تقنية إخفاء المعنى في شعر الشّاعر التّونسيّ عبد الوهّاب الملوّح قصيدة “خرابُ المعنى” أنموذجا : محمّد صالح بن عمر

d8b9d8a8d8af-d8a7d984d988d987d8a7d8a8-d8a7d984d985d984d988d8ad

الشّاعر التّونسيّ عبد الوهّاب الملوّح

couverture mlawah

 

وردت قصيدة ” خراب المعنى ” لعبد الوهّاب الملوّح  في مجموعته الموسومة بالواقف وحده  (1) . وهي القصيدة التي استمدّ منها عنوان المجموعة  . وقد تردّدت عبارة  العنوان هذه داخلها ثلاث مرّات في صيغتها الكاملة  ، زيادة على تكرّر رأسها  “الواقف” أربع مرّات .

هذان المركّبان الإضافيّ ” خراب  المعنى” و شبه الإسناديّ ” الواقف  وحده ” يؤلّفان ثنائيّة يتقابل  طرفاها في السّلب  والإيجاب .  فخراب  المعنى  يوحي  بالانهيار والتّلاشي على حين يفيد الوقوف على انفراد  معاني الثّبات والتصدّي وقوّة الشّكيمة   . لكن لمّا كان الطّرف الأوّل – وقد اختير عنوانا للقصيدة- يصوّر المُناخ العامّ السّائد داخلها فإنّ  علاقته بالطّرف الثّاني  هي علاقة حاوِ بمحتوًى .

فالواقف وحده قد انتصب وسط محيط متدهور انهارت فيه القيم السّامية وألقى المدافعون عنها أسلحتهم  ،  راكنين  إلى الاستسلام وقبول الأمر الواقع .

تلك هي النّواة الدّلاليّة التأسيسيّة التي منها انطلق الشّاعر ليولّد شبكتين  من المعاني المتضادّة  تحوي إحداهما الأخرى وتعتصرها اعتصارا ،  إلى حدّ جعل جوّ القصيدة العامّ يطغى عليه الشّعور بالاختناق  مع ردّ فعل عليه بالانتفاض .

لكنّ  هذه النّواة الدّلاليّة المزدوجة لم يُقدَّم  في العنوان سوى جزء منها . وهو الجزء السّلبيّ لكن الأقوى الذي يشكّل الإطار” أي خراب المعنى  ” . أمّا الجزء الثّاني- وهو العنصر المسلّط عليه الضّغط والمجسّد  للتّصدّي والمواجهة أي “الواقف وحده ” –  فلم يرد بصريح الّلّفظ إلاّ بداية من  البيت السّبعين من  القصيدة .

هذه المباعدة بين شطري النّواة تُرسي في ذهن  المتقبّل، على امتداد تسعة وستين بيتا، الصّورة العامّة للإطار وتؤجّل حضور العنصر المضادّ لها  . وهو ما يلغي إمكان التنبّه  إلى البنية التّقابليّة التي يتأسّس عليها النصّ برمّته !لاّ بعد قطع شوط كبير في  القراءة .

فكأن بالشّاعر حرص أوّلا على الزجّ بالقارئ في خضمّ عالم  متداعي الأركان ،  متضعضع الدّعائم، تتراكم  على أديمه الأنقاض  و تتناثر الأشلاء حتّى يستوقد نقمته على مقترفي ذلك الدّمار و يشعره بمدى فظاعته وصعوبة الثّبات في ظلّ الوضع الذي انجرّ عنه .

ولم  يسلك الشّاعر في  تصوير هذا الوضع طريقة النّقل المباشر بل اعتمد أسلوب الإيحاء بتجميع صور تشي  بالتّدهور والانهيار  ،  مع اجتناب نظمها  في سلك منطقيّ  من شأنه  أن يشدّها  إلى المعقوليّة العامّة التّي يخضع  لها الكلام  العاديّ .

وقد ترتّب على هذه الطّريقة في الكتابة عدول النصّ في معظم سياقاته عن  النّسق المنطقيّ العامّ في صياغة الجملة . وهو ما أدّى إلى إنشاء سلاسل من الجمل النحويّة ظاهرا  لكن تخلو من بُنًى  دلاليّة مفهومة .

يقول الشّاعر (2) :

في زمهريرِ التّوهّجِ تُكسِّرُ جذعَ الصّدى المتشنّجِ

في غُرَف النّزواتِ وتَغْشى الرّؤى الواجمةَ

يؤلمُها شَغَبُ  الصّبوةِ الآبقةِ من حريقِ التكتّمِ

اللاّهثةِ فيما تأجّجَ من عطرِ أنثى، عشياّتٍ…

إنّ قوله “زمهرير التّوهّج  ” هو من قبيل اجتماع الضدّين في المحلّ الواحد لأنّ الزمهرير- وهو البرد القارس- والتّوهّج الذي هو اشتداد الحرّ يمتنع  تضايفُهما (أي إضافة أحدهما إلى الآخر)  ، كما تمتنع استعارة  الجذع للصّدى، لعدم المناسبة  بين  المستعار والمستعار له .  وذلك لأنّ الجذع ثابت والصّدى منساب .

ولهذا السّبب فإنّ الجملة ” في زمهرير التوهّج تُكسِّرُ جذعَ الصّدى المتشنّجِ في غرفِ النّزواتِ “وإن كانت تخضع لبنية عاديّة من بنى  الجملة الفعليّة العربيّة – وهي الفعل والفاعل والمفعول فيه – فإنّ بنيتها الدّلاليّة مهشّمة وبنيتها المنطقيّة، في الظّاهر،  منعدمة.

وتنسحب هذه المواصفات النّحويّة على الجملة اللاّحقة لها في السّياق . وهي ” وتَغْشى الرّؤى الواجمةَ يُولمُها شَغَبُ  الصّبوة الآبقةِ من حريقِ التكتّمِ اللاّهثةِ فيما تأجّجَ من عطرِ أنثى عشياّتٍ ” .

فتركيب هذه الجملة موافق لقواعد الجملة الفعليّة في اللّغة العربيّة كما أنّ الأفعال (تَغْشى – يُولم- تأجّج  ( صحيحة من حيث  التعدّي واللّزوم  .لكنّ الوحدات المعجميّة التي أحلّها  الشّاعر في  المحلآت النّحويّة لا تتصاحب في العادة .  فاستعارة الغشيان  – وهو خاصّ بالمرأة – للرّؤية يثير أيضا إشكال المناسبة  بين المستعار والمستعار له . ومثله استعارة التأجّج  من النار ل”عطر الأنثى ” .

وهكذا فقراءة هذا المقطع  في ضوء البلاغة التّقليديّة تفضي آليّا إلى رفض الصّور  المجازيّة التي يشتمل عليها .  وذلك لأنّ للبيان بمفهومه الاصطلاحي عند البلاغيّين  العرب القدامى قواعد لا يمكن التّصرّف إلاّ في نطاقها .

لكن  يكون من الحيف مع ذلك  محاكمة خطاب  شعريّ  ببنود تلك البلاغة والحال أنّه اختار عمدا تجاوزها والتّمرّد عليها .

فلو اختار الشّاعر منذ المنطلق ، الخضوع لقواعد البلاغة القديمة  ثمّ  قصّر في تطبيقها لكانت محاسبته في محلّها  . أمّا  أن  يكون هاجسه الأوّل تأسيس  بلاغة جديدة   فعلى القارئ  إمّا الاجتهاد في اكتشاف أسسها ومبادئها  وإمّا ترك النّصّ والانصراف عنه لاستحالة فهمه بمعزل عنها .

فالأمر يتعلّق، إذن، بمدى استعداد القارئ للتّخلّي عن القراءة الإسقاطيّة المنواليّة التي تَقصُر عن النّفاذ إلى ما وراء بنية النصّ السّطحيّة .

ويعني ذلك عمليّا أنّ الحكم على خطاب مّا  كلّه أو بعضها بالإبهام مردّه أساسا، إلى عدم مطابقة المنهج المتوخّى في القراءة لطبيعة ذلك الخطاب .

فالأسلوب المعتمد في المقطع الذي نحن بصدد قراءته  من قصيدة عبد الوهّاب  الملوّح يختلف عن الأسلوب القائم على ترجمة الأفكار مجازيّا طبقا لمبدإ المناسبة التّامّة بين  الصّورة المتخيَّلة والواقع الذي تحيل  عليه .

فالصّورة المتخيّلة هنا لا تحكي المرجع بل تنزع إلى الإيحاء به . وهذا الإيحاء يتحقّق على هيئة بصمات  تؤلّف صورة تجريديّة متكاملة .

إنّ المتأمّل في هذه الصورة يكشف عن ثنائيّة طاغية : فاعل/ مفعول  . فالفاعل – وقد عُيّن بضمير الغائب  المؤنّث المفرد “هي ” العائد على كلمة  ” شهوة ” الواردة في البيت الثّاني  من القصيدة – ( 3) يمتاز بالقوّة والبطش (تُكسِّر) وبالفحولة (تَغْشى) . أمّا المفعول به – وقد تشكّل في صورتين :  “جذع الصّدى المتشنّج ”  و “الرّؤى الواجمة يولمها  شبقُ  الصّبوةِ ” فهو يتّسم بالتّوتّر والانتفاض . وفي هذا إيماء إلى صعوبة نجاح الفاعل في السّيطرة على المفعول . وهو ما  يجعله  عند حصوله  نجاحا مستحقّا . ويزداد الاقتناع بهذا الاستحقاق عند النظر إلى وعورة المحيط الذي يتحقّق فيه الفعل وانحلاله . وهذا ما يفيده الظرفان “في زمهريرِ التّوهّجِ  و ” و في غُرَفِ النّزواتِ ” يرفدهما لفظ  “الصّبوة ” وعبارة “حريقُ التّكتّمِ ” .

فالصّورة توحي، إذن، بمعاناة شديدة يكابدها المتحدَّث عنه في مواجهة  رغائبه  المتولّعة المكبوتة المتولّدة عن  مثير ذي طبيعة  جنسية “عطر أنثى ” .

وهي تكتسب الوضوح الكافي للفهم حين  بربط القارئ هدا المقطع  بالنّص كلّه .  فيتبيّن له أنّ المتحدّث عنه هو الشّاعر. وهو المَكْنِيُّ عنه داخل القصيدة وفي عنوان المجموعة  ب ” الواقف  وحده “.

فلنعد في  ضوء هـذه الإضاءات   إلى قراءة المقطع  مرّة أخرى :

في زمهريرِ التّوهّجِ تُكسِّرُ جذعَ الصّدى المتشنّجِ

في غرفِ النّزواتِ وتَغْشى الرّؤى الواجمةَ

يؤلمُها شَغَبُ  الصّبوةِ الآبقةِ من حريقِ التّكتّمِ

اللاّهثةِ فيما تأجّجَ من عطرِ أنثى، عشياّتٍ…

هذه الصّورة التّجريديّة تنقل  مشهدا  من لاوعي الشّاعر تتجاذب الأنا داخله قوّتان  : الأولى هي “الهُو” الكامن وراء “النّزوة ” و”الصّبّوة” والباسط سلطانه على الرّؤى (مفرد  الرؤيا أي الحلم )  والقوّة الأخرى هي الأنا الأعلى وهو الذي يكسب  الأنا القدرة على التّصدّي  و ردّ الفعل (تُكسِّرُ- تغشى…).

إنّ ترجمة هذه المعاني بلغة المعقوليّة العامّة  من شأنها  أن تحوّل النّصّ إلى درس بلغة التخصّص أي علم تحليل النّفس وإمّا إلى تحليل  نفسيّ  بلغة أدبيّة سطحيّة .  ولمّا كان الاحتمال الأوّل  ملغًى بديهيّآ بحكم طبيعة النصّ الشعريّ فإنّ عدول عبد الوهّاب الملوّح عن الأسلوب الثانّي يبرّره ، إذن، الحرص على اجتناب الوقوع في تلك السّطحيّة .

وهكذا يمكن القول إنّ الغموض في هذا المقطع هو أداة لترقية الخطاب الشّعري والسّموّ به عن  الغثاثة والابتذال .

وليس  ثمّة شكّ في أنّ هذا الحكم لأسلوب الشّاعر بالجودة يستوجب شيئا  من التّدقيق والتّوضيح . وإلاّ عُدّ قطع حبل التّواصل في كل كلام مظهرا من مظاهر الإبداع  .

إنّ هذه القصيدة “خراب المعنى ” تدور حول قصّة محوريّة . وهي وضع الشّاعر العربيّ في خضمّ التّحوّلات التي انجرّت عن  قيام النّظام العالميّ الجديد، هدا الوضع الذي من أبرز سماته تدهور القيم السّامية وانقلاب المفاهيم  رأسا على عقب واختلال المعايير وانحراف الأذواق  . وهو ما صوّره عبد الوهاب الملوّح في المقطع الثّاني (4):

الواقفُ  و حدَهُ

عندَ المنعرجِ بعدَ الأخيرِ

قُبالةَ ذاكرةِ الرّيحِ

يستندُ إلى دخانِ سقانرِهِ

المحروقةِ  بالانتظارِ

يفتنُهُ

بِرازُ كلبةٍ

 يخضرُّ في يقينِ العراءِ فاتحةً لقرنٍ جديدٍ

 ومقدّمةً لزمنٍ من سُخامِ الرّوحِ

 وبلاغةِ جنونِ مثقّفي

 النّظامِ العالميِّ الجديدِ

فللقصيدة إذن نواة دلاليّة تأسيسيّة تتفرّع عنها بقيّة المعاني . لكنّ هذا البناء الشّجريّ المقلوب الماثل في بنية النصّ العميقة ، مثلما هو الحال في كلّ خطاب يحكمه العقل، قد اختار الشّاعر التّصرّف فيه في مستوى السّطح بكسر تلك النّواة ثمّ إدراج جزء منها – وهو الأعمّ – في العنوان أي” خراب المعنى ” والجزء الآخر- وهو وضع الشّاعر- تدريجيّا داخل القصيدة إلى أن بلغ الغاية في الحضور والوضوح بداية من ثلثها الثّاني.

ولذا فإنّ قراءة التّسعة والستّين بيتا الأولى لا تسمح عمليّا بإدراك موضوع القصيدة. وهو ما يستدعي من القارئ العودة إلى تلك الأبيات بعد الاطلاع على النّصّ  بأكمله.

إنّ الأمر يتعلق، إذن، بتقنية معيّنة في بناء القصيدة تقوم على إدراج المفاتيح اللاّزمة لولوج القسم الأوّل منها ضمن أقسامها الموالية. وهذه، في الحقيقة، إحدى التّقنيات السّرديّة الأكثر شيوعا. وهي التّشويق المتولّد عن تأجيل الانفراج .

هذا على صعيد البناء التّقني العامّ للقصيدة. أمّا في المستوى الدّلالي فإنّ نصّ “خراب المعنى ” يتأسّس بدءا من عنوانه على فكرة  تهافت المفاهيم والدّلالات المتداولة . ولا شكّ في أنّ موضوعا كهذا يمكن أن يُعالج فكريّا في مقال يخضع لمنهج من مناهج البحث العلميّ. لكن داخل قصيدة يكون المقام مواتيا لاستثمار  هذا الموضوع  أسلوبيّا . وهذا ما حدا بعبد الوهّاب الملوّح إلى تفجير بنية النصّ الدّلاليّة بضرب من الكتابة يشبه في الظّاهر الهذيان أو الكتابة الآليّة أو ما سمّىاه السّرياليّون ” الجثّة اللّذيذة ” * إلاّ أنّها تنزع إلى التّماسك في مستوى بنيتها العميقة. ويستمدّ هذا الأسلوب مشروعيّته من الاختلال الذي أصاب علاقة الدّوالّ بمداليلها في معجم القيم والمثل العليا حيث فقدت بعض الألفاظ معانيها الأصليّة واكتسبت معاني ألفاظ أخرى .

ففي وضع كهذا لم تعد اللّغة التي صاغتها المعقوليّة العامّة طيلة  أحقاب طويلة بقادرة على التعبير عن الواقع الجديد. وهو ما يوجب مراجعة معجمها وإعادة ضبط الدّلالات اللفظية والمجازيّة لكلماتها وتراكيبها قصد نحت لغة جديدة. وهذه اللّغة البديل المتأسّسة على خراب المعنى لا يحذقها إلاّ الشّاعر التّسعينيّ الذي أعلن الخروج على القطيع  باستحداث إنشائيّة شعريّة مغايرة.

يقول عبد الوهّاب الملوّح في هذا المعنى  (5):

الواقفُ وحدهَ هناكَ

يفتنُه خرابُ المعنى

سيعرفُ النّملُ أنّ في الأرضِ

متّسعا لفرحٍ كبيرٍ يكتمُهُ

الأقحوانُ

وأنّ الصّمتَ وحدَهُ

يفسّرُ عطرُ الوردةِ

في يدِ الواقفِ هناكَ

الواقفِ وحدَهُ

فالغموض الذي يكتنف لغة الشّاعر ليس غموضا في حدّ ذاته. بل هو غموض من وجهة نظر القارئ الذي غشّت بصره غمامة  مقولات إنشائيّة الشّعر السّائدة فصار لا يقدر على رؤية الواقع إلا من خلالها ولا يفهم اللّغة إلاّ  من منظورها والحال أنّه يكفيه نزع تلك الغمامة حتّى تنفتح  أمام  باصرته وبصيرته آفاق أوسع وعوالم أروع يسرح فيها الخيال طليقا وتنساب العاطفة بلا قيد وتتوافد مواكب الأحلام على نحو مسترسل لا ينتهي. فينعتق العقل من أغلال المنطق العامّ الذي يعطّل ملكة الإدراك لدى الشّاعر. ويصبح الصّمت كافيا عنده لتفسير “عطر الوردة”. إنّ في هذا الكلام دعوة إلى إنشائيّة شعر جديدة لا يقدر على استخدامها إلاّ شاعر جديد . وهو ما يجعل هذه القصيدة “خراب المعنى” بيانا تامّ الشّروط صاغه صاحبه في قالب ملفوظ شعريّ .

فانهيار الإيديولوجيات في نهاية الثّمانينات قد كشف النّقاب عن حقيقة لا ريب فيها. وهي أنّ المنظومة الفكريّة مهما كان نوعها ليست سوى منظار معيّن  يُنظر من خلاله إلى الذّات والواقع والكون. فإذا تغيّر المنظار تغيّرت الرّؤية وأضحت للذّات والواقع والكون صور أخرى . ولئن كانت حاجة الإنسان العاديّ إلى منظار عقليّ أو عقديّ  مّا  مهيّإ مسبّقا   يبني بوساطته تصوّره لذاته وواقعه والكون الذي يحيط به  حاجةً  معقولة مفهومة فإنّ ديدن المبدع  هو السّعي الدّؤوب إلى استكشاف أسرار الوجود  وسبر أعماق الذّات و الكائنات  المحيطة به والعلاقات القائمة بينها  . وذلك بارتياد سبل للمعرفة  مغايرة لما هو سائد  تقتضي ضرورة  استخدام أدوات مختلفة  للإدراك  وإنشاء لغة للتّعبير جديدة  .

ومن ثمّة  فإنّ الذّات الشّاعرة  في عهد ما بعد انهيار الإيديولوجيات أضحت تتّخذ من عالمها الدّاخلي  مرآة  ينعكس عليها الكون بأسره  فتستصفي منه  ما تستصفي من  رائق الصّور وتستوحي ما تستوحي من عميق الدّلالات .  لقد غدت بمنزلة جهاز التقاط شديد الحساسية  يستقطب على نحو دائم  الرّؤى المستحدثة  والمعاني   المبتكرة ثمّ  يحوّلها إلى نسيج من الصّور محكم الحبك ،متقن الصّناعة، يحمل بصمات الذّات المبدعة والعالم الخارجيّ ببعديه اقريب والبعيد  : الواقع المعيش والكون الرّحب .

يقول عبد الوهّاب الملوّح مصوّرا وضع  الشّاعر في هذا الخضمّ (6) :

والواقفُ النبيُّ

حذوَ الحائطِ المنهارِ

خلفَ المشهدِ اليوميِّ

لأطيافٍ من القلقِ الغفيرِ

على شبابيكِ الماءِ

لا  ضوءَ في عينيْهِ

ونظرتُهُ بلا  ماءٍ

ضليلٌ  بينَ وعثاءِ المسافةِ  

والحنينِ

هو المعلَّقُ في السّكوتِ

كالشّجبِ  الخشبيِّ

كسلّةِ دهشةٍ للسّابلةِ

الواقفُ المغتمُّ

كالغيمِ المضرّجِ بالصوّاعقِ

والمطلِّ على سطوحِ القفرِ

تغفو في الصّدى

كالرّملِ عندَ البحرِ

قابعٌ في انتظارِ

مواكبِ الودقِ الجميلِ

كالخلدِ في رخْمِ التّرابِ

معرّقٌ السّيقانِ

في عفنِ اليبابِ

موءودٌ في وجْرِ الضّجيجِ

سليلُ حوتِ القِرشِ

مطعونٌ بطعمِ العاطفةِ

بنشيدِهِ البحريِّ

بفاكهةِ الكلامِ المرِّ

موقوفٌ كحزنِ السّروِ

في ترفِ الفصولِ الماجنةِ

الواقفُ المنذورُ

للرّيحِ والأنوارِ

والقلقِ الفصيحِ

لا شكّ في  أنّ قراءة هذا المقطع ، في حدّ ذاته ، تقصُر عن كشف  دلالته العامّة . وهي وضع الشّاعر  العربيّ التّسعينيّ في مواجهة الواقع المتولّد عن تشكّل النّظام  العالميّ الجديد . بل  هي توهم  القارئ بأنّ  طريقة الكتابة المعتمدة فيه هي طريقة  “الجثّة اللّذيذة ” ( أي التّركيب الاعتباطي للجمل )  التي استخدمها السّرياليّون في فرنسا  بداية من سنة  1925  وعمدوا بوساطتها إلى تركيب جمل لا تجتمع  ألفاظها في العادة نحو :  ”  الجثّة اللّذيذةُ ستشربُ الخمرَ الجديدَ  ”  وهي جملة صحيحة نحويّا،إذ تتركّب من مبتدإ وخبر لكنها خالية من المعنى المنطقيّ   . لكّن ربط  هذا المقطع بتلك الدّلالة العامّة أو على الأصح بالنّواة الدلاليّة المركزيّة للقصيدة يضيء النصّ بجميع تفاصيله .

ولهذا يمكن القول  إنّ ثمّة ضربين من إخفاء المعنى  في الشّعر : أحدهما مطابق لطريقة “الجثّة اللّذيذة ”    وَفقا لمفهومها الأصليّ -وهو الكتابة  الاعتباطيّة التي لا غرض منها  سوى اكتشاف مصاحبات لغويّة يتحقّق  بها  عدولٌ عن المعتاد حتى إن كانت خالية من المعنى المنطقي –  والنوع  الآخر هو البحث عن صور مبتكرة أيضا لكن  تمتّ بعلاقة وثيقة إلى النّواة الدّلاليّة المركزّية التي   ينطلق منها الشّاعر لكتابة قصيدته  .

الطريقة الأولى تتّسم من  جهة  بالسّهولة  ومن جهة أخرى تصبّ كلّ المعاني والصّور التي تتولّد عنها في الإبهام .  ولا يخفى أنّ الإبهام يرجع إلى سبب من الأسباب  الثّلاثة التّالية : انعدام القصد والعجز عن الإبلاغ والاستغلاق المتعمّد . و ما هذا بالإبداع الشّعري لأنّ من الشّروط الأولى  للخطاب الإبداعي مهما  كان ،  القدرة على تحقيق التّواصل بين الباثّ والمتلقّي من سبيل  غير سبيل الإبلاغ العاديّ .

أمّا الطريقة  الأخرى فهي وسيلة  ناجعة في توليد الصّور المبتكرة مع نظمها في خيط تواصليّ يربطها بالنّواة الدلاليّة المركزيّة للقصيدة  . وبمقتضى هذه الطّريقة يكون إخفاء المعنى  مجرّد مظهر من مظاهر الإضمار، إذ  يمكن بالتأمّل والتّدبّر والتّدقيق والتّفكيك النفاذ  من ورائه إلى المعنى . وهو ما يمكن تسميته غموضا لا إبهاما.  وهذه الطّريقة هي التي استخدمها عبد الوهّاب الملوّح في قصيدته ”  خراب المعنى” .

خاتمة

يتضّح  لنا إذن  أنّ أزمة التّلقّي التي يواجهها الشّعر العربيّ  منذ تسعينات القرن الماضي  مردّها إلى شيوع  الكتابة  الاعتباطيّة الخالصة لدى الكثيرين من  الشّعراء  الجدد  وفي ظنّهم أنّ إحداث المصاحبات اللّغويّة غير العاديّة وتجميعها في نصّ  واحد  كافيان لتحقيق الإبداع  . والحقيقة أنّ الإبداع الشّعريّ يتوقّف على البناء الواعي للقصيدة انطلاقا  من نواة دلاليّة تأسيسيّة تولّدُ منها المعاني الفرعيّة والأشدّ تفرّعا  .وفي نطا ق عمليّة التّوليد هذه يمكن عندئذ استخدام الطّريقة الآليّة لكن مع توظيف بعض المصاحبات اللّغوية التي تتمخّض عنها لا كلّها  في خدمة معنى  النصّ المركزيّ  إذا وجدت صلات بينها وبينه  . وذلك  بالاقتصار على الصّور ذات  العلاقة الوثيقة به  . فالطّريقة  الأولى تؤدّى إلى الوقوع  في الإبهام المانع من التّواصل تماما . أمّا الأخرى فإنّها تحدث غشاوات رقيقة تغلّف المعنى  لا يكون من العسير إزالتها للنّفاد إليه . وقد  حاولنا تبيان هذه الطّريقة الثّانية  بتحليل أنموذج  بدا لنا ناجحا وهو قصيدة عبد الوهّاب الملوّح “خراب المعنى”  .

الهوامش :

1- عبد الوهّاب  الملوّح ، الواقف وحده  ، مطبعة السّرعة  ، قفصة  ، تونس 1997  ص ص 32 – 49

2-  المصدر نفسه ص 33

3- سبق هذا المقطعَ قولُ الشاعر :

بما يتدفّقُ من نشوةٍ غامضةٍ في  وِجاقِ الحنينِ معتّقةِ  البوحِ تُفشي اندهاشَ السّكوتِ ،  سكوتِ البدايات . وهذا القول تُفتتح به القصيدة  ص 33

4- المصدر نفسه ص 38

5- لمصدر نفسه ص ص 48 – 49

6- المصدر نفسه ص ص 46 – 47

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*