هي مجنونة حقّاً: قصة قصيرة :إيثار عبدالحميد جاسر – الموصل – العراق

إيثار عبدالحميد جاسر

 

لو أنّي  أستطيع أن أجمع  هذا  الشّوق والعذاب بزفرة واحدة وأرتاح..  أزيح ستائر غرفتي  لأرى  النّور  ينسلّ من ثغر الفجر  ليرسم  بياض  النّهار ويولد يوم  جديد..

مذ عرفتك  تخلّت الأيّام  عن رتابتها ، كلّ لحظة  هي  حياة بكل معالمها وعناصرها.. كلّ ثانية  تفتح  لبرعم  يشبه  الفرح حد البكاء..

إنّني  أحتاج أن أخبرك  أنّني  خائفة..أخاف أن  يغيّبني القدر دون  أن أحتضن صوتك وأعتصره بقلبي.. أخاف  ألاّ  أتمكّن  من ملء  فضائك  بثرثرتي  وضجيج  أفكاري..  أخاف..وأتمنّى  لو أنّ العالم  يمنحنا  بقعة  هادئة      لا شيء  فيها  سوى نحن وبعض  العطر  والقهوة.. عالم لنا  صغير  ببراءة  أحلامنا ..كبير  بحجم أشواقنا .. ضيّق بحدود  الله .

إنّني أحتاج  أن أخبرك  أنّني  أحبّك  للحدّ  الذي يجعلني  لا أستسلم  ولا أنحني.. أحبّك  للحدّ الذي يجعلني  أحملك  في داخلي ،أدثّرك  بروحي  وأحاورك    لوحدي  فيقولون:مجنونة  تحدّث  نفسها!.

أنت من علّمني  كيف  أنّ الكلمات تعزف  في صمت  قداسة  المواقف  واللّحظات . .أنت من علّمني  كيف  أشرب صوتك  مع قهوتي  وكيف  ترقص ذاكرتي  طربا كلّما ناديتني  شامي..  أنت من  صوّر لي الرّيح  و ألبسني  رائحة  الأرض  والمطر..أنت  من علّمني كيف  أغمض  عيني  لأراك  وكيف  تدرك  حواسّي غيابك  فيستحيل  حضورا  بكامل  وجوده  وأناقته.. أنت من روّض  الوجع    وأحيى    القلب  من رقاده  ..لو  أنّني  أستطيع  ضخّ هذا  النّبض  الذي لا يهدأ  في وريد  يصلني  بك  و يخبرك  أنّك  تمنحني  حياة  باذخة  حدّ التّرف!.

أين أنت ؟!

لماذا تأخّرت إلى هذا الوقت !!

” هيّا قومي لتنامي ” قالت رودينا

– و كيف أنام و هو لم يأت بعد !

– سيأتي و حين تستيقظين ستجدينه قربك في السّرير !

تُغلق رودينا الباب بحذر و صَمت ..

” هل نامت ” ؟! …  تتساءل الأم.

– نعم نامت و هي تهذي به ، هي مجنونة حقاً …إلى كَم بوسعي أن أتحمّل معها ؟

– غدا سنذهب إلى الشّيخ ليرقيها.

– بالله عليك !! أما يكفي ما جرى و أنت تذهبين إلى هؤلاء ، كلّ هؤلاء هُم دواعش ، و هذا الشّيخ ليس إلاّ  شيطانا من هؤلاء الشّياطين ؟!

– لا تقولي هكذا أخرسي …

– أوووف سأغادر من هنا. لقد مللت منك و من ابنتك و من هذه الحياة كلّها !!

تُغادر رودينا و تنطفئ الإضاءة !

لاااا ، لااااا ، اتركوه ، لااا  !!!

تفيق رودينا مذهولة و شعرها يتناثر حول أكتافها كأنّ كلّ طرفٍ منه مجذوب إلى نهاية .

تصيح بها ..

– ما بكِ أيّتها المجنونة !! تصيح إلى أختها.

– ما بك !! قولي  ..

– إنّهم هنا كانوا خلف النّافذة .لقد أخذوه ، لقد أخذوه و عصّبوا عينيه كما تلتفّ الأفعى حول عنق ضحيّتها… أمسكوا برقبته !!

تبدو أختها ذات الخمسة و العشرين عاما غير مستورة تماما. فقد ظهرت في وسط الدّار بثياب نومها ، يداها تشيران  و ترتعشان و تلتفت برأسها و تدور بجسدها كراقص صوفيّ حول نفسها و حول رودينا

صرير  الباب  كان مزعجا ..الرّيح في الخارج لا تهدأ  ونباح  الكلاب يزيد  من قسوة  اللّيل..    ثمّة  ضوء خافت.

– هل تناولت الدواء قبل أن تنامي …أجيبيني !! لم تتناوليه أليس كذلك  ؟!

– ههههههههه …لم أتناوله أصلا .

فأنا أنتظر ….طيفه.

….كهدهد سليمان

لعلّه يأتيني بخبر اليقين.

– أيّ سليمان و أي هُدهُد !!!!

  • نعم لا تعرفينه !!ذاك الذي على جدار قلبي  كتبت اسمه ؛

فأزهر القلب ياسمينا.

رودينا : غدا ستذهبين معي إلى المشفى لأعيد لعقلك هذا المجنون رشده !!

– هههههههههه أنت لا تعرفين الحُبّ .. يا رودينا.

الحبّ  للبسطاء  ..الذين لا يستخدمون  المجاز  .

الذين يشربون  قهوة الصّباح  من فنجان  واحد ..

يوقظون  نور  الشّمس  من أجفانهم: حيّ  على الحياة!

الحبّ للبسطاء.. يصنعون  طائرات  من  ورق…

ويحلّقون  مع الرّيح.. دون  هويّة  أو جواز سفر…

يخاتلون  اللّيل ليسرقوا  بريق نجومه…

أغنية  أو قصيدة  من سلافة  العشق..

هديّة    على  سرير    صبية  نائمة  ..

الحبّ  للبسطاء..  للأنقياء على فطرتهم  ظلّوا..

الحبّ حظّ  الأشقياء..

فرصتهم  الوحيدة  لتكون  تعاستهم  كاملة  التّجربة.

الحبّ  رعشة  العقل حين يفقد عقله  ..

فيكتب  بعناد عناصر  الكارثة ..

حتّى  إذا ما  انتهت  دقّات طبول  الفرح.. اتُّهِم  القلب  بالخذلان  والغباء..

الحبّ  للفقراء…  زنبق  برّيّ  ينمو على سجيّته..

غير آبه    بدهس  الخطى    ومباغتة  العاصفة..

جميل بين أقرانه..  بهيّ الطّلعة ، شهيّ الصّفاء.

الحبّ    أغنية أصمَّ  لبكماء..

تلوّن الفصول  بين  نافذتين..

رصة  الفراشات  في  انتظار  احتراق  أجنحتها …

اختناق  الغيم  قبل أن يعتصر  المدامع..

صعود  نحو  الهاوية  عن طيب  خاطر..

الحبّ  لك  أنت…أنت  وحدك. .

والبقيّة استعارة..  ليكتمل سِفْرٌ المعنى !.

– يفي يا عاشقة !!

تُمسك رودينا بيد أختها و تمضي بها إلى غرفة نومها.

في الصباح ..

أمام ردهة الأمراض النّفسيّة :

– صباح الخير دكتور.

– أهلا صباح الخير رودينا .

– هذه لَمار ، لقد تعبت حقّا يا دكتور و الله تعبت معها.

– أعرف ما تعنين و لكن هي التي تتعذّب أكثر من كلّ شيء.

هي الآن تمرّ بأسوإ  وضع نفسيّ و عقليّ ، على فكرة لم تكملي لي ما حدث مع زوجها الذي أختطفه الدّواعش.

– نعم يا دكتور ، حين غابت أخباره عَنا لفترة أسبوعين جاءنا الخبر أنّه موجود في معتقلاتهم و بعدها بدأ اشتداد القصف على المدينة و على مواقع أولئك المجرمين.

كانوا قد أودعوا السّجناء في زنزانة هي أشبه بدار سكني و قامت الطائرات بقصف تلك الدّار و كلّ من فيها من السّجناء.

لقد رحل و تركها و ترك خلفه طفلين لها ..

– ” إنّها تكذب !  إنّها تكذب ! ” تقول لَمار.

إنّه ما زال حيّا و سيأتي ..

‏ورأيتُ أدمعَهُ. فألهبَ خاطري.

قبل الوداعِ سألتهُ ما أوجعك؟

فبكى، وقال وددتُ بعدكَ حاجةً

لو لي جَناحٌ كي أطيرَ و أتبَعك.

– سيأتي يا دكتور ، سيأتي !!

يُشير الطّبيب إلى رودينا لتثبيتها و ربط الأحزمة حولها إلى السّرير فيما يحضر حقنة التّنويم.

يهتزّ جسدها و صعقة كهربائيّة خلف أخرى ينساب معها دمعُ العينين !!

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*