الهُويّة المتفجّرة في مجموعة ” كثيرةٌ أنتِ ” ( 1 ) لسوزان إبراهيم : محمّد صالح بن عمر

سوزان إبراهيم

ينهض وعي الذاّت الشّاعرة  لهُويّتها  الفرديّة  محورا أساسًا في مجموعة كثيرةٌ أنتِ الشّعرية لسوزان إبراهيم . وذلك ماثلٌ في  كثافة الإشارات إليه وهيمنته على ذهن منشئة الخطاب في معظم القصائد . وهو ما يدلّ على وجود أزمة  لديها في تمثّل ذاتها وتحديد  علاقتها بالآخر وموقعها من الكون  .وبالتأمّل في  تجلّيات هذه الأزمة ومحاولة تعقّب أبعادها  والاجتهاد في الكشف عن أسبابها  تلوح متعدّدة الأوجه  وتغطّي مستويات شتّى . فهي أوّلا فكريّة قوامها قطيعةٌ معلَنة مع السّائد الاجتماعيّ الثّقافيّ .ثمّ هي سياسيّة إيديولوجيّة مدارها على الوضع  السّياسيّ المتدهور الذي استتبّ  في المشرق العربيّ  منذ اجتياح العراق وما تسبّب فيه ولا يزال من حصد للأرواح وزرع للدّمار .  وهي  ثالثا  نفسيّة تتجسّد في صارع داخليّ بين نزعة استعلاء ملحّة  مُلَوَّح بها وعذاب نفسيّ شبه خفيّ تطفو عَلاَمُهُ من حين إلى آخر على سطح الخطاب . وهي رابعا  ذهنيّة ،  وجوديّة تتعدّى  الانشغال بالآني  الرّاهن العابر إلى إثارة أسئلة الكينونة الإنسانيّة في الكون .

فلنتفحصّ  تباعا مظاهر هذه الأزمة في كلّ مستوى على حدة  ، ساعين إلى استكشاف معالم الهويّة الفرديّة للذّات الشّاعرة  انطلاقا من الإشارات التي تبثّها في خطابها تصريحا وتلميحا أو كما يقول جون سورل  ( John Searle   ولد سنة 1932  )  على صعيدي القوليّ* والمقصود بالقول *  ( 2 ) ، قبل أن نتوقّف عند الخصائص الإنشائيّة لشعر الشّاعرة :

 I أوجه أزمة الذات الشاعرة في خطابها :

1- الوجه الأوّل  للأزمة :   تعارُضُ مُثُل الذّات الشّاعرة النِّسْوِيّة وصورةِ المرأة السّائدة في محيطها الاجتماعيّ والثّقافيّ : 

إنّ المنبع الأصليّ لهذه الأزمة  المتعدّدة الأوجه والأبعاد والأسباب في تمثّل الذّات الشّاعرة لنفسها أي لهويّتها الفرديّة  هو ،  فيما يظهر، من خطابها  ، فكريّ مذهبيّ . ثمّ كان له انعكاس على المستويين النّفسيّ والذّهنيّ . وهو تحديدا تبنّيها لمبادئ التيّار النّسويّ الذي يدعو إلى المساواة التامّة بين الجنسين،  مع اضطلاع المرأة  بالدّفاع عن حقوقها بنفسها  وعدم تبعيّتها للرّجل واستقلال القرار لديها في كلّ ما له صلة بالجانب الشّخصيّ فيها . ويظهر أخذها بهذه المبادئ على نحو جليّ  في قولها  :

لي مفكِّرةٌ لا تحظى بخَفْرِ السّواحل

لا أُخفي أسماءَ الرّجالِِ

ورسائلَهم, وأرقامَ هواتفِهم

في جيوبٍ ثيابٍ مهمَلةٍ

لا أهرِّبُ مبالغَ صغيرةً في بطاناتٍ عتيقةٍ

أو في وساداتِ القطنِ

أو تحتَ فراشِ حبٍّ تأكسد بالروتين

لي أن أختارَ صنفَ البكاءْ والخبزِ

وساعةَ النّومِ والهذيان

لي جدرانٌ تكتُمُ أحوالَ الطّقسِ

حين يدهمُني انقلابٌ ربيعيّ

سيدةُ هذا الهُنا الصغيرِ

سيّدةُ ال متى.. ال أينَ.. ال كيفَ

ولي ما ليسَ لهنَّ

نفسٌ أمّارةٌ بالوردِ والطيران

( كثيرة أنت ص 12 )

وهذا التيّار الذي ظهر ونشِط على نطاق واسع بأروبا والولايات المتّحدة منذ القرن التاسع عشر قبل أن يتجذّر  بداية من  سنة 1968 بالدّعوة إلى المساواة التامّة بين الجنسين ( 3 )  قد  دخل الثّقافة العربيّة  في أوائل السّبعينات ،  انطلاقا من مصر حيث كانت نوال السّعداوي ( ولدت سنة 1930  ) رائدة له وداعية  ،  مستفيدة من مناخ الانفتاح على الغرب الذي نظّر له عدّة  مصلحين ومثقّفين تنويريّين عرب في ظلّ أنظمة تحمل الفكر الاشتراكيّ أو اللّيبراليّ لاسيما بمصر وتونس وسورية ولبنان والعراق والجزائر والمغرب . وكانت قد مهّدت لدخول هذا التيّار دعوات  عدّة إلى تحرير المرأة  ـ قادها رجال لا نساء أبرزهم قاسم أمين  (1863 – 1908)  بمصر والطاهر الحداد (  1899 – 1935 )  بتونس لكنّها اصطدمت بمعارضة شديدة من لدن المحافظين  ، على الرغم من ارتكازها على مبدإ التّوفيق بين الحداثة  و جوهر الدّين الإسلاميّ ومحاولة استلهام أدلّة داعمة لها  من  روح الشّريعة للاحتجاج على جواز الاختلاط بين الجنسين في فصول الدّراسة  وسفور المرأة المسلمة واشتغالها  خارج البيت  . فما بالك إذا أضحت المرأة هي المطالبة بحقوقها  ومرجعيّاتُها  في ذلك عقليّة بحتة لا  دينيّة  ؟  لاسيّما في وضع اتّسم  على نحو متزايد بتراجع الفكريْن الاشتراكيّ واللّيبراليّ بالوطن العربيّ  في العقدين الأخيرين خاصّة  ، مقابل الصعود القويّ للتياّرات الدّينيّة المتشدّدة.

لكنّ المرأة العربيّة المتحرّرة لا تواجه تيّارا فكريّا وحسب وإنّما عقلية اجتماعيّة  شرقيّة  متصلّبة  متوارثة جيلا بعد جيل ، ضاربة  بجذورها في أعماق التّاريخ إلى ما قبل ظهور الدّيانات السّماويّة   تُنَزّل المرأة في منزلة العنصر المكمّل للرّجل وتحدّد وظيفتَها في خدمته و تعمل على تنشئتَها  خصّيصا للاضطلاع بهذا الدّور . وهو ما  يتعارض مع المثل النِّسْويّة التي تحملها الذّات الشّاعرة  فتعلن تمرّدها عليه وتباينها مع الصّورة التي رُسمت لبنات جنسها في العقليّة السّائدة  :

امرأةٌ أنا يا أمّي

أعرِفُ أسرارَ الجدّاتِ

وسراديبَ شهرزادَ

وكلََّ حكاياتِ تمائمِكِِ المرصّعِةِ بألفِ نعمٍ

امرأةٌ أنا يا أمّي

صندوقُ عُرسِكِِ لا يلزمني

أكرهُ أساورَكنَّ

قلائدَكنَّ

خواتمَكنَّ

وكلَّ ما يشتهي الإحاطةَ بي

..

امرأة أنا يا أمّي

نبذتني عُلبُ النّومِ الفارغةُ

لأنّني

أرتّبُ تفاصيلَ حكايةٍ أخرى

( نفسه ص 6 )

وممّا يؤرّق الذّات الشّاعرة – وهي الحاملة لهذا الفكر النِّسْويّ التّحرّريّ – ترسُّخُ هذه الرّؤية الدُّونيّة للمرأة في عقليّة الرّجل  نفسه الذي يعاملها حتّى دون أن يشعر معاملة المتاع . وفي ذلك تقول :

في حضوركَ

كما جريدةٌ أنوثتي

يستلّها من ركنٍ مهملٍ سائقٌ

يُلمّعُ بها زجاجَ سيارتهِ

دونَ كثيرِ انتباهٍ

ثمّ يمضي

( نفسه ص 8 )

2- الوجه الثّني للأزمة :  تدهور الأوضاع  السياسيّة في المشرق العربيّ والكارثة التي حلّت بالعراق المجاور :

لئن  كان الواقع الاجتماعي الثّقافيّ هو المانع الأصليّ من تحقّق حلم الذّات الشّاعرة بأن تكون سيّدة نفسها طبقا للتّصوّر النّسويّ المثاليّ الذي تتعلّق به  ، لا  كائنًا مُشَيَّأً مُلحقا بالرّجل فإنّ عاملا آخر زاد في تعميق مأساتها وتأزيم حالتها النّفسيّة . وهو  تدهور الأوضاع  السياسيّة في المشرق العربيّ  عامّة والكارثة التي حلّت بالعراق المجاور خاصّة ،  في أثناء عمليّة الاجتياح وبعدها   وما تسبّبت فيه ولا تزال  من زرع متواصل  للدّمار وإزهاق لآلاف الأرواح  و انقسام الشّعب إلى طوائف متناحرة . ولهذا الوضع السّياسيّ المتفجّر صدى في بعض قصائد المجموعة تبدي فيها  أساها لهذه الكارثة. وفي هذا تقول :

عرباتُ الرّيحِ تتسكّعُ فوقَ أضلاعِ الوطنِ

يا حُوذِيُ

إنّي لأسمعُ صريرَ العجلاتِ

رقصَ سدنةِ الأنينِ

حُداءَ الثّكالى

والقلبُ يرتجلُ تراويحَ الهبوب

( نفسه ص 37 )

في شوارع بغداد

      لا تدري الأحشاءُ المبعثرةُ

أيّها سُنّيٌ.. أيّها شيعيٌّ

أيّها عربيٌّ.. أيّها كرديٌّ!؟

……………………..

     لا أذكرُ:

 اسم الحزبِ الحاكمِ

اسمَ رئيسِ الحكومةِ

أحداً من أعضاء البرلمانِ

أذكرُ رتلاً من المتسوّلين

تحتَ شرفاتِ السّماءِ

( نفسه ص 35 )

مبدية فزعها من انقسام الصفّ العربيّ والأخطار الدّاهمة  المنجرّة عنه التي بدأت تعصف بمنطقة  الخليج كلّها والتي  يمكن أن تأتي على الأخضر واليابس فيها في أي لحظة  وكأنّها تتنبّأ  بامتداد  النكبة  إلى بلدها  في المستقبل القريب :

على طول الخليجِ

بين فكّي المحيطِ

سواعدُ الصّلاةِ تبتهلُ:

يا ربُّ فيلةُ الأرضِ تدهمنا

أينَ أبابيلُكَ؟

ها هم يجيئون من كلّ دربٍ

3- الوجه الثّالث للأزمة : صراع بين نزعة الذّات الشّاعرة الاستعلائيّة* المعلنة وهشاشتها * النّفسيّة الخفيّة :

إنّ الوجه الفكريّ للأزمة  يؤلّف ، كما أسلفنا ، الخلفيّة التي منها تنبع أزمة  الذّات الشّاعرة  لكونها تتعلّق بمبادئ في الحياة و السّلوك تتعارض مع العقليّة السّائدة التي  لا تقرّ  إلاّ بنقيضها . لكنّ   حضوره ، ككلّ خلفيّة فكريّة   ، في خطابها  معنويّ لا لفظيّ . وهو ما يتجسّد في قلّة الإشارات إليه  و إن كانت هذه الإشارات ، على ندرتها ،  كما رأينا  ، متيسّرا إدراك دلالاتها. أمّا الواجهة في هذا الخطاب فيحتلّها على نحو مكثّف بارز الوجه النّفسيّ  الذي هو متولّد عن الوجه الأوّل . وما هذا بغريب ،  إذ هنا يكمن الفرق بين المثقّف العاديّ ذي  التوجّه الفكريّ المحاصَر والمثقّف الفنّان الذي يوجد في وضع مماثل . فالفنّان في حال كهذه  ليس في وسعه ، لكونه مفرط الحساسيّة ،  اجتناب أزمة نفسيّة تعصف بكيانه الرّوحيّ وتؤزّه أزّا . ولمّا كانت أسباب هذه الأزمة ثابتة فإنّ أعراضها تكون  حتما ثابتة أيضا . وهذا  ما يجعلها تؤلّف بنية متكاملة واضحة المعالم . فما هي مكوّنات هذه البنية النّفسيّة وما خصائصها في خطاب الذّات الشّاعرة ؟

يذهب هنري برقسون  (      Henri Bergson   1859 –  1941)   في هذا الصّدد إلى أنّ ” نفس الإنسان تتكوّن من مستويين : أحدهما سطحيّ والآخر عميق . ففي السّطحيّ تتجمّع آثار المحيط الخارجيّ على هيئة انطباعات وأحاسيس متجاورة  لكن حين ننزل إلى الأعماق نجد تلك الانطباعات والأحاسيس قد انصهر بعضها في بعض إلى أن أضحت تؤلّف كيانا مخصوصا يختلف من شخص إلى آخر  وسط المحيط نفسه ”  ( 4 )    . وهذا الكيان المخصوص هو الذي يعنينا هنا دون سواه .

يلوح  كيان الذّات الشّاعرة في  مستواه العميق مكوّنا من دُرْجَيْن  *أو مقصورتين* على حد تعبير كارل قستاف يونق (Carl Gustave Jung     1875 – 1961 )    ( 5 ) أحدهما معلن –  وهو  الأقوى حضورا و الأشدّ تردّدا – والآخر  مكتوم . لكنّه يطفو بين الفينة والأخرى إلى سطح الخطاب . أمّا الأوّل فهو شعور عاصف ساحق بالاستعلاء . وأمّا الثّاني فهو هشاشة نفسيّة بالغة . وهو ما يجعلهما يكونّان ثنائيّة  تقابليّة * .

3 1: الشّعور السّاحق بالاستعلاء في خطاب الذّات الشّاعرة :

ليس الشّعور بالاستعلاء في خطاب الذّات الشّاعرة  مجرّد إحساس بالتفّوق في مقامات معيّنة وإنّما هو شعور بالتفوّق المطلق على جميع النّساء كما  أفصحت عنه في قولها :

وحيدةً

ولي ما ليسَ لهنَّ

شمسٌ تُنضِجُ صحوي برفقٍ

زوجُ هديلٍ يغازلُ  همسُهُ الصّباحَ

على أغصانِ نافذتي

لي مرآةٌ تبسِمُ لوجهي

مثقلاً ببقايا أحلامٍ ولون

لي: متعةُ التمدّدِ والتكاسلِ

وثيرُ الصّمتِ..

ترفُ الأفقِ

مفاتيحُ الأبوابِ والوقتِ والطرقاتِ

خزائنُ الملابسِ

الكتبُ

ومعطرُ الجوِّ الخاصُّ بمزاجي البحريِّ

لي: أن أديرَ الفضاءَ حسبَ وِجهةِ مُتْعتي

وأشربَ القهوةَ دونَ زحامِ الكلامِ

والأصدقاءِ

وورقِ اللّعبِ

و صوتِ النّردِ يتدحرجُ على خشبِ رأسي

( نفسه ص 11 )

بل إنّ هذا التفوّق  يصل إلى حدّ تأليه الذّات  وتجاوز حتّى  ما جاء في قول أبي الطّيّب المتنبّي  ( ت 354 ه ) الذي اكتفى بتفضيل نفسه على كلّ البشر في قوله الشهير  :


أيَّ محلّ أرتقي       أيَّ عظيم أتّقي

وكلُّ ما خلق اللهُ     وما لم يخلُقِ

محتقرٌ في همّتي   كشعرة في مفرِقي

وهذه النّزعة التّأليهيّة  للذّات الشّخصيّة  التي ينبغي فهمها على أنّ دلالتها  إبداعيّة  مجازيّة لا حقيقيّة تتجلّى في قولها :

أشهدُ أنْ لا أنا إلاّ أناي

حاملُ غيمِ الخطيئة

المبشِّرُ بالخلودِ..

أنا المفرَدُ

 لا الإلهُ

هو كلُّ ما يؤوِّلونَ

ولي تأويلٌ واحدٌ فقط

( نفسه ص 5 )

وفي قولها :

راودَ الحلمُ الحدودَ عن حمرتها

فأنجبتني…

ليس لي اسمٌ ولا رقمُ قيدٍ

في السِّجلاتِ المعتمَدةِ للملائكةِ أو للشّياطين

اسمي على قارعة كلِّ كون!

( نفسه ص 13 )

إنّ هذه الرّؤية إلى الذّات،  فيما يُجمِعُ عليه علماء النّفس،  رؤية سلبيّة تتأتّى من حالة مَرَضِيّة  قوامها  توهّم المصاب بها أنّ نفسه قُدّتْ من عنصر سحريّ  يكسبها المناعة التّامّة  ويضمن لها العصمة من الوقوع في الخطإ و من الاتّصاف و إن مؤقتا بالوضاعة والّتفاهة  والهشاشة . وهو ما يجعله فلتةَ دهره من زاوية نظره  ودُرّةَ زمانه  لا يأتيه النّقص من أمامه ولا من  خلفه  .وبيت العلّة في هذا الموقف إغفال صاحبه أنّ رؤية الذّات البشريّة الفرديّة لنفسها أو للآخر أو للواقع تحكُمها  وجوبا مصالحُها ورغباتُها وتآويلُها وأغراضُها  الشّخصيّة . وهي جميعها   معطيات ذاتيّة بحتة لا تضمن ضرورة  للفرد  بلوغَ الحقيقة  إلا مصادفةً . ومن ثمّة فإنّ انتفاخ الذّات غالبا ما يخفي  هشاشة نفسيّة  بالغة وضعفا شديدا  في الشّخصيّة .

يقول جاك لاكان (    Jacques Lacan 1901 – 1961 )  في ذلك :

“عندما تنعدم الأسلحةُ التي يمكن أن يهدم بها  الفرد ما تقيمه  الحياةُ من حواجز في طريقه يجد  أمامه طريقين : الأوّل هو رفض حكم الآخرين عليه والآخر هو الاحتماء منه بالهروب إلى تصوّرات مستقبليّة  حيث لا يكون  البتة عرضة للإخفاق ” … ” وحين يظهر الشّعور بالعَظَمة في سنّ النّضج مقترنا بشعور بالاضطهاد * متأتّ من  آثار المُضايفات التي تسلّطها عليه الحياةُ فإنّه يتمّيز  إذ ذاك بتقدير مغالًى فيه للقدرات الذّاتيّة  ” . ( 6 )

هذا هو موقف علم النّفس من الشّعور بالاستعلاء .أمّا أطبّاء العقل فيسمّونه داء العظمة* ويَعدّونه حالة ذُهانيّة *.  على أنّه مهما كان الأمر فمن التّعسّف  بمكان إسقاط هذين الحكمين إسقاطا آليّا  على الذّات الشّاعرة في السّياقات الاجتماعيّة والّثقافيّة والحضاريّة التي أنشأت فيها خطابها  والتي تجد فيها نفسها محاصرة ، مقموعة  ،  محلّ استنقاص وشكّ  ،  مهدَّدَة بالتّشيئة والتّبعيّة و التّهميش و طمسِ الملكات والمواهب . وكلّ  ذلك  ليس لكونها فردا معيّنا ارتكب جناية اقتضت تسليط عقاب عليه  بل لأنّها  أنثى .وهذه إن شئنا لعنة ذات بُعد  قَدَريّ وجوديّ مأسويّ  أليم .

ففي مقام كهذا تكون دلالة الشّعور بالاستعلاء أو العظمة الأقرب إلى الصّحة هي الدّفاع عن الذّات لا باعتبارها فردا  بل جوهرا  . ويكون لهذا الدّفاع طابع مصيريّ . وهو ما يفسّر ذهاب الذّات الشّاعرة  فيه إلى أبعد الحدود.

3- 2:هشاشة الذّات الشّاعرة النفسيّة  البالغة المتخفّية وراء الاستعلاء :

لعلّ ما يدعم تفسيرنا  للشّعور السّاحق العاتي بالاستعلاء في خطاب الذّات الشّاعرة هو أنّ بعض الإشارات المتناثرة في هذا الخطاب تكشف عن عكس ما تصرّح به  . وهو هشاشة نفسيّة  شديدة  تتجسّد  في الإحساس بفراغ داخليّ  على نحو ما تصرّح به في هذا القول :

الكأسِ أمامي

لا نصفٌ مُلِيءَ أرى

ولا فارغٌ نصفٌي الآخرُ

كيف تلاشى النّصفان؟!

( نفسه ص 29 )

وشعور بالضّياع :

أنا الدّائرةُ

أبحثُ عن مركزٍ

( نفسه ص ص 43 – 44 )

وفي حزن وأسىً بالغيْن مترسّخيْن  كما في قولها :

السّلامُ على الحُزنِ يُوقظُ نومكَ الهادئَ

السّلامُ على الدّمعِ

يغفرُ تعاقبَ الصّمتِ..

ويُلقي بي في مصبِّ قصائدكَ.

( نفسه ص 29 )

وقولها :

صباحَ العيدِ

لاحظتُ تضاعفَ رصيدي من الحزنِ

فتحتُ حقائبَ الكلمات

رتّبتُ في قاعِها

ما فاض عن مصروفِ يومٍ واحد

(نفسه ص ص 30- 31 )

وقولها :

لدموعي كما للفنادق الفخمةِ

أبوابٌ رهيفةٌ

عند أدنى اقترابٍ

تُفتَح

( نفسه ص 30 )

وقولها :

حين يخترقُ الحزنُ مرآتَكَ

لاشيءَ أكيدَ سوى الألم..

في أرض اليائس

شواهدُ قبورٍ

ليس إلاّ!

( نفسه ص 27 )

3-3 :انفصام الذّّات الشّّاعرة نتيجة اجتماع الهشاشة والشّعور بالاستعلاء :

إنّ اجتماع هذين الشّعوريين المتناقضين : الإحساس بالاستعلاء (  أو العَظّمة ) وبالهشاشة  في الذّات الشّاعرة لهو مظهر من مظاهر ازدواجيّة الشّخصيّة*  التي تنشأ  بظهور شخصيّة ثانية إلى جانب الشّخصيّة الأصليّة  حين يعجز الجهاز الدّفاعيّ للفرد عن  تحمّل المضايقات المتأتّية من المحيط الخارجيّ أو صَدّها    فينفصلُ عندئذ  عن الأنا جزءٌ منه ويُحْدِثُ  واقعا جديدا متخيَّلا يلجأ إليه  هروبا من الواقع الحقيقيّ .

يقول  جان برجوري ( Jean Bergeret    ولد سنة 1923 ) في هذا الصّدد  :

” الازدواجيّة  تنطلق من علاقة مزدوجة بالواقع  تؤدّي إلى تجزئة الأنا   . وذلك  بأن ينشئ جزء من الأنا إحساسا  بالاطمئنان . وهو ما  يحصل حين يكون الجهاز الدّفاعيّ ضدّ الواقع غير كاف ” . ( 7 )

وليس ثمّة شّك في أنّ الشّخصيّة الأصليّة في الحالة التي نحن بصدد دراستها هي الشّخصيّة الهشّة وأنّ  الشّعور بالاستعلاء جاء ليتجاوزها أو يغطّيها أو  يفرّ منها . وحضورُها يدلّ على فشل هذه المحاولات كلّها .

وقد تواتر هذا الازدواج في قصائد المجموعة على نحو لافت .من ذلك قول الشّاعرة :

لم تكن دمشقُ التي تعرفون

لم يكن ليلاً

لم يكن مطراً

 لم أكن أنا  بل كان وحدي

ووحدي بيتُهُ

وحدي.. وحده مَشَيْنا

فتمزَّقَ ليلُ دمشقَ

( نفسه ص ص 20 – 21 )

تكسّرتِ المرآةُ

فكيف أراني وأنا داخلي؟

( نفسه ص 24 )

كثيرةٌ أنتِ

نساءٌ في امرأة

فمن أسجنُ ومن أنفي؟

من أكرهُ منهنَّ ومن أحبُّ؟

كوني كما ينبغي

امرأةً أقلَّ.

( نفسه ص 4 )

تجالسني الوحدةُ

نتناوبُ رشفَ فناجينِ القلق

( نفسه ص 22 )

4- الوجه الرّابع للأزمة : حيرة الذّات الشّاعرة الوجوديّة العميقة إزاء منزلتها في الكون :

إنّنا إذن إزاء ذات شاعرة منشطرة نفسيّا من جرّاء الضّغوط القويّة  التي يسلّطها عليها المحيط الاجتماعيّ والثّقافيّ . وقد زاد حالتَها تأزّما  الوضعُ السّياسيّ  المتدهور في المشرق العربيّ وما ينبئ به من اتّساع وامتداد  وشيكين إلى كلّ بلدان المنطقة ومنها بلادها . ويكشف خطاب الشّاعرة في بعض سياقاته عن كون الأزمة التي تعاني منها المتكلّمة قد امتدّت من المستوى النّفسيّ إلى المستوى الذّهنيّ .فإذا هي تتّخذ بعدا وجوديّا قوامه الحيرة والقلق والوَجْس*  لا من الواقع  فقط بل من غموض العلاقة بين الأنا والكون  مكانا وزمانا . وليس ثمّة ما يمنع من أن تكون  لهذا البعد صورة  جنينيّة  قديمة سابقة للأزمة النّفسيّة  الحاليّة ترجع إلى عهد الطّفولة ثم أيقظته هذه  الأزمة  من سباته . فطفا على سطح الوعي . وأضحى يؤلّف جزءا آخر إضافيّا من أجزاء الذّات  ، مسهما في استفحال حالة التفجّر التي هي عليها .

ومن أمثلة  هذا البعد الوجوديّ  فيما يتّصل  بغموض  العلاقة بين الذّات والمكان وبينها وبين الزّمان وبينها وبين نفسها في قصائد المجموعة الأبيات التّالية  :

استدركتُ منّي بعضاً

وعدتُ إلى مرآتي

ما الفرقُ أن أكونَ هنا

أو هناك؟

أشعلتُ كلَّ حقولِ البكاءِ

ومازالت خابيةُُ القلبِ تعتّقُ مراياهُ !!

( نفسه ص 32 )

تفلسفْ

السّماءُ مرايا

أليس الإنسانُ انعكاسَ المطلقِ على الأرضِ؟!

( نفسه ص 24 )

لطالما تساءلتُ:

لماذا يسابقُ صحوي رنينَ السّاعةِ المنبّهةِ ؟

( نفسه ص 28 )

لِمَ يكونُ يومي مثلَ يومهم أربعاً وعشرينَ ؟

( نفسه  ص19 )

أمام بحارِ العمر:

يغرفُ الطفلُ من ممتدٍّ

يغرفُ الشيخُ من مراياهُ !

( نفسه ص 30 )

الآنَ..

تشتاقُ الثّلوجُ انصهارَها

وأنا.. أشتهي منّي انعتاقاً..

( نفسه ص 30 )

  II- خصائص شعر سوزان إبراهيم الإنشائيّة  :

يخضع بناء الصّورة في شعر سوزان إبراهيم حسب ما جاء في هذه المجموعة لنظام ثابت واضح المعالم يمكن أن نسمّيه إنشائية التفجّر أو التجزّؤ. وهذه الإنشائيّة تقوم على استثمار طاقة الإدهاش التي تنطوي عليها فكرة انشطار العنصر الواحد. وقد استغلّتها الشّاعرة في عدد كثير جدّا من الصّور أوردنا فيما سبق أمثلة  عدّة منها . وفي ما يلي أمثلة أخرى :

كثيرةٌ أنتِ

نساءٌ في امرأةٍ

فمن أسجنُ ومن أنفي؟

من أكرهُ منهنَّ ومن أحبُّ

كوني كما ينبغي

امرأةً أقلَّ

( نفسه ص 4 )

وكيفَ تدركُ أنني لستُ أنتَ؟

كنتُكَ! ربّما..

زادتني أناي حظوةً

صرتُ.. أنا

( نفسه ص 7 )

تكسّرتِ المرآةُ

فكيف أراني وأنا داخلي؟

( نفسه ص 24 )

أشكوكَ إليَّ

فألومُني.. وأغفِرُ لكَ

( نفسه ص 42 )

في بيتي غرفتان:

واحدةٌ لتذكاراتِكَ

وأخرى لانتظاركَ

( نفسه ص 47 )

وفضلا عن هذه النّزعة الغالبة  تتمّيز  قصائدها بوضوح المعنى لكن  مع التّسامي عن الوقوع في فجاجة الدّلالات المرجعيّة  . ويرجع الفضل في ذلك إلى استخدام الومضات المباغتة على نحو مكثّف داخل القصيدة الواحدة .  ومن أمثلة ذلك  المقاطع التّالية :

وحينَ – في ذاتِ المكانِ – تغذُّ السيرَ

بحثاً عن حُورٍ عينٍ

أُطلقُ كونَ مداراتٍ

ههنا من مركزِ الدائرة

( نفسه ص 14 )

عينانِ مفتوحتانِ

وقلبٌ مطفَأٌ

أمامَ المرآةِ

كلاهما أعمى

( نفسه ص 26 )

لم أُلبِسِ البحرََ

وقتي ولا لغتي

..

فلِمَ كلُّ هذا الهدير؟

( نفسه ث 41 )

من خزائني  أخرجتُ قمصاناً

فجاءتْ كائناتُ الوجدِ

تبحثُ عن ألوانها

( ص 44 )

لنورسِ قبلةٍ منحتُكَ طوعاً

ينحني البحرُ

( نفسه ص 46 )

أمّا الإيقاع فذهنيّ  لا لفظيّ. وهو ما جعلها تستغني عن القافية  إلا  ما جاء منها عفويّا .

الخاتمة :

تقودنا النّتائج الفرعيّة التي أفضت بنا إليها هذه القراءة السّريعة لمجموعة سوزان إبراهيم كثيرة أنت إلى أنّ تجربة صاحبتها في حدودها تتأسّس على أزمة  حادّة في تمثّل الذّات الشّاعرة لنفسها . ومحصّل هذه الأزمة أنّ  هذه الذّات تتراءى مكوَّنة من ثلاثة دُرُوج  متزامنة النّشاط : الأوّل فكريّ مذهبيّ ( النِّسْويّة بمفهومها الأكثر تقدّما ) والثّاني نفسيّ ( استعلاء / هشاشة ) والثاّلث ذهنيّ ( قلق وجودي ) .  وكلّ جزء من هذه الأجزاء في صراع مع  خصم خارجيّ أو داخليّ . فالجزء الفكريّ في مواجهة لا هوادة فيها  مع العقليّة السّائدة والجزء النّفسيّ يتوزّعه شعوران متناقضان والجزء الوجودي في عراك مع العبث واللاّمعنى . وهذا هو الذي قصدناه في عنوان دراستنا ب الذّات المتفجِّرة ” . وقد استطاعت الشّاعرة أن تصوّر هذا التجزّؤ بلغة عالية الشّعريّة  لما تتمتّع به من قدرات تخيليّة أتاحت لنا تنقية خطابها من  الدّلالات المرجعيّة الفّجة مقابل تكثيف العدول والإيحاء .

الهوامش :

1-   إبراهيم ( سوزان ) ، كثيرة أنت ، دار التكوين ، دمشق  2010

2-  Searle ( John ), Les actes du langage ,  Essai de philosophie linguistique ,coll.  Savoir  , Hermann , Paris pp 60 – 7

3-Perrot  ( Michelle )  , Une histoire des femmes est-elle possible?    , Rivages,   Marseille 1984  pp.189-204

4-Bergson ( Henri ) , Essai sur les données immédiates de la conscience ,PUF , Paris 1975  pp 73 – 74

5-Jung ( Carl Gustave ) , Essai d’exploration de l’inconscient, Editions Gontier , Paris 1964 p 115

6- Lacan ( Jacques ) , De la psychose paranoïaque dans ses rapports avec la personnalité suivi de Premiers écrits sur la paranoïa, Editions du Seuil,  Paris 1975 p 61

7- Berjeret  (Jean ) ,Psychologie pathologique . structure psychotique ,Masson  , Paris  2004 p 208

المصطلحات :

*قوليّ (Locutoire  )

*مقصود بالقول ( Illocutoire )

*دُرج (Tiroir  )

*مقصورة (Compartiment  )

*شعور بالاستعلاء ( Sentiment de supériorité )

*هشاشة  نفسيّة (  Fragilité psychologique )

* ثنائيّة تقابليّة (Dichotomie  )

* شعور بالاضطهاد (Sentiment de persécution  )

*داء العَظَمة ( Mégalomanie  )

* ذُهَان ( Psychose )

*ازدواجية الشّخصيّة (Dédoublement de la personnalité  )

*الوَجْس (Angoisse  )

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*