اللّقاطة* الوجوديّة في مجموعة أحنّط ظلّي بطين الكلام ( 1 ) لسلوى الرّابحيّ: محمّد صالح بن عمر

saloua_17

الشّاعرة التّونسيّة سلوى الرّابحيّ:

p1

 


سلوى الرّابحي صوت شعريّ تونسيّ جديد ظهر في أواسط العشريّة الأولى من هذا القرن  ، عرفتها سنة 2004  بمناسبة تسجيل حصّة من برنامج تلفزيّ خُصّص لأبناء جيلها من الشّعراء ودُعيت إلى المشاركة فيها لإبداء الرأي وتنزيل محاولات هؤلاء في منزلتها من اتجاهات الشّعر التّونسيّ المعاصر  وتقويمها .  و قد حضر ذلك اللّقاء  رفقتها عدد  مهمّ منهم .

و حين جاء دورها لقراءة  أنموذج من شعرها لفتت انتباهي قدرتُها على تجريد الصّورة وتنقية  العبارة من الدّلالات المرجعيّة المبتذلة والمكوث  في كلّ ردهات النصّ  داخل مُناخ واحد . وهي من الشّروط  الدّنيا الضّروريّة لما يسمّى إبداعا شعريّا .ثمّ لم يلبث  ، بعد ذلك ،  الوسط الشّعريّ في البلاد أن اكتشف موهبتها . فنالت اعتراف جلّ من سمع قصائدها  من شعراء الأجيال السّابقة  وأضحى لها عندهم ، فضلا عن أبناء جيلها ، صيت شعريّ .

ولقد أتيحت لي في السّنوات الموالية فرصة الالتقاء بها مرّات أخرى وسماع بيانات منها عن  مفهومها للشّعر و مطالعاتها  ومصادر تأثّرها  ورأيها فيما تكتب . ولكنّي  حين عدت إلى قصائدها لم أجد أكثر ما سمعته منها في نصوصها . وإنّ هذا لطبيعيّ .  فشتّان بين المقول والمرادِ قولُه . ومن ثمة سيكون تعويلنا  في هذه القراءة على المقول من شعرها وحده . وقد اخترنا أن نُعمل أدواتنا في مجموعتها الأولى التي وسمتها بأحنّط ظلّي بطين الكلام ، لكونها  تتنزّل في مرحلة انطلاق تجربتها  حتّى إذا تناولنا في مناسبة قادمة عملا شعريّا آخر لها  بان لنا  ما قد يطرأ عليها من تطوّر.

تنبع قصائد المجموعة من خلفيّة  فكرة قديمة  متداولة هي  قصور حواسّ الكائن البشريّ عن إدراك حقائق الأشياء ووقوفها عند ظلالها أي ما يظهر منها . وهي الفكرة  التي نظّر لها أفلاطون ( 427 ق .م  – 347 ق.م  ) في مؤلّفه الجمهوريّة  .لكنّها لم  تستثمرها من الناحية الفكريّة  إلاّ عند هذا الحدّ  ،  منصرفة ، مقابل ذلك ، إلى تصوير انعكاسها في نفسها واستغلالها فنّيّا .  ومن ثمّة فإنّ الخلفيّة الأقوى والأشدّ صلابة  ، الكامنة وراء هذه المجموعة  نفسيّة . وهي  تتألّف من قطبن متباينين لكنْ متكاملين تربط بينهما علاقة سبب بنتيجة  : الأوّل أزمة نفسيّة تدلّ بعض العَلاَمِ المبثوثة في خطاب الذّات الشّاعرة على أنّها ولاديّة متأصّلة والآخر تمشٍ تعويضيّ ملحّ ، ثابت  إمّا لنسيانها  وإمّا للتّخفيف من حدّتها . وهذا التّعويض  يتحقّق بطريقة واحدة هي الانتشاء لكن  بضربين  مختلفين من المُتَع : الأوّل  إنشاء الشّعر والآخر الحلم  بمراس الحبّ  مع معشوق افتراضيّ مأمول .

فلنتوقّف أوّلا  عند هاتين الخلفيّتين  قبل أن ننظر في انعكاسهما على المستوى الإنشائيّ  :

 

  • I – الخلفيّات الكامنة وراء خطاب الذّات الشّاعرة  :

 

  • 1- الخلفية الفكريّة : كهف أفلاطون وظلاله :

لقد ذهب أفلاطون في الباب الخامس من كتابه الجمهوريّة إلى أنّ الإنسان لا يدرك من الأشياء إلاّ مظاهرها الخارجيّة  ، لأنّ الحواسّ التي جهّزته بها الطّبيعة  قاصرة عن  تمكينه من النّفاذ إلى جواهرها . وقد مثّل لذلك بصورة مجازيّة شهيرة  مُحَصّلُها أنّ البشر في هذا العالم أشبه ما يكون بسجناء  قُيِّدوا في الأصفاد وشُلّتْ حركتُهم داخل  مغارة تحت الأرض وقد أداروا ظهورهم إلى مدخلها الذي يلج منه الضّوء فلا يرون أمامهم إلاّ ظلال الأشياء الموجودة خلفهم ومنها هم أنفسهم لأنّ الضّوء ينعكس على ظهورهم . ( 2 )

وإنّ هذا الوضع لينطبق على الذّات الشّاعرة في مجموعة سلوى الرّابحي  أحنّط ظلّي بطين الكلام حيث تلوح في جميع القصائد  الواردة فيها جاهلة لحقيقة ذاتها و معاملة إيّاها  على أنّها ظلّ . وهو ما حرصت على إثباته في العنوان ” أحنّط ظلّي بطين الكلام  ”  ، كما كرّرت هذا اللّفظ أكثر من مرّة في كلّ قصيدة تقريبا . والظلّ و إن كان انعكاسا بصريّا للشّيء الذي هو ظلٌّ له فلا دليل فيه على كُنهه وجوهره ولا صلة له بماهيته .وإنمّا هو علامة على وجوده  ليس غير .

ومن أقوال الشّاعرة في هذا المعنى :

كيفَ يحتوي ظلّي شكلَ امرأةٍ لا أعرفُها

( نفسه ص 31 )

تكلّمْ بطينِك إنّي … ظلالٌ بهذا السّفرِ

( نفسه ص 49 )

ظلّي يحنّ إلى روحي

فعودي يا روحي إليَّ …عودي

قبلَ امتصاصِ الحياةِ

( نفسه ص 72 )

ويظهر جليّا من هذا المقطع الأخير أنّها لا تشكّ في وجود ذاتها لكنّها تجهلها جهلا تامّا  إمّا لكونها  اختفت منذ لحظة خلقها  وإمّا لأنها لا تقدر على رؤيتها .

تقول في ذلك :

أرى سُفُنَ الزّمنِ تدورُ حول ظلّي

ولكنّني في هذه الرّؤى …

لا أراني

( نفسه ص 24 )

وهذا الانطباع بأنّ ما تراه من ذاتها ليس سوى ظلّ  لها ينطوي على تسليم من قِبَلها  بسطحيّة ما يبدو لها منها و بطبيعته القابلة للانقشاع السّريع لارتباط وجوده على نحو وثيق  بنقيضه الضّوء . لكنّ هذه الظّاهرة لا تختص بها الذّات بل تشمل كلّ الموجودات التي هي أيضا ظلال لجواهر خفيّة عن الأبصار ، كامنة في طيّ المجهول . ولذلك ما هي إلا ظلّ سابح في زحمة من الظّلال .

وليس ثمّة شكّ في أنّ رؤية كهذه للأنا والكون من شأنها أن تعطّل نشاط المفكّرة لأنّ  الشّاعرة من ناحية على قناعة تامّة  بأنّ كلّ ما تدركه الحواسّ سطحيّ لا عمق فيه ومن ناحية أخرى لا ترى أيّ داع إلى البحث عمّا يتخفّى تحت السّطح . وبتعطّل وظيفة المفكّرة وسيادة الانطباع  يخلو  المجال تماما لملكات الشّطر الأيمن من الدّماغ  . وهي خاصّة المخيّلة والعاطفة والحساسيّة والحدس ،  الأدوات التي بها شادت الذّات الشّاعرة كونها  الخاصّ في المجموعة .

  • 2- الخلقيّة النّفسيّة :

 

  •  2 -1 : القطب الأوّل : اللّقاطة الوجوديّة والأزمة النفسيّة  المتولّدة عنها :

ترجع  جميع قصائد المجموعة إلى نواة دلاليّة تأسيسيّة واحدة هي جهل الذّات المنشئة للخطاب حقيقةَ ذاتها . وهي إن شئنا  على حدّ  رأي جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre  1905 – 1980 ) لقاطّة وجوديّة  . وذلك في قوله : ” كنت أحسّ نفسي زائدا ”  (3)   وقوله ”  حين كنت في الثّلاثين من عمري كان بعض الأصدقاء يقولون لي مستغربين : تظهر كما لو أنّك لم يكن لك أبوان ولا طفولة ” (4) . وقد سمّاها سيقمون فرويد (  Sigmund Freud    1856 – 1939 ) بمركّب اللقيط*  (5) ،  غير أنّ  هذه الحالة و إن لم تكن جديدة  فهي تتميّز عند الذّات الشّاعرة هنا  بسِمة فريدة هي قبولها لها دون محاولة من لَدُنِها في البحث عن أسبابها  ، مخالفة بذلك روني ديكارت ( René Descartes   1596 – 1650) حين قال :” أنا أفكّر  إذن أنا موجود ” (6) للبرهنة على أنّ ذاته موجودة وليست كيانا وهميّا  وإيليا أبا ماضي عندما تساءل عن أصل ذاته والغرض من وجوده في قوله الشّهير  :

جئتُ، لا أعلمُ من أينَ، ولكنّي أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدّامي طريقًا فمشيتُ
وسأبقى ماشيًا إن شئتُ هذا أم أبيتُ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟

لستُ أدري!

إنها  تجهل هويّة ذاتها وكفى . وليست معنيّة بأسباب اختفائها  . ويظهر ذلك في سكوتها عن هذا الإشكال تماما واكتفائها بالإشارة إلى  عدم معرفتها لذاتها وتصوير حالتها في زمن التلفّظ . وهو ما جعلنا نذهب إلى أنّ البعد الأكبر في هذه المجموعة بعد نفسيّ لا فكريّ .

إن إحساس الذّات الشّاعرة بانحطاط منزلتها في الكون لكونها  ظلاّ أي أقلّ حتّى من شيء جامد ولأنّ وجودها زائد وعبث في عبث هو  ، دون أدنى شكّ ، شعور مَرَضيّ.   فما هي الصّورة التي رسمتها لوضع اللّقاطة  الوجوديّة  التي ألفَتْ نفسها  فيه ؟ وما هي انعكاسات هذا الإحساس في نفسها وسلوكها ؟

2 -1 -1  : حُلوكة حقل الرّؤية ومجال التحرّك :

إنّ رؤية الذّات الشّاعرة  ، بحكم  وجود ستار مسدل على ماضيها  ، أماميّة  وجوبا ،  منصبّة على الحاضر والآتي وعلى الواقع  الذي تعايشه والتغيّرات التي يمكن أن تطرأ عليه . وأبرز صفة يتّصف بها هذا الإطار الزّمانيّ والمكانيّ  الذي  منه يتألّف حقل بصرها ومجال تحرّكها هي الحُلوكة .

وممّا قالته في هذا المعنى :

وحيدةً أركضُ خلفَ ظلّي / لأرى كيفَ يسكُبُني اللّيلُ ( ص 18 ) يُطلّ على ليلي الغريب فاكهة عطشى (ص 32 )  للّيلِ السّابحِ في عَتَماتِ الرّوحِ  (ص 32 ) الليلُ الأسمرُ الصّاعدُ لسماءِ أحزاني ( ص 33 )

2-1-2 : الغربة الروحيّة  و الحيرة  الوجوديّة :

 

إنّ الإحساس بالغربة  هو من أشدّ المشاعر استبدادا  بنفس الكائن البشريّ حين يعاين ضآلتَه في هذا الكون المترامي الأطراف ،اللاّمتناهي الأبعاد  وعزلتَه التي حُكم بها عليه  فيه  عن الآخر . وهو ما جعل ألبار كامو (Albert Camus  1913 _ 1960 ) يتّخذه محورا  لروايته الموسومة ب الغريب (7 )  . وقد تواترت   في هذه المجموعة الإشارات  إليه على نحو  لافت ، كما  في هذه الأمثلة :

وجهي الغريبُ ( ص 29 )  ما هذا الجسدُ ؟ … يسقطُ ظلاّ قديمًا ويشتهي أن يلملمَ الألوانَ ليرى لونَ غربتِهِ ( ص 30 ) ليلي الغريبُ ( ص 32 ) صواري غربتي ( ص 61 )

وأمّا  الحيرة الوجوديّة  فمردّها إلى غياب الأجوبة الشّافية عن الأسئلة الحارقة المتناسلة  التي يثيرها ذلك الإحساس .وممّا قالته الشّاعرة في هذا المعنى :

من يلوّنُ الغيومَ الآنَ ؟

من يسكُبُ على الشّوكِ وحشتَهُ ؟

( نفسه ص 34 )

 

2 -1 -3 : الألم النّفسيّ أو الوَجْس  والمشاعر المتّصلة  به :

إنّ الألم النّفسيّ أو الوَجْس* هو  مثل الإحساس بالغربة الرّوحيّة من المشاعر الأشدّ إلحاحا  على ذات الفرد المسكون بالحيرة الوجوديّة . وله حضورٌ شديد الكثافة أيضا في قصائد المجموعة حيث يقترن بحزمة من المشاعر السّلبيّة ، أبرزها الحزن المتأصّل والضّجر من الفراغ والجفاف والشّعور بالفشل والإحباطِ والحصارِ  ، كما  تُبِينُ عنه هذه الأبيات:

 قالوا : ” ما نبوءتُكَ ؟ ”

قلتُ : صمتٌ تنزفُ من عينيه إبرُ الدّمعِ

أخيطُ به أخاديدَ الكلماتِ

وأشطبُ صُوَرا ليست تضمُّ ألوانَ الظلالِ ”

( نفسه ص 34 )

سأحضرُ  ، إذنْ ، تفاصيلَ  الموتِ

وأُسْرِجُ فيّ وردًا رائحةَ الرّملِ

ها السّماءُ تحضنُني غيومًا بلا أحزانٍ

( نفسه ص 34 )

لكمْ في الزّوايا خيوطُ العناكبِ ترمي شِبَاكًا

لتصطادَ ظِل”ي

( نفسه ص 25 )

يا دمعَ الغيماتِ الصّاعدَ آلهةَ الأحزانِ

يا خمرَ الأتعابِ المسكوبَ في أقداحِ الشّعر

لا عنبَ بالأرضِ يُسْكِر أشعاري

( نفسه ص 35 )

تكلّمْ بطوقِ السّماءِ يطوّقُ جرحي

( نفسه ص 53 )

وأعلو بخوفي إلى شهوةٍ في القمرِ

أحلّقُ فوقَ الطّيورِ

لأُبْصِرَ ظهرَ النّوارسِ يكسوه ريشُ النّعامِ

و…أهوي

بخوفي

بعيدًا إلى فجوةٍ في الرّمالِ

( نفسه ص 51 )

لا نافذةَ في الحلقِ المبحوحِ

لا أفقَ في الصّمتِ الشّجيِّ

( نفسه ص 38 )

ولمّا كان ذلك كذلك أمكن القول إنّ تجربة الشّاعرة في حدود هذه المجموعة  تجربة عميقة ،  بعيدة الغوْر لأنّها تنبع  ، كما قلنا ، من خلفيّة صُلبة هي إحساس وجوديّ عميق باللّقَاطة  في محيط  عبثيّ صامت.

  • 2- 2: القطب الثّاني : الاستلذاذٌ  طوقَ نجاة من جحيم اللّقّاطة الوجوديّة :

إنّ تأسّس تجربة الشّاعرة  على إحساس محدّد – وهو الشّعور الوجوديّ باللّقاطة  – دون البحث عن أسبابه العميقة  يجعلها تجربة نفسيّة لا فكريّة فلسفيّة  ، عكس ما تراه هي . وهو ما صرّحت لي به في بعض الّلقاءات التي جمعتني بها .

ولمّا كانت من هذا القبيل فلا غرابة في أن تكون تداعيات ذاك الإحساس  نفسيّة أيضا  ، مع أنْ ليس ثمّة ما يمنع من أن تكون فكريّة أيضا لو كانت كذلك . وقد توقّفنا  ، في ما سبق  ، عند ما هو سلبيّ من تلك التّداعيات . لكنّ الذّات الشّاعرة قد برهنت  ، رغم كلّ ذلك  ، على أنّها تختزن من القدرات النّفسيّة  و إن كانت ضئيلة  ما يتيح لها إمكان حماية كيانها الهشّ الذي لا تدرك منه إلا مظهره السّطحيّ  و إن كانت هذه الحماية  في ذاتها سلبيّة لأنّها تتجسّد في الهروب إلى الخلف  لا في التصدّي و المقاومة .ويتحدّد هذا الهروب عمليّا في اللّواذ بضربين  من المتع النّفسيّة هما  الإبداع الشّعريّ ومِراس الحبّ في أحلام اليقظة .

فكيف يجري التّعويض في هذين الاتّجاهين ؟ وما هي خصائصه في كلّ منهما ؟

2 -2 -1 : الاستلذاذ بإنشاء الشعر :

لقد عدّ علماء تحليل النّفس الإبداع الفنّيّ وسيلة يلجأ إليها الفنّان  للتخلّص  مؤقّتا من المضايقات التي يتعرّض إليها في حلبة الواقع  المليء عُثارا ، المزروع أشواكا . وذلك بإنشاء عالم خياليّ  يجد فيه الرّاحة والطمأنينة اللّتين افتقدهما بعد خروجه من رحم أمّه  (8 ) . ومن ثمّة فانّ  فعل الإبداع الفنّيّ عندهم بمنزلة العودة اللاّواعية إلى  تلك الجنّة الضّائعة .

وإنّ هذا لينطبق على سلوك الذّات الشّاعرة وهي تتّخذ من الكتابة الشّعريّة أداة للانعتاق من السّجن الذي رمت بها الأقدار فيه .ومن الأبيات الكثيرة جدّا التي جاء فيها هذا المعنى الأمثلة التّالية :

أصعدُ إلى جبلٍ يسائلُني

عن سلوَى في احتدادِ السُّباتِ …

أقشّرُ له وجهي قمرًا ليرسمَني صوتًا …

في سماءِ اللّغاتِ

( نفسه ص 18 )

لِمَ كلّما حَمَلْتُ رُمّانَ القلبِ أقمارًا

للّيلِ السّابحِ في عَتَماتِ الرّوحِ

حملتُ أصابعي إلى أقداحِ الشّفقِ الأحمرِ

قُرْبانَ الحرفِ الحائرِ ؟

( نفسه ص 33 )

دَعي الرّيحَ تُنجِبُ نهرًا من ليلِكَ

ومن ظلالِ الذّكرياتِ…

يرتدي جسدي الكلماتِ

ينهضُ في الصّوتِ ريشٌ

فتحلّقُ…

 الأغنياتُ

( نفسه ص 43 )

قالتْ : وحيدةً تلاحقني الكلماتُ

……………………………

أتلفّتُ لأتوغّلَ في الألفِ الصّاعدِ إليكَ

شوقًا

وأختفي في الظّلالِ العاليةِ

حاولْ تهجئةَ الأشكالَ وسَمِّها شجرًا

ستورقُ الظّلالُ أحرفًا من غربتي

( نفسه ص 56 )

فانبثقي يا ظلالُ عرقًا من خلايا التّعبِ

واعْبُري إلى أرضي عبرَ ثقوبِ الجفافِ

هناكَ ليست إلاّ شقوقُ اللّغةِ

لتمتصَّ أنينَ العرقِ

( نفسه ص 60 )

ولا يمكن أن نمرّ  هنا مرّ الكرام على قولها ” تلاحقني الكلمات ” الذي ينطوي على إشارة بالغة الأهمية إلى ظروف إنشائها للشّعر . وهي أنه هو الذي يأتيها  ملحّا عليها لا العكس .وهذه هي العلامة الفارقة بين  الإبداع  والتصنّع .

  • 2 -2 -2: الاستلذاذ بالحبّ :

إنّ الشّعر  ، باعتباره فنّا ،  ينتمي إلى منطقة اللاّواقع في الكيان الذّهنيّ النّفسيّ للإنسان . وهي  المنطقة  نفسها التي تحوي الحبّ والضّحك  وحتّى الجنون . وثلاثتها إفرازات مقنّعة لغريزة الموت* التي تزيّن للفرد عودته إلى ما كان عليه قبل الخلق وهو التّراب .وهو ما يفسّر ما تتصف به من جاذبيّة وإغراء . ومن هنا لا عجب في أن تتّخذ الذّات الشّاعرة  هنا من الحبّ  ،أحد أجوار الفنّ  ، ملجأ للغرض نفسه . ولئن  كان هذا الحبّ وَرَقيّا لا حقيقيّا ويمارس في الخيال لا في الواقع فإنّ المتع  التي تنشدها الذّات فيه  مضمونة وإن في لحظات خاطفة . وهذا دَيْدنُ التّعويض* النّفسيّ  بوجه عامّ . ومن السّياقات  الكثيرة التي ورد فيها هذا الضّرب الثاّني من التّعويض الأمثلة التالية :

 

أراكَ يا حبيبي …

سنديانةً تنبتُ في فحيحِ الصّحراءِ

وأنّكَ المطرُ تحملُ حُلمًا شهيًّا

( نفسه ص 30 )

 تَكلّمْ فإنّي سئمتُ سرابَ اللّغاتِ

تقول : ” على وجنتيكِ أنا البحرُ يهذي بشعرٍ جميلٍ

وفي الشّعرِ أنتِ القوافي وأنتِ الصّورْ”

سئمتُ فعولنْ …سئمتُ فَعَلْ

كلامكَ رفعٌ وجرّْ

تكلّمْ … فقطْ …

تكلّمْ بجَمْرِ القُبَلْ

 

( نفسه ص 50 )

عاريةً أثبُ إلى عينيكَ

لأرى كيفَ تراني

( نفسه ص 60 )

حين تيمّمتُ باللّيلِ وبظلّكَ

وخلعتُ مِعطفَ الحكمةِ والكبرياء

أدركتُ يا حبيبي أنني بسيطة ككلّ النّساء

وأنّني بحر لذيذٌ وأنّني ظلٌّ حين تشاء

وأنّني أختلسُ تفاصيلَكَ حين أنامُ

كما أشاءُ

( نفسه ص 20 )

 

II – خواصّ شعر سلوى الرّابحي الإنشائيّة في هذه المجموعة:

إنّ طبيعة رؤية الشّاعرة للذّات والكون من حيث  قيامها على مبدإ التّسليم بخفاء جواهر الكائنات بدءا من  ذات صاحبتها  واختزال تلك الكائنات في ظلالٍ ،  قد هيّأت الأرضيّة الملائمة للتّقليل من الدّلالات المرجعيّة . وذلك لارتباطها بهيئات الأشياء المحسوسة في المحيط الخارجيّ كما يدركها الإنسان العاديّ. وهو ما يؤدّي آليّا إلى تكثيف المعاني الحافّة و المعاني الثّواني . وقد سمّتْ الشّاعرة هذه الطّريقة في كتابة الشّعر الكتابة بالظّلال :

اِحدودبَ ظلّي في ربواتِ مفاتنِها

اِحدودبَ صوتي في صرخاتِ ولادتِها

أرْضً تمتصُّ نبوءتَنا

أرضٌ من رملِ قصائِدنا

فبأيّ ظلالٍ أكتبُني ؟

( نفسه ص 76 )

الشعرُ خمرتي

وكلُّ الحروفِ أقمارٌ لظلالي

( نفسه ص 35 )

وتكشف  بعض الإشارات المبثوثة في قصائد المجموعة  عن وعي الشّاعرة بضرورة توفّر هذا الشّرط في الكلام  ليكون شعرا  ، كما في قولها :

ما الشّعرُ بشعركِ يا أرضي ؟

الشّعرُ ثمارٌ ضوئيّةٌ في أيِّ عيونٍ قد تبرقُ ؟

ما الشّعرُ بشعرِكِ يا أرضي ؟

الشّعرُ قصائدُ  لم تُكتَبْ

ألوانُ خُطاها مائيّةٌ

( نفسه ص 64 )

لكنّ الأمر لا يقتصر على الإيماء دون التّصريح  وإنّما تقرنه بشرط ثان هو النّزوع إلى التّجديد المطلق . وهو ما يلوح جليّا في قولها :

أشتهي لونًا آخرَ لِدَمي

لأغيّرَ النّارَ الملتهبةَ في رَحِمِ الخطيئةِ

وأن أكونَ نبيًّا …

لا أبَ لحُلمه…

وأغرسَ في رَحِمِكِ حُلمي ودمي …

وخريطةً لا شكلَ لها …

وتفّاحةً لم تُقضمْ

( نفسه ص 47 )

وهناك شرط ثالث لم تُنَظّر له . لكنّ له حضورا قويّا في قصائد المجموعة . وهو إرباك المتلقّي  بالمباغتة الفنّيّة  على نحو ما نراه   في هذا المقطع :

يكفي أن ترسمَ وجهي الغريبَ

في جسدِ العاشقاتِ

وأن تعانقَ طيفي حينَ تتعرّى أحلى النّساءِ

يكفي …أن أرتديَ قصيدةً لأراكَ

( نفسه ص 29 )

قلت : لم أعدْ أخافُ على ولدي الذي قد لا يجيءُ من الظلِّ

أخافُ فقط على ظِلّي

من ولدي الذي

قد لا يجيءُ

( نفسه ص 48 )

ولمّا بكيتُ بعينيْهِ

ارتدى ظلَّهُ وبكاني

( نفسه ص 62 )

وما زلتُ طفلةَ خمسٍ نهاها

تخيطُ عروسًا بثوبٍ قديمٍ

تمزّقَ قبلَ اكتمالِ رؤاها

فأبكي عروسي بصدرك حينا

وحينا أقولُ أخيطُ سواها

( نفسه ص 75)

تؤكّد وهذه الأمثلة بلا منازع أنّ رؤية سلوى الرّابحي لجماليّة القول الشّعريّ تتجسّد إلى حدّ بعيد في مستوى الإنجاز ، كما تكشف سياقات أخرى عن كون الشعر عندها ثمرة معاناة حقيقية  وليس هواية أو ترفا .

تقول في هذا المعني :

ذا كأسٌ يحتسي فصولَ دمي …

يسّاقطُ خريفًا في وجنةِ الخلقِ

تتبقّى في جسدي سُمرتي

فأسكرُ إذنْ من رغوةِ الأوجاعِ

( نفسه ص 37 )

 

 

خاتمة :

إنّ القراءة الموضوعيّة المتأنّية في مجموعة أحنّط ظلّي في طين الكلام لسلوى الرّابحي تفضي إلى الإقرار بأنّها  ، على الرّغم من كونها باكورة صاحبتها ،  أبعد  ما يكون  عن المنشورات  الأولى الكثيرة جدّا التي يصدرها هوّاة الشّعر العاديّون والتي غالبا ما تتّسم بالتردّد و غياب التّجانس وقلّة  التّماسك  .فهي ، على عكس تلك ، تنطوي على بوادر  تجربة عميقة في مضمار الوجود  ، مع رؤية فنّيّة ناضجة ثابتة . وإذا علمنا أنّها صدرت منذ ثماني سنوات وأنّ مؤلّفتها قد أضحت تحظى بعد ذلك  بسمعة شعريّة محترمة في الوسط الشّعريّ التّونسيّ فمن المفترض أن تكون  تجربتها هذه  قد ترسّخت اليوم ولربّما تطوّرت وتعمّقت . وفي تقديرنا أنّ مراكمة المحاولات من لدنها بعد هذه البداية الموفّقة لضروريّ لتحتلّ مكانها  بكل جدارة على الصّعيد العربيّ .

الهوامش :

  • 1-  الرّابحي ( سلوى ) ، أحنّط ظلّي بطين الكلام ، على النّفقة الخاصّة ، تونس 2004

 

  • 2-                 Alain , introduction à la philosophie ; 1ère partie Platon Paul Hartmann ; 1939; union générale des éditeurs , Paris 1960 pp 34-35

 

  • 3-                                                                                                              Sartre ( Jean Paul ) Les Mots., Gallimard , Paris 1964 p 82 P204

 

  • 4-                                                                                                                                                                                          Ibid.p 204

 

  • 5-                                                                                                          Freud ( Sigmund ), La vie sexuelle, L’organisation génitale infantile Presses Universitaires de France, Paris 1969 p 18
  • 6-                                                          Descartes ( René ) ,Discours de la méthode ,Bibliothèque de la Pléade , Ed.Gallimard , Paris 1966 pp 147 – 148
  • 7-                                                                                                         Camus ( Albet ), L’étranger , Ed. Gallimard , 1ère édition Paris 1942
  • 8-                                Daco ( Pierre ) ,Les triomphes de la psychanalyse ,Bibliothèque Marabout , Ed. Gérard et c V, Belgique 1968 p 310-310

المصطلحات :

 

*لقاطة (Bâtardise  )

* مركّب اللّقيط (Complexe du bâtard  )

*وجْس (Angoisse  )

*تعويض ( Compensation )

*غريزة الموت (Instinct de mort  )

 

 

                                 سلوى الرابحي

 

 ولدت بجندوبة ( الشّمال الغربيّ التّونسيّ) .أصيلة العلا ( ولاية القيروان ) في 4 ماي  1975 . تخرجت في  المعهد الأعلى للشغل بتونس . ومنه حصلت على الأستاذية في علوم الشغل  . تعمل حاليا متفقدة شغل بتونس العاصمة. تكتب  المقال النقدي و المتابعات الثقافية . نشطت  في بعض النوادي الثقافية بتونس العاصمة منها نادي بيت القصيد بـ “بيت الشعر “و نادي الطاهر الحداد.

مجاميعها الشعرية :

  • أحنط ظلي بطين الكلام، على النفقة الخاصة، تونس 2004
  • سلرى سيرة الألواح المنسية ، على النفقة الخاصة ، تونس 2007 .

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*