دون كيشوت : شخصيّة حقيقيّة أم من صنع الخيال ؟ :محمّد صالح بن عمر

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

صورة إلى جانب تمثال دون كيشوت في القرية التي قيل إنّه ولد فيها ( قرية فيلانيوفا دي لوس أنفتطس – إسبانيا 9 آب/أغسطس/أوت 2015 )

لم تعد طبيعة بطل الرّواية : أهو متخيّل أم شخصيّة حقيقيّة من المسائل التي تثار اليوم في النّقد حيث لا خلاف في أنّ الرّوائيّ يمكنه أن ينشئ شخصيّة   بالتّوليف بين ملامح عدّة أشخاص خالطهم في حياته.وهكذا فأنْ ينهمكَ المرء في أبحاث من هذا القبيل  لا يعدو أن يكون صنيعه ضربا من الجهد الضّائع، لاستحالة  جني أيّ فائدة منه، مادام السّرد الرّوائيّ في جوهره ينتمي إلى خانة المتخيّل .

ولكن  على الرّغم من أنّ هذه القناعة تكاد تكون عامّة  فإنّه لا يزال ثمّة من يستهويه الكشف عن أدلّة قد تثبت أنّ هذه الشّخصية أو تلك في رواية معروفة  مّا قد وُجدت فعلا. وهو ما أثار فضولي عند زيارتي الأخيرة إلى إسبانيا حيث لقيت مثّقفين محترمين يعتقدون اعتقادا راسخا أنّ سرفنتاس لم يختلق شخصيّة دون كيشوت، مستظهرين لي باسم القرية التي ولد فيها .ولمّا كنت بطبعي مسكونا بحبّ الاطّلاع فقد حرصت على متابعة منطق هؤلاء  الأشخاص حتى النّهاية.

لقد استخلص بعض الإسبان، بعد عمليّات ذهنيّة، طويلة، معقّدة ، انطلاقا من إشارات متفرّقة وردت في رواية دون كيشوت  وخاصّة منها هذه الجملة : ” توجد قرية دون كيشوت على بعد مسيرة ليلة ويومين على متن الفرس من الطّوبوزو ( El Toboso )” أنّ دون كيشوت  من مواليد قرية فيلانيوفا دي لوس أنفتطس (Villanueva de los Infantes) الواقعة على بعد قرابة  مائة كيلومتر من مدينة الطّوبوزو.وذلك أنّ اجتياز المسافة  الفاصلة بين هذين الموضعين على متن الفرس يحتاج إلى أكثر من يومين بقليل .

وعند وصولي إلى هذه القرية استغربت أن أجد شارعها الرئيس يحمل اسم دون كيشوت وأن أرى صورة هذا البطل الطّويل القامة ، النحيف البدن و تمثاله النّصفيّ في كلّ مكان تقريبا : في المطاعم والمقاهي والدّكاكين والمغازات وواجهات  البيوت. بل إنّ مُرَكَّبا سياحيّا  فسيحا قد خُصّص لدون كيشوت و قد انتصب في داخله تمثالان معدنيّان له ووقف عشرات السّياح ينتظرون دورهم لتُلتقط لهم  صور إلى جانبهما.

ولمداعبة بائع للتّحف يحمل معظمها خيال البطل ذي القامة الطّويلة النّحيفة قلت له : ” كيف أنتم متأكّدون إلى هذا الحدّ  من أنّ دون كيشوت قد وُلد هنا ؟ فسرفنتاس لم يذكر  ذلك في روايته “. فأجابني بفرنسيّة ضعيفة : ” ولكن يا سيّدي مؤرّخون كبار من كلّ أنحاء العالم قد جاؤوا إلى هنا وأثبتوا صحّة هذا الأمر”.

وفي الختام  – وأنا أغادر تلك القرية –  لم أتمالك عن التّساؤل : كيف استطاع الإسبان بحكاية مختلقة أن يجلبوا كلّ هذا الحشد الهائل  من السّيّاح ، علما بأنّ عدد زوّار إسبانيا يتجاوز في السّنة السّتّة والسّتّين مليون سائح، على حين أنّ أقصى ما بلغه عدد الذين يزورون بلادنا، على الرّغم من تاريخها المجيد الثّابت وجمالها الطّبيعيّ، السبعة ملايين؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*