صلاة في حضرة الأكاسيا: قصّة قصيرة لأميمة إبراهيم – سورية

أميمة إبراهيم

أميمة إبراهيم – سورية

fleurs-acacia
 

1– النَّورس :
قالَ لها :”يا نورسي الجريحَ.” فلامسَ ضفافَ أحزانِها وأوجاعِها، لذا سارعت إلى خزانتِها تبحثُ عن أجنحةِ النَّوارسِ الّتي خبّأَتْها منذُ أوّلِ قهرٍ أو وجعٍ ولبستها . لكنَّ التَّحليقَ فوقَ أديمِ مائه كان خطراً وصعباً!.
2- نصفُ العمر:
مضى نصفُ عمرِها وهي تمارسُ بكلِّ رضىً وقبولٍ فنونَ العطاءِ ناسيةً خلاياها وشرايينها المتدفّقةَ.
لكنّها الآنَ تعرفُ أنَّها ما زالتْ قادرةً على الرَّقصِ وقتَ انسكابِ الغيمِ شلالاتِ رغبةٍ.
لا يهمُّ إن بلّلَ المطرُ أجنحتَها! لكنَّها ستزعمُ أنَّها لن تقتربَ من النَّارِ حتّى لو جمَّد البردُ الدَّمَ في عروقِها. تقولُ له آنَ التقيا :”ساعدْني كي أدخلَ ما تبقّى من عمري برائحة حبقٍ .”
لكنَّه يُصرُّ على أن تدخلَ ما تبقّى من عمرِها برائحتِه.
تهربُ منه و تؤكّدُ لهُ: لم تُحرمْ سهولي ماءً و لا أزهاري رعايةً و دلالاً، و لا ارتعاشاتي حُرِمَتْ من موسيقى و غناءٍ.”
فيؤكدُ لها:” لكلِّ عازفٍ طريقتُه. ما كلُّ من احتضنَ عوداً عزفَ نغماتٍ متفرّدةً، وما كلُّ من قالَ آهٍ أطربَ”.
3- فراشة راقصة :
كفراشةٍ تفتحُ جناحيها، تطيرُ في فضاءٍ رسمَتْه لعالمِها، وترقصُ على إيقاعٍ هادئ، وتصرُّ على أن تكون فراشةً ترفرفُ في حقولِه، تأخذُه إلى فضاءاتِها النَّديةِ.
– “أنتِ فراشةٌ مغرورةٌ غبيَّةٌ”. يُعاجِلُها بردٍّ حاسمٍ.
تضحكُ قائلةً له :”جرّبْ أن تطيرَ معي في عوالمي، بطريقتي طريقةِ الفراشاتِ”.
– “ألم أقلْ لكِ إنَّكِ مغرورةٌ و غبيّةُ “.
4- الأكاسيا :
يطالبُها بالكلامِ، مستمتعاً بثرثراتِها. تسألُه: “ما بكَ ما الّذي تحاولُ أن تعرفَه وتلمَّ بتفاصيلهِ؟ غريبٌ أنتَ لِمَ تنبشُ في تلافيفِ دماغي؟ لم تصرُّ على اختراقِ دفاعاتي، وعلى اقتحامِ قلاعي مجتازاً خنادقَ مائي التي أحاطتني منذُ طفولتي ؟”.
– “احكي لي عن كلِّ ما عجزْتِ سابقاً عن حكايتِهِ”.
ستحكي له عن حُبِّها للصَّفصافِ، و إعجابِها به لأنَّه يتماشى مع مزاجِها الحزينِ، لكنَّه أبداً ما كانَ شجرَها المفضلَ بل كانتِ الأكاسيا هي شجرتها المفضلة.
“الأكاسيا شجرةٌ تختصرُ كلَّ الأشجارِ. في ربيعِها جميلةٌ نضرةُ الخضرةِ، وارفةُ الظِّلالِ، لكنَّها في كهولتِها أميزُ . عناقيدُ زهرِها بيضاءُ، مذاقُها طيبٌ .رائحتُها تجعلُكَ كالمنوَّمِ مغناطيسياً، مسالماً، مهادناً، مسحوراً.
موسمُ إزهارِها قصيرٌ، لكنَّها فاتنةٌ، رغمَ أنَّها ليستْ دائمةَ الخضرة”.
هي لم تكنْ تعرفُ لماذا تحبُّ هذه الشَّجرةَ، ولماذا تتسربلُ بالحزن كلّما رأت الأكاسيا تُجتثُّ من جذورِها في شوارعِ مدينتِها، ويُزرَعُ مكانَها صنوبرٌ أو زنزلختٌ.
وستبكي لأنَّه لا يعرفُ سببَ عشقِها للأكاسيا، و ستكتفي بأن تطالبَهُ أن يقتلعَ كلَّ جذورِ الصَّفصافِ التي تشابكَتْ في قلبِها.
– “أبعدْني يا صديقي عن الحزنِ فقد أدمنْتُه، طرْ بي في فضاءاتِك لكن بإيقاعاتي، بأحلامي، بروحانيتي”.
تضحكُ إذ يُعلنُ غباءَها وستواصلُ الضَّحكَ قائلةً: “لن أكونَ من قطيعِ النِّساءِ اللواتي عرفتهن، وأعرفُ أنَّكَ لا ترضى لي هذا.
أعرفُ أنَّكَ لن تهزمنَي، ففي هذا انهزامُكَ…ستعزفُ طويلاً على أوتاري، ستلامسُ أوجاعي و أفراحي. وبيديكَ الماهرتين ستصلحُ الأوتارَ المقطوعةَ، وتعيدُ لها نبضَ الإيقاعِ!… لكنّي مثل غيمةِ عطرٍ سأتلاشى أو أذوبُ أو أتماهى مع غيومِك”.
– “مغرورة”.
ستضحكُ بشقاوةٍ نافيةً هذه الصِّفةَ القبيحةَ، وسترتجفُ ارتجافةَ حبقٍ آنَ تلامسُهُ أناملُ تقدِّرُ قيمةَ رائحتِه.
5- تفّاحة:
تقولُ له: “اسمعْ…سأبوحُ لكَ بسرٍّ….إيقاع رغبتي ما توافق إلا في النادر مع إيقاع رغباته….كم حلمْتُ أن أرقصَ تحتَ ظلالِ شجرةٍ، في ضوءِ قمرٍ بدرٍ، بغلالةٍ بيضاءَ شفيفةٍ. أفردُ جناحَي كنورسٍ وأطيرُ…أطيرُ…أطيرُ. ثم أرتمي. ليسَ إعياءً بل فرحاً وسلاماً. لكنّي ما رقصْتُ كما أشتهي، وما استطاعَ معرفةَ مفتاحَ اللّحنِ الرّاقصِ. بل استسلمْتُ إلى إيقاعاتِه…أشبعني بموسيقاه. وكنت سعيدةً إذ قطعْتُ الوترَ الذي ما أجادَ العزفَ عليه. وعلى مدارِ آلافِ الأيامِ والليالي كنت تفاحتَه المشتهاةَ يقطفُها متى يشاءُ!. وما استطاعَ أن يدركَ أنّي ما كنْتُ أريدُ أن أكون تفاحةً بل دراقةً!”.
6- صلاة:
“أيُّها المشاكسُ والمجابهُ والمقتحمُ والعنيدُ والمجنونُ والقابضُ على مفاتيحِ الكلامِ.
أيُّها الرَّجلُ الجميلُ .
لِمَ جئْتَ في الوقتِ المستحيلِ؟
أعطني السَّلامَ، وخلّصني من الأوجاعِ …آمين.
هذه صلاتي…لكنَّ صلاتَك ما أقنعتني، ولا أدخلَتِ الطَّمأنينةَ إلى فؤادي. قلْ لي كيفَ توفّقُ بين صلاتِك ورغباتِك؟!.
– هكذا كتبت في دفاترِها السّريّة – وتابعَتْ:
“أحاولُ أن أتسلّلَ إليكَ عابرةً كلَّ شقوقِكَ و خلاياكَ لأعرفَكَ أكثرَ …أنت غامضٌ بطريقةٍ مخيفةٍ، تخفي الكثيرَ وراءَ صخبِكَ، ثرثرتِكَ الجميلةِ، صراحتِكَ المخاتلةِ.
فيك شيءٌ غريبٌ أسعى جاهدةً لأعرفَ تفاصيلَهُ، وأحدّدَ طريقةَ الولوجِ إلى عالمِكَ… كيف تستطيعُ أن تسمعَ ساعةَ تشاءَ، وتصمَّ أذنيك أغلبَ الأوقاتِ؟
كيف تستمتعُ بقهرِ نفسِكَ أو قهري ؟!. في كلتا الحالتين أحسنتَ العقابَ .
لكني أُؤكدُ لك أنّي أكرهُ الجلادين والقتلةَ. مسكينٌ أنتَ إذ تعتبرُ أنَّكَ تقهرُني بصمتِكَ…فأنتَ ما قهرتَ إلا نفسَكَ من خلالِ قهري. أنتَ الذي قالَ ذاتَ شفافيةٍ. “إنَّك الوحيدُ الخاسرُ حتّى لو هزمْتَني. أيُّها المجنونُ: سأدخلُ ما تبقى من العمرِ بكلِّ الانكساراتِ و الهزائمِ والأوجاعِ والأمراضِ. وسألعنُ تحولاتي وصحوةَ ما ترمّدَ من جمرِ انفعالاتي.
فلا تمشِ على صراطِ القلبِ مختالاً…. ولا ترمِني مسافةَ وجعين أو أكثرَ في عمرٍ لا يتسعُ لمزيدٍ من العذاباتِ؟!”.
7- ثورة الأكاسيا:
ذاتَ فرصةٍ أو فرحةٍ سترقصُ له. لن يكونا وحيدين بل سترقصُ أمامَ كلِّ النَّاسِ. لكنَّهُ سيعرفُ أنَّ هذهِ الرّقصةَ هديّتُها له. وسترمي كلَّ ملابسِ الصَّفصافِ الّتي نسجتْها ورقة، ورقة، وطرّزَتْها برهيفِ الرُّوحِ، سترميها لتعلنَ أنَّها في الحقيقةِ مثلما تشتهي … أكاسيا …وستسامحُه، فهو مثلُ كلِّ من تناوبَ على قهرِ مدينتِها بقطعِ الأكاسيا …جاهلٌ، لا يعرفُ قيمتَها .
تسألُهُ: “هل صدفَ أن استفقْتَ على أريجِ أكاسيا، فكنْتَ كالمسحورِ تحتضنُ الشَّجرةَ، متذوقاً بنشوةٍ عناقيدَها البيضاءَ؟! ليتك تلامسُ حنانَ الأكاسيا ذاتِ الجذعِ المتشقّقِ، ليتَكَ إذا شعرْتَ بالهزائمِ وتكاثرَتِ الإحباطاتُ والانكساراتُ، هربْتَ إلى حديقةٍ وأسندّتَ رأسَكَ المتعبَ على جذعِ أكاسيا وأخذْتَ منها طاقتَكَ الحيويةَ. عجّلْ…فموسمُ إزهارِ الأكاسيا قصيرٌ”.
8- اعتراف :
-“أتريدُ معرفةَ المزيدِ عنّي ؟” تباغتُهُ بسؤالِها :
-“ما استمتعْتُ يوماً بالإصغاءِ إلّا لكِ “. يردُّ عليها:
ستقولُ له: “إنَّهُ كان مميزاً بالنسبة إليها، منذُ فجرِ الكلامِ، هو الذي لم يختبئْ وراءَ كلماتٍ منمّقةٍ، ومديحٍ أجوفَ، بل كانَ حاداً ساطعاً كالبرقِ، وكانَ مجنوناً و آسراً. لذا ستخبرُهُ بكلِّ صدقٍ إنَّ شخصيتَها متناقضةٌ، فهي تحبُّ الألوانَ المركبةَ. لونُ حمرةِ شفتيها مزيجٌ من لونين أو أكثرَ. وعطرُها مزيجٌ من عطرين أو أكثرَ، وملابسُها تماشي قوسَ قزحٍ في ألوانِه. حتَّى لونُ عينيها يخضعُ لحالتِها النَّفسيةِ”.
وستقولُ بكبرياءٍ: “أنا امرأةٌ قادرةٌ أن تكونَ المجنونةَ والعاقلة، العصبية والهادئة، الغبية و الذكية، المغرورة والمتواضعة.
أنا امرأةٌ قادرةٌ أن تكونَ الجاريةَ والملكةَ آنَ يُوضعُ الصَّولجانُ في يدِها.”
9- في دفاترِها السّريةِ كتبَتْ:
يا صديقي إن كنْتَ دخلْتَ صيفَكَ المنصرمَ بوجعِ مرضٍ عُضالٍ، فأنا واثقةٌ أنَّكَ شُفيتَ منه الآن.
ستدخلُ صيفَكَ الجديدَ برائحةِ غارٍ!. هل يعني الغارُ في قاموسِكَ شيئاً؟!.
نعم… برائحةِ غارٍ وأرجِ صنوبر…ثقْ فيما أقولُه.
وسأدخلُ خريفي في الرَّبيعِ بمشيئتي –لا بمشيئتِكَ- برائحة أكاسيا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*