الشّعر والشّاعر في مجموعة تحت شمس وارفة الظّلال (1) للشّاعر التّونسيّ شمس الدّين العوني : محمّد صالح بن عمر

téléchargement

شمس الدّين العوني

بعد المجادلات الطّويلة التي جرت منذ ثلاثينات القرن الماضي في الغرب أوّلا ثم في الوطن العربيّ ثانيا بين دعاة الالتزام وأنصار الفنّ للفنّ  حول ماهية الشّعر ووظيفته ظهر في  نهاية الثّمانينات جيل جديد من الشّعراء ضاق ذرعا بالمفاهيم التي حدّدها لهما ذانك الشقّان المتنازعان  على حدّ سواء .فلم يقنعه تصوّر الشقّ الأوّل القصيدة على أنّها وعاء تُصبّ فيه مادّة تحريضيّة بأسلوب مباشر ولا القواعد الجامدة التي ضبطها الشقّ الآخر للفنّ وهي  إمّا قواعد البيان التّقليديّة التي أرهقت الشّعر بالصّور المتداولة المُكَرْكَرَة  وإمّا البنود الصّارمة  التي تبلورت في إطار كلّ مدرسة على حدة طبقا لرؤية أحاديّة ثابتة   كالرّومنطيقيّة والرّمزيّة والسّرياليّة .  فثار على كلّ تلك المفاهيم جملة وتفصيلا . وهو ما أدّى إلى انهيار جميع المدارس وتحويل مكاسبها إلى إرث جماعيّ يحقّ للشاعر استثماره حتّى في القصيدة الواحدة والتّصرّف فيه وفق ما تمليه عليه حاجاته التّعبيريّة  ، كما تداعت الحواجز القائمة بين الأجناس بل بين الفنون وصار استخدام تقنياتها المختلفة مباحا في الشّعر والسّرد على حدّ سواء .

ويعدّ شمس الدّين العوني من أوّل الشّعراء التّونسيين الذين أخذوا بهذا التصوّر الجديد للكتابة الشّعريّة . وذلك منذ خطواته الأولى في نهاية الثّمانينات .وهو اليوم صاحب مدوّنة محترمة تتألّف من  خمس مجاميع آخرها مجموعته  الموسومة بتحت شمس وارفة الظّلال التي صدرت سنة 2009 والتي سنقصر عليها اهتمامنا في هذه القراءة  لضيق المجال كالعادة .

تشتمل هذه المجموعة على اثنتين وثلاثين قصيدة تنبع جميعها من شاغل رئيسٍ تولّدت عنه نواة دلاليّة تأسيسيّة مشتركة هي مفهوم الشّعر. وهو ما يجعلها تصنّف في خانة البيانات الشّعريّة الإجرائيّة لا التّنظيريّة . فما هو محتوى هذا البيان  ؟ وما هي قيمته الفكريّة والفنّيّة ؟ وما هي الإضافات التي يقدّمها إلى تصوّر الإبداع في الشّعر العربيّ المعاصر لاسيّما أنّ مفهوم صاحب المجموعة للشّعر مفهوم جماعيّ لا فرديّ أي كما قلنا مفهوم شقّ من جيل بأكمله هو الذي سمّينا شعراءه  ” شعراء التّسعينات” ؟

1- الشّروط الواجب توفّرها في الشّعر:

1-1: الشّعر  داخل اللّغة :

إنّ الشّعر عند الكلاسيكيّين والغنائيّين والإيديولوجيّين والتّقنيّين الصّناعيّين الجدد واضح  المعالم أسلوبا وأغراضا ومحتوى دلاليّا .

لكنّه من زاوية نظر  شعراء التّسعينات ليس كذلك البتّة .فهو على حدّ تعبير الشّاعر : ” متاهةٌ باذخةٌ  يتقصّدُها الشّاعرُ وفي رأسِه وداعاتٌ أخرى … يمضي قطارُ الحياةِ ، يتخيّرُ الشّاعرُ محطّاتِه … ليسافرَ نحوَ الأبديّةِ ” ( المصدر نفسه ص 10 ) .

طبعا ليس هذا التّعريف علميّا . لكن لنحاول ردّه إلى أصول معرفيّة محدّدة  تساعدنا على تعرّف شروط الشّعر عند  صاحب المجموعة . فما يفهم منه  هو أنّ الشّعر حالة من حالات التَّيْه الذّهنيّ يعيشها الشّاعر فتوفر له أجواء شبه  سحرية  ينغمس فيها . ومعنى التّيه هنا هو أن الشاعر حين يقبل على الكتابة لا ينطلق من تخطيط مسبّق وإنّما يستوحي من تلك اللحظة نفسها الاتّجاه الذي يسير فيه . ولكنّ القصيدة بعد اكتمالها لا تتحوّل إلى نصّ خاضع لبلاغة مُقنّنة بل تبقى نصّا مفتوحا بكلّ ما في هذه الصّفة من إطلاق . والمقصود من كلّ هذا أنّ الشّعر ينفلت من جميع القواعد والأسْيِجة التي ضبطها له شعراء  الأجيال السّابقة ونقّادها .

و إلى جانب هذا التّحرّر التّامّ للفعل الشّعريّ من كلّ القواعد  هناك صفة تواصليّة لازمة أيضا هي قدرته على تحقيق الإمتاع  . وفي هذا يقول  الشّاعر :

” القصائدُ كالأطفالِ ، كالأحلامِ ، هي عذوبةٌ فائقةٌ ، عذوبةُ الشّعرِ الخالصِ “  ( نفسه ص  10 ).

ويضيف الشّاعر شرطا ثالثا  هو أنّ الشّعر فعل وجوديّ ، الدافع على كتابته هو الحيرة التي تستبدّ بالذّات الشّاعرة حين  تؤرّقها الأسئلة الوجوديّة الحارقة و لا تجد لها جوابا .

يقول الشّاعر :

نجدُ في الكتابةِ ما يبدو حالمًا متوثّبًا مصدومًا  لا يطلبُ الاطمئنانَ . وبهذا الشّكلْ نهرٌ من الأسئلةِ على ضفافهِ أطفالٌ يستطيعونَ أن يفعلوا أيَّ شيءٍ ” ( نفسه ص 93 ).

نفهم من كلّ ما تقدّم أنّ الشّعر عند شمس الدّين العوني عبارة عن  وَقْدَة ذهنيّة متأتّية من حلم أو نابعة من  رؤية طفوليّة للكون . وهذا التصوّر مطابق لما  قرّره علماء تحليل النّفس من أن  الفنّ عامّة ينتمي إلى الجانب اللاّواعي  من شخصيّة الإنسان .  وهو المنطقة  نفسها التي ينتمي إليها الجنون والضّحك .

لكنّ صاحب المجموعة  لا يختزل الشّعر  في هذه الصّورة الذّهنيّة بل يقرنه بمتعة نفسيّة . وهذه المتعة كأنّها ملاذ يلجأ إليه الشّاعر للتّخفيف من وطأة أسئلة وجوديّة تستبدّ به ولا يجد لها جوابا . وهو ما نلمسه في التردّد العالي للفظ السّؤال ومشتقّاته في المجموعة برمّتها . من ذلك هذه الأقوال للشاعر :

هذه المرأةُ

ألقتْ بنا

في أتّوِن الأسئلةِ

( نفسه ص 50 )

الشّهقاتُ السّريّةُ

في الحركاتِ

إلى آخرِ ذلكَ من غابةِ الأسئلةِ

المبثوثةِ في القماشةِ

( المصدر نفسه ص 51 )

واذكري بعضَ حبِّنا لك

وللعلُوِّ

وللأرضِ التي خاتلتْنا وألقتْ بنا في جحيمِ الأسئلةِ

( المصدر نفسه ص 92 )

يجهشُ باللّغةِ

ببلاغةِ الأسئلةِ

( المصدر نفسه ص  100 )

1-2 :الشعر خارج اللّغة :

لقد  عدّ  العرب القدامى  الشّعر ظاهرة لغويّة  .ولعلّ من أوضح  أقوالهم في هذا الباب قول ابن رشيق (  ت451 ه ) :  “اللّفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الرّوح بالجسم: يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختلّ بعض اللّفظ كان نقصا للشّعر وهُجْنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشّلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الرّوح،  ” (2) .  لكنّ اليونانيين   –  وفي مقدّمتهم أرسطو  – عمّموا مفهوم الشعر فأطلقوا لفظ  poiêsis  على الإبداع مطلقا  سواء أكان فكريا أم يدويا  (3 ). لذلك ترجم الجامعيّون التّونسيّون في بداية السبعينات  المصطلح  La poétique  بالإنشائيّة ( أي الإبداعيّة  ) لا بالشّعريّة  . ومن ثمّة فإنّ الشّعر هو كلّ عنصر جماليّ يثير الإعجاب سواء أكان لغوياّ أم غير لغويّ . والعناصر المحمّلة شُحَنا جماليّة  توجد قبل كلّ شيء في الطّبيعة أي هي سابقة للوجود الإنسانيّ .  وهو ما جعل أرسطو يرجع جوهر الإبداع إلى  محاكاة الطّبيعة  (4 ). لكنّ الفنّ الذي يمارسه الكائن البشريّ ليس دائما منقولا عن الطّبيعة .ذلك أنّ ما هو قبيح في المحيط الخارجيّ يمكن أن يتحوّل في لوحة  أو منحوتة مثلا إلى عمل فنّي رائق . وهذا ما قصده الرسّام بول قوقان ( Paul Gauguin  ) ( ت 1903 م ) بقوله ” القبيح يمكن أن يكون جميلا . أمّا الجميل فمحال أن يكون كذلك  ” ( 5 ). ولعلّ هذه الفكرة هي التي أدّت في القرن العشرين إلى ظهور تياّر في الرّسم يدعو إلى التخلّي عن التّشخيص أي عن محاكاة الطّبيعة  على اعتبار أنّ هذه العمليّة لا تتيح للفنّان توظيف ملكاته الإبداعيّة  فظهر بذلك التيّار التّعبيريّ الذي يقوم على التصرّف في أشكال الكائنات والأشياء وصفاتها الحقيقيّة والتيّار  التّجريديّ الذي يكون العمل الفنّيّ بمقتضاه نابعا كلّياّ من ذات الفنّان ولا صلة له بالمحيط الموضوعيّ المنظور .

على أنّنا إذا عدنا إلى الجمال  كما هو متشكّل في الطّبيعة لمسنا منه ضربين مختلفين كلّ الاختلاف : الأوّل هو الجمال الصّريح المتاحة رؤيته لكلّ الناّس بلا استثناء مثلما هو الشّأن في مشاهد شّروق  الشّمس وغروبها والبحر تحت ضوء القمر في اللّيالي الصّيفية الهادئة  – وهو يقوم أساسا على التّناسق – والآخر هو جمال خفيّ لا تنتبه إليه إلاّ عين الفنّان . وهو عبارة عن مفارقات في الأشكال أو الألوان إمّا في صلب الشّيء الواحد أو بين الأشياء   توحي بدلالات لا علاقة لها بها في حدّ ذاتها وإنّما هي من فعل تخيّل النّاظر وربطه الصلة بينها وبين أشياء أخرى في مجالات غير مجالها  إن قليلا و إن كثيرا .

ولعلّ أوّل من تنبّه إلى هذا الضّرب الثّاني من الجمال هو الشّاعر الفرنسيّ فرانسيس بونج   (Francis  Ponge  ) واستثمره على نحو واسع في شعره ،  منشئا بذلك أسلوبا جديدا في الكتابة الشّعرية عرف ب ” شعريّة الأشياء ”  ( 6 ).

إنّ هذا المفهوم الواسع لكن الدّقيق  للشّعر دفع بشمس الدّين العوني في مجموعته تحت شمس وارفة الظّلال إلى  تخصيص عدد كثير من القصائد التي أودعها فيها لمحاورة  لوحات ومنحوتات وقطع موسيقيّة و تصوير تفاعله مع المكان  ،  ساعيا في أثناء كل ذلك إلى التقاط الموحي من العناصر المنظورة أو المسموعة .

1-2-1:الشّعر  في الأعمال الفنّيّة الأخرى :

إنّ تبنّي الشّاعر هذا المفهوم الواسع للشّعر جعله يتفاعل مع أعمال فنّية متنّوعة  ( لوحات ، قطع موسيقيّة ، منحوتات … ) باعتبارها تنطوي على هذا الشّعر الموجود خارج اللّغة . وهو مجموع العناصر المحقّقة للدّهشة والمتعة الفنّية  مطلقا .

وندرك من قائمة أسماء الفنّانين والفنّانات الذين أنشؤوا تلك الأعمال أنّهم   يشتركون معه في الأخذ بالمفهوم نفسه للشّعر . وهم  المطربة الزّنجيّة الأمريكيّة بربرا هندريكس (Barbara Hindrix  ) والرسّام الكاريكاتوريّ المصريّ جورج البهجوري والرسّامون  التّونسيّون  محمود التونسي و لمين ساسي ونجيب بلخوجة وحمّادي بن سعد والنحّات  التّونسيّ ماهر الطرابلسيّ وإحدى العازفات بفرقة أوبرا فيانا .

وحين نتأمّل معظم النّصوص التي أنشأها في محاورته لتلك الأعمال الفنّية  لا نجده يصفها وصفا شكليّا خارجيّا بل يرصد المفارقات التي تتأسّس عليها ثمّ يستثمرها في إعادة  إنشاء العمل كتابة . لذلك يمكن عدّها  إن شئنا قِطَعا موسيقيّة على قِطَع موسيقية و لوحات على لوحات و منحوتات على منحوتات وإن شئنا قصائد على قصائد .

وبالنّظر إلى كثرة  هذا الضّرب من القصائد في المجموعة نكتفي  هنا بالتّوقّف عند  أنموذجين منها .

  • 1- الأنموذج الأوّل : قصيدة ” خزفُ الحالِ …أناملُ الحلمِ ” :

ممّا جاء فيها قول الشّاعر :

هي أناملُ الحلمِ

تتلمّسُ

لحظاتِها البعيدةَ

كان لا بدَّ من العلوِّ…

‘ المصدر نفسه ص 24 )

في هذه المقطوعة يلتقط ذهن  الشّاعر في  منحوتة  بعنوان ” صراع ” لماهر الطرابلسي عنصرين  غير مرئيّين يتعدّيان  المادّة الخزفيّة التي صُنعت منها  . وهما حلم  النّحّات الذي نبعت منه   وانطلاق صورتها على جناح خيال الناظر  في اتجاه الأعالي مكانا و  إلى حدّ بعيد زمانا  ( لحظاتها البعيدة ). فهي في نهاية الأمر إذن  وإن كانت من خزف قصيدة تستجيب للشّرطين  اللّذين  حدّدهما الشّاعر للشّعر .

2- الأنموذج الثّاني : قصيدة “ رائحة البنّ ” :

يقول الشّاعر :

 في المقهى العتيقِ

تنهضُ الحكاياتُ من سباتِها

برائحةِ البُنِّ

تتغمّدُ المكانَ

وأهلَهُ بحنانٍ هائلٍ

طفلُ الحكايةِ

يُسيّجُ طفولَتهُ

بالغناءِ

وبالكلماتِ …

أمّا النّادلُ فقد أمعنَ في السّؤالِ …

هل يمحو الموتَ

والألوانَ والكلماتِ ؟

( المصدر نفسه ص  23 )

يحاور الشّاعر في هذه القصيدة لوحة عنوانها ” رائحة البنّ ” لمحمود التونسي تصوّر مقهى عربيّا عتيقا  متجاوزا العناصر البصريّة فيها إلى عناصر غير مرئيّة منها ما هو شمّيّ ومنها ما هو سمعيّ ، راجعا إلى الأصل الذي صدرت عنه –  وهو الجانب الطّفوليّ في الرسّام  – ومختتما بسؤال وجوديّ عن مدى ثبات الألوان والكلمات أمام سيل الموت الجارف . وهو ما  يجعلها تطابق  أيضا مطابقة تامّة الشّرطين اللّذين حدّدهما للشّعر .

يقول الشّاعر :

 في المقهى العتيقِ

تنهضُ الحكاياتُ من سباتِها

برائحةِ البُنِّ

تتغمّدُ المكانَ

وأهلَهُ بحنانٍ هائلٍ

طفلُ الحكايةِ

يُسيّجُ طفولَتهُ

بالغناءِ

وبالكلماتِ …

أمّا النّادلُ فقد أمعنَ في السّؤالِ …

هل يمحو الموتَ

والألوانَ والكلماتِ ؟

( المصدر نفسه ص  23 )

يحاور الشّاعر في هذه القصيدة لوحة عنوانها ” رائحة البنّ ” لمحمود التونسي تصوّر مقهى عربيّا عتيقا  متجاوزا العناصر البصريّة فيها إلى عناصر غير مرئيّة منها ما هو شمّيّ ومنها ما هو سمعيّ ، راجعا إلى الأصل الذي صدرت عنه –  وهو الجانب الطّفوليّ في الرسّام  – ومختتما بسؤال وجوديّ عن مدى ثبات الألوان والكلمات أمام سيل الموت الجارف . وهو ما  يجعلها تطابق  أيضا مطابقة تامّة الشّرطين اللّذين حدّدهما للشّعر .

1 -2-2 : الشّعر في المكان :

للذّات الشّاعرة في هذه المجموعة حنين قويّ معلن إلى أمكنة معيّنة  قد انطبعت صورها في ذاكرتها على نحو عميق  . ومردّ هذا الحنين ،  فيما يبدو  ، إلى ما يحفّ بها من أجواء شاعريّة  كثيفة تجاوب معها حسّ الشّاعر الفنّي . وهذه الأجواء قد لا ينتبه إليها الإنسان العاديّ  . لكنّ الشّاعر بل الفنّان عامّة  يرى  فيها ما لا يراه  الآخرون  بفضل قدرته على تفجير الدّلالات الموحية الكامنة في التّفاصيل الصّغيرة ثمّ التوسّع فيها وتضخيمها بفعل  كفايته التخيّليّة العالية .  فإذا المكان الذي يزوره آلاف الأشخاص في  اليوم  دون أن يحرّك فيهم ساكنا  يتحوّل عند الشّاعر و الفنّان مطلقا إلى عالم سحريّ يأخذ بالألباب ويأسر الأفئدة .

يقول الشّاعر في هذا المعنى : ” لم تكن الأمكنة مجرّد تِعِلاّت لاكتمال المعنى بل أضفت على الكائنات ضربا من أَسْطَرَة الأحوال ” ( ص 71 ) .  وهذا ما توحي به إليه دمشق إذ لاحت له ” مفتوحة على الأبجديّة بكثير من الدّهشة … متعة الصمت أمام ذهول الحالات ” . وأمّا بيروت  فيلفته فيها ” بهاء الرّوشة وهي ترقص في مياه الزّينة وجمال زهرة الكريسمس المتوحّش أكثر من حرب أهليّة ” ويتراءى له ” دم قصائد   يحي جابر وبول شاؤول وشوقي بازيغ ” وعطور الماغوط الذي مرّ بها ” ( ص ص 36-37 ). وأمّا إسطنبول فلم يستوقفه في إحدى ساحاتها  الكبرى إلاّ عازف حوله أسرابٌ من الحمام  فيتحوّل النغم الذي يصدره  من مادّة سمعيّة إلى مادّة بصريّة ويكتسب بحكم الجوار القدرة على التّحليق :

يقول :

اشتدَّ العزفُ

فرأيتُهُ يحلّقُ

مع شعبٍ من الحمامِ …

وتلك حكمةُ العزفِ التي

لمستُها

ذاتَ صباحٍ في ساحةِ كبرى بإسطنبولَ

( المصدر نفسه ص 38 )

2- الواجب توفّرها في الشاعر :

2 -1: الشّاعر في تصوّر الأجيال السّابقة لجيل التّسعينات  :

على عكس الشّعراء المحلّيين السّابقين لجيل الشّاعر الذين وجدوا أمامهم طرقا معبّدة ساروا فيها واثقي الخطى مطمئنّين –  ولهذا السبب لم يضيفوا الكثير إلى ما قدّمه  أولئك  (أبو القاسم الشّابّي ،  بدر شاكر السيّاب ، عبد الوهّاب البيّاتي ، محمود درويش ، أدونيس ، سعدي يوسف وغيرهم )  ما عدا  قلّة قليلة منهم  وهو ما أصاب القصيدة بالجمود والتكلّس  – فإنّه وأبناء جيله وبناته قد اضطرّهم الوضع الذي وجدوا فيه على الاضطلاع بمهمّتين عسيرتين : الأولى هي التخلّص من  ذلك الإرث الثّقيل والأخرى هي إحلال بديل جديد محلّه يكون مستجيبا لحساسيّتهم الجماليّة وخصوصيّات المرحلة التي ظهروا فيها .

ففي ما يخصّ المهمّة الأولى يتجسّد الشّعر السّائد في ما يكتبه ثلاثة أصناف من الشّعراء أو على الأصحّ ، على حد تعبير الشاّعر ، من  ” كتبة “الشعر  ( ص 60 ). وهو يقصد بهم أوّلا  :  “الشاعر” الخطيب  الدّاعية الذي يتّخذ من القصيدة وعاء ينقل فيه مقولات جافّة إلى متلقّين فقدت مصداقيتها لديهم لتضاربها مع الواقع  ويمنح الأولويّة  فيها لما يرتبط بتلك المقولات من أفكار متداولة  على حساب الجودة الفنّية فيقع في الخطاب المباشر الفجّ ،  ثانيا :  “الشّاعر” المتعالم الفاقد للموهبة  ، القاصر  عن الإبداع  الذي يصدر عن قراءاته  الشّعرية وأحيانا النّقديّة  و البحثيّة  وحدها  فيصطنع نصوصا خالية من أدنى ألق جمالي  ، ثالثا :  “الشّاعر ” الذي يفهم الشّعر على أنّه مجرّد تعبير عن الشّعور فينساق إلى بثّ لواعج نفسه  في لغة خالية أو تكاد من العدول الحيّ  الذي يتجسّد ضرورة في  الصّور المبتكرة والإيقاع الداّخليّ والإيحاء المكثّف  . ألم يفرّق أرسطو بين الشّاعر والعالم الذي ينظم الشّعر مقصيا إيّاه عن مملكة هذا الفنّ قائلا : ”  صحيح أنّ المؤلّفين الذين يصوغون بعض المعلومات  في الطبّ أو في الفيزياء نظما  تسند إليهم عادة صفة الشّاعر .ولكن  ليس ثمّة ما يجمع بين هوميروس وأمبيدوكل  سوى استعمال الأوزان . لذلك فالأصحّ هو تسمية الأوّل شاعرا والآخر طبيبا أو  فيزيائيّا  لا شاعرا ” ؟ ( 7 ) و ألم يصف ابن الأثير شعر ابن جنّي العالم النّحويّ القدير  والناّقد البارع بأنّه شعر ” بارد ” ( 8 ) والحال أن المتنبّي كان يقول فيه ” ابن جني أعلم بشعري منيّ وكان إذا سئل عن معنى قاله، أو توجيه إعراب، حصل فيه إغراب، دلّ عليه، وقال: عليكم بالشّيخ الأعور ابن جني فسلوه فإنّه يقول ما أردت وما لم أرد. (9)

هذا الثالوث  و إن كان منسجما مع أسئلة الكتابة الشّعريّة  في الفترات التي ظهر فيها فقد أضحت خطاباته بعد الثّمانينات لا تجد صدى إيجابيّا  لدى جيل  جديد من المتلقّين يمتاز بحسّ نقديّ مرهف  وثقافة  ثريّة معمّقة  وآفاق ذهنيّة واسعة  تجعله متعطشا للعبارة الشّعريّة الشّفّافة المثيرة للدّهشة والارتباك . وما هذا بمتيسّر في غياب  الموهبة والتجربة العميقة المتفرّدة .

لذلك يوجّه الشّاعر  ، على نحو مكثّف تصريحا أحيانا  إيحاءّ  أحيانا أخرى في ضوء   مفهوم الشّعر الذي يأخذ به ،    سهامَ انتقاده اللاّذع إلى  هذا الإنتاج الشّعريّ المتخلّف عن زمانه ،  سائقا  لهذا الغرض  سيلا من العبارات الاستهجانيّة  كما في أقواله :

كان لا بدَّ من صمتِكَ

حيثُ يعلو الضّجيجُ

وتزدهرُ الخديعةُ

(المصدر نفسه ص 66 )

إذ لا أحدَ يمدحُ صمتَكَ

في هذا اليبابِ

( المصدر نفسه ص 61 )

الآن تترجّلُ اللّغةُ

فالمشهدُ بلا رائحةٍ

وأرى العناصرَ تهوي

تتكسّرُ كالزّجاجِ

في آنيةِ الزّمنِ الموجوعِ

( تحت شمس وارفة الظّلال  ص  ص 68 – 69 )

القطيعُ اللّغويُّ في تفاعلاتِهِ البائسةِ واليائسةْ

( المصدر نفسه ص 93 )

2-2 :الشّاعر كما ينبغي أن يكون  :

على الرّغم من أنّ الشّعراء العرب الكبار الذين ذاع صيتهم عربيّا وحقّق  بعضهم  انتشارا عالميّا قبل التّسعينات كانوا قلّة قليلة – وهذا  هو المنطق  العامّ الذي يحكم  الفنّ الرّاقي  المتميّز في كل عصر ومصر لأنّ  الدّهر  على الدوام ضنين بالعباقرة وعمالقة الإبداع  الذين  لا يتجاوزن في تقدير العرفانييّن النفسيّين  أكثر من واحد في المليون من أهل كلّ  زمان ولدى كلّ الأمم –  ومن أنّ  بروز أولئك الشّعراء  متأتّ من انفراد  كلّ منهم بلون من الكتابة لا يجاريه فيه أحد ويعرف به حتّى إن نشر قصائده دون توقيع  فإنّ مفهوم الشّاعر في الوسط الأدبيّ التّونسيّ ظل ولا يزال ضبابيّا . وهو ما أدّى إلى تناسل كتبة الشعر واختلاط الحابل بالنابل وطعنهم في مقاييس النقّاد غير المجاملين . ففي سنة 2002 على سبيل المثال  أعددت مختارات من الشّعر التّونسيّ المعاصر بطلب من المجمع التّونسيّ للعلوم والآداب والفنون ضمّنتها سبعين شاعرا وشاعرة  من كل الأعمار والاتّجاهات .لكن ما إن  أُعلِن عن قائمة الشّعراء المختارين حتّى قامت ضجّة لا مثيل لها ووصل إلى المجمع ما يزيد على خمسمائة احتجاج وهدّدت مجموعة بالاعتصام داخل المجمع لإجباره على إضافتهم . وكانت النتيجة  أن بقيت المختارات  مخطوطة إلى اليوم .

ولذلك كان لزاما على شعراء التّسعينات أن يصحّحوا المفهوم  السائد للشّاعر بعد أن دقّقوا مفهوم الشعر . فليكون المرء شّاعرا لا يكفي أن يكون  باحثا في الشّعر أو  مُدرِّسا له  أو سّياسيا حريصا على نشر مبادئ حزبه   أو إنسانا له هموم نفسيّة   يبحث عن قنوات للتفريج عنها وإنما هو  قبل كلّ شيء فنّان . وما كلّ إنسان بفنّان .والفنّ موهبة ولاديّة تُصقل لا تقنية تُكتسب بالتعلّم والتدرّب والمحاكاة .

فلكي يكون الشّاعر فناّنا  – وهو لا يكون إلا كذلك . وإلا فهو كاتب شعر – ينبغي أن تتوفّر فيه حسب صاحب المجموعة شرطان ضرورياّن هما  :

2 -2 – 1 :  أن يظلّ طفلا في كهولته أو شيخوخته  . وذلك لأنّ رؤية الطّفل للذّات والآخر والكون رؤية أسطوريّة حالمة  تخرق الأسيجة المنطقيّة التي تطوّق بها المفكّرة  الواقع وتضفي على هذا الواقع مسحة  سحريّة أخّاذة . وموقع المفكّرة مثلما قرّره علماء العصبيّات هو الشطر الأيسر من الدّماغ . فلا ينضبط  للتّعليمات الصّادرة عن هذه الملكة إلا الإنسان العاديّ والمشتغلون بالعقل  كالعالم  والباحث والسياسيّ و الإداري  .

وممّا قاله الشّاعر في هذا المعنى  :

الأطفالُ يرسمون حياةً أخرى

بباستالِ الأملِ

( المصدر نفسه ص 12 )

وللأطفالِ هناكَ أجنحةٌ

نعمْ …

أغصانٌ أيضًا

وجذورٌ

وقصائدُ نثرٍ عاليةٌ …

( المصدر نفسه ص 13 )

أقتفي أثرَكَ في هذا الغناءِ

أيّها الطّفلُ الذي تسقطُ

من يديه الحكمةُ المبلّلةُ بالتّواريخِ

( المصدر نفسه ص 56 )

بوِقفةِ راهبٍ

ونِظرةِ طفلٍ

يقتفي جوديسُ أثرَ الكلماتِ

السخيّةِ

وهي تفصحُ له عن الألوانِ والأملِ

( المصدر نفسه ص 29 )

  الشّاعر هو الطفل وقد أرهقته المسافات وغربة الأحوال .  من أرضه لمعت نجمتان واحدة هي العناق باسم الذين رحلوا في الأماني وواحدة وهبت ضوءها للكلمات .  لذلك لا بد للكلمات لتقوى رحلة الوجود .

( المصدر نفسه ص 83 )

2-2-2: يعاني درجة  خفيفة من الاختلال العاطفيّ أو الذّهنيّ . وهو ما يعرف بالجنون الفنّي . فيكون  إلى حدّ ما عُصابياّ أو ذُهانيّا أو كليهما معا .

فعلى عكس الشّاعر الملتزم سياسيّا  الذي يحرص كلّ الحرص على قتل نوازعه الذّاتيّة والشّاعر الغنائي التّقليديّ الذي يقصر همّه على البوح بمشاعره  الظّاهرة وخواطره العابرة  يغوص الشّاعر التّسعيني في الجانب اللاّواعي من ذاته   كاشفا عمّا ينخر كيانها من أدواء مستحكمة  لعل أبرزها الشّعور بالإحباط .

يقول الشّاعر :

تلكَ خلاصةُ النجمِ وهو يهوي

محمومًا

يبحثُ عن المرآةِ

التي قطعتْ أناملَ الزّهرِ

ولم تنعمْ بالعطرِ

والإحساسِ بالانكسارِ .

( تحت شمس وارفة الظلال ص 58 )

 

يقول :

أتقدّمُ وأسألُ

وأنتَ الآنَ

تحملُ خدوشَ جسدِكَ

وجراحَ قلبِكَ القديمةَ

( نفسه  ص 58  )

والحيرة  المترسّخة المتولّدة عن استحالة الاتّجاه في غياب النّور :

هو وجهكُ الآخرُ

يأخذُكَ إلى زجاجِ الحيرةِ

حيثُ الضّوءُ المفقودُ

( نفسه ص 57 )

خاتمة

هذه المجموعة تحت ظلال شمس وارفة و إن كانت الخامسة في رصيد صاحبها  الشّاعر شمس الدّين العوني فهي بيان شعريّ تامّ الشّروط . ولهذا البيان أهمّية تاريخيّة لأنّ صاحبه من مؤسّسي الموجة التي عُرفت في تونس بشعر التّسعينات. لذلك فإنّ الوقوف فيه على مفهومي الشّعر والشّاعر يعيننا على فهم أسئلة الكتابة الجوهريّة لدى جيل كامل من الشّعراء ظهر بعد انهيار الإيديولوجيات .فقد اختار هذا الجيل العودة بالشّعر إلى ينابيعه الأولى وهي الخيال والحلم واللاّوعي  فقطع صلته بالخطاب المباشر والخطاب البيانيّ  التّقليديّ والخطاب العاطفيّ السّاذج  ، عادّا  الغوص في أعماق الذّات مع ابتكار الصّورة وتكثيف الإيحاء عماد فنّ الشّعر ومقرّرا أنّ الشّاعر فنّان موهوب في المقام الأوّل  لا باحث في الشّعر ولا مدرّس له ولا ممتهن لحرفة السّياسة من أولئك الذين  يمارسون هذا الفنّ بعقليّة صناعيّة بحتة  فيفقدونه  ألقه الجماليّ الأخّاذ .  وهكذا ولد مع هذا الجيل مفهوم جديد للكتابة الشّعريّة حُدِّدَ  بمقتضاه هدفُها في تفجير ينابيع الدّهشة .وإلاّ كان الكلام  نظما أو نثرا .

 

الهوامش :

1- شمس الدين العوني ، تحت شمس وارفة الظّلال ، على النّفقة الخاصّة ، تونس2009

2- ابن رشيق ، العمدة ، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد ، دار الجيل ، ط5 ،  جـ1 ،  بيروت 1981  ص124

  3-                                                 Voir : Poésie  (latin poesis, du grec poiêsis, création)  , La Grande -3   Encyclopédie de Larousse  , Paris  1971  -1978

 4 –  أرسطو ، الإنشائيّة ، ترجمة من اليونانيّة إلى الفرنسيّة  ، الباب الأوّل عنوانه “قوام الشّعر المحاكاة ”

، انظر :  الموقع على الأنترانت :

remacle.org/bloodwolf/philosophes/Aristote/poetique.htme

5-                                                                                                 La peinture ( Collectif ) , Hachette ,  coll. Notes et maximes, Paris  1965, p.89

 6-                                                                                                                           Ponge(Francis) , Le parti pris des choses , Gallimard , Paris  1942

7- أرسطو ، الباب الأوّل  من كتاب الإنشائية .

8- ابن الأثير ، الكامل في التاّريخ  ص393

9- ابن جني ، مقدّمة الخصائص ،  دار الكتب المصريّة  ، تحقيق محمّد علي النجّار ،  القاهرة 1952 ص21

شمس الدين العوني:

ولد بتونس في 5 أفريل 1963 . وبها زاول دراسته  الثّانويّة . يشتغل في قطاع الوظيفة العموميّة . انطلقت تجربته الشّعريّة في أواسط الثّمانينات . أسهم في تنشيط عدّة نواد ومهرجانات أدبيّة. قوي الحضور في الصحافة الثّقافيّة التّونسيّة والعربيّة . متخصّص في كتابة قصيدة النّثر.

مجاميعه الشّعريّة :

– ورد الرّماد تونس الدار العربيّة للكتاب 1994، تونس

– أمجّد هذا الهذيان،  تونس ، على النّفقة الخاصّة ، تونس  2001

– التّراب الذي فوقه سماء، على النّفقة الخّاصة، تونس 2002

– سيكون هناك سبب، على النّفقة الخاصّة، تونس 2005

– تحت شمس وارفة الظّلال، على النّفقة الخاصّة، تونس 2009

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*