحرَ على ناصيةِ الكلامِ المُباحِ

يطبعُ على جبينِها قبلةَ وداعٍ

ويُحصي شهقاتِها وهي تحتضرُ على عَتَباتِ السّماءِ

يُدَوّنُها على هوامشِ وحدَتِهِ

أمدّ لهُ يدي مِنْ بينِ أنقاضِها، وأتلو على مَسامعِهِ

ما تيسّرَ مِنْ سيرَتِها الذّاتيةِ:

هُنا، وُلِدْنا

هُناكَ، في الأزرقِ مُتنا

وبينَ هُنا وهناك، ما زالتِ القصائدُ تَبكينا

والقوافي التّائهةُ تَرثينا

لا شيء يُرهقُ الشّاعرَ سوى مجازاتِ اللغةِ ومحاولاتِهِ المُتكرّرةِ في الخروجِ عنْ سياقِ المعنى

كأن يغتالَ ما نسَجَهُ خيالُهُ، بتُهمةِ الخِيانةِ العُظمى

أو أنْ يُغلقَ على نفسِهِ أبوابَ السّطورِ

بحُجّةِ عدَمِ كِفايةِ الأدّلةِ

حينَ همستُ لهُ أنِ اخرجْ منْ جيبِ النّص مُنتصراً

كمّمَ فمي واقتادَني إلى حيثُ هو مُنزوٍ

ليُعيدَ صِياغةَ الكونِ على مقاسِ القصيدةِ

 

This e-mail was sent from a contact form on مشارف (http://www.masharif.com/ar)

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*