أدونيس،،، أبجديّة ثانية أو الولادة الدّائمة : عمر حفيّظ – ناقد تونسيّ

262425

أدونيس

 

 

أسّس أدونيس لنفسه منزلة رمزيّة في الثّقافة العربيّة المعاصرة. وهو لا يحضر في تقاطعاتها بما يطرحه من أسئلة كبرى فقط، وإنّما باعتباره اختراقا ثقافيّا متجدّدا لها. فأسئلتُه مداخلُ للحفر في البنى العميقة للمفاهيم والتّصوّرات والحدود التّي تشكّل صيغ وجودنا ورؤيتَنا لذواتنا والآخر في آن معا. وليس من هَمّ أدونيس أن يحاكم الماضيَ ليهدم فيه أو منه “شيئا ما”، مثلما يدّعي حماة التّقليد. وليس من همّه كذلك أن   يكون خزّاف تماثيل أو نماذج. وإنّما همّه في تأمّلاته النّظريّة والنّقديّة وفي شعره كذلك أن ينتسب العرب إلى “الكتابة –الكتاب-أمس-المكان-الآن” انتساب سؤال وشكّ معرفيّين لا انتساب يقين أو صدمة. وهذا ما دعاه، مثلا، إلى التّحذير من أوهام الحداثة بمراقبة خطابها. فموقفه منها منفصل كليّة عن خطابات التّقريظ أو التّهجين التّي يُقدَّم فيها الايديولوجيُّ على المعرفيِّ، والسّياسيُّ على الثّقافيّ.

وما من شكّ في أنّ الإصرار على بناء معرفة تروم الغوص على التّفاصيل المترسّبة في الطّبقات السّفلى للأنا الفرديّ والجماعيّ المعطِّلة والمعطَّلة، ليس إلاّ نتيجة لوعي نقديّ آت من المستقبل، لا الماضي.

وقد طرح أدونيس، في كلّ ما كتب، مداخلَ كبرى لإعادة بناء مفاهيمَ أساسيّةٍ في الثّقافة العربيّة عامّة، وفي الشّعر ونقده خاصّة، لأنّ ما يوجّهه باستمرار هو أن يكون انتماؤه إلى هذا الفضاء العربيّ انتماءَ إبداع، لا إجماع أي انتماء جماليّا لا انتماء فقهيّا. فهو مسكون بقلق خصيب ناشئ عن رغبة في تفكيك متعاليات أربكت المعرفة والإبداع والسّياسة في آن معا. ونحسب أنّ أهمّ تلك المتعاليات ثلاثيّة الأضلاع، ونعني تحديدا: الدّين -الأيديولوجيا- الإبداع. وهذه أضلاع متداخلة مركّبة من إشكاليّتين معطِّلَتين في ما نتصوّر. وهما: الثّقافيّ– الدّينيّ- الفقهيّ،  والثّقافيّ -الأيديولوجيّ- السّياسيّ.

وما من شكّ في أنّ الإشكاليّتين السّابقتين تحتاجان إلى اختراق عنيف لإرساء انفصال واع  بين الثّقافيّ-الإبداعيّ من جهة، وما يكبّله ويعطّل تأثيره من جهة أخرى. وكان أدونيس قد سعى إلى استنبات بذور معرفيّة متينة لإحداث الاختراق في “الثّابت والمتحوّل” تحديدا. فكان مشروعه ذا نسب مستقبليّ لأنّه كان يفكّر في ما قد يكون بين الأضلاع التّي تمّت الإشارة إليها، من تقاطعات مربكة. دون أن يعني ذلك أنّه لا يخوض في الرّاهن من الوقائع والأحداث، ولكن على نحو استشكاليّ ينأى به عن خوض المتابع أو المعلّق.

-لا أشكّ: الخيولُ التّي أسرجتها الخرافاتُ

تقتل فرسانها. (“حالة يقين” قصيدة “صور وصفيّة لحالات أملتها نبوءات الأعمى” ديوان ” تنبّأ أيّها الأعمى” دار السّاقي، بيروت –لبنان، الطّبعة1، 2003، ص213)

إنّ الزّمن الثّقافيّ العربيّ لم يتحرّر بعد من سلطة الأصل والهامش، ولم يتخلّص من حنين مَرَضيّ إلى وَهْم يُسمّيه الزّمن الأوّل أو زمن البدء، تنكّرا لأيّ سابق. وهو تنكّر ايديولوجيّ –فقهيّ يكذّبه الثّقافيّ وتكشف تهافته الوقائعُ والواقعُ، لذلك يلحّ أدونيس في تكرار الأسئلة لتفكيك البنى الثّقافيّة العميقة التّي حوّلت التّقليد إلى مقدّسات يعسر الاقتراب منها. أمّا مساءلتها أو التّفكير فيها،  فاجتراء على الـ(معرفة)   [ ربّما علينا أن نتذكّر طه حسين وعليّ عبد الرازق والطّاهر الحدّاد، مع ضرورة الوعي -بطبيعة الحال- بأنّ لكلّ زمن معرفتَه. إذ كلّما تجاسر كاتب أو مفكّر، واجهه حماة الهويّة الكتابيّة الثّابتة والمنتسبين إلى الإبداع بالايديولوجيا أو بالدّين أو بالسّياسة، بشراسة لا قبل له بها] وبهذا المعنى فإنّ ما تمّت الإشارة إليها آنفا متعلّقا بالإشكاليّات يستوجب تأمّلا متأنيّا نروم من خلاله أن نضيء بعضا من التّفاصيل المستحكمة في تعطيل حداثتنا ومواطِنيّتنا:

1- الثّقافيّ- الدّينيّ- الفقهيّ :

إنّ العلاقة بين الدّينيّ- الفقهيّ والثّقافيّ، على قدر من التّعقيد الذّي يستعصي على التّبسيط. وربّما كانت نازلةُ “في الشّعر الجاهليّ” لطه حسين أمارةً دالّة على أنّ سلطة الخطاب الدّينيّ –الفقهيّ تقهر الثّقافيّ-الحداثيّ، وتستولي على دوالّه المستَحدَثة لتعطيلها، وعلى أنّ أيَّ مشروع تنويريّ لا يُواجَه بالإلغاء فقط، وإنّما بالاغتيال الرّمزيّ والماديّ- الفعليّ كذلك. وهذا كلّه يحتاج إلى قراءات تفكيكيّةٍ مستأنَفةٍ باستمرار عسى أن يُخترق جدار التّحريم والتّكفير وأن تُرسم الحدود بين الدّينيِّ- الذّي يفترض أن يكون شخصيّا فرديّا، والثّقافيِّ -الإبداعيِّ الذّي هو بالضّرورة جماعيٌّ ينتظمه الاختلاف لا الخلاف… لذلك كانت رهانات أدونيس في قراءاته للقديم، وخاصّة في “الثّابت والمتحوّل” متعدّدةً، أهمّها تحرير الثّقافيّ من هيمنة الدّينيّ- الفقهيّ -الايديولوجيّ وتقويض ثنائيّات من قبيل: الأصل والهامش، والشّرق والغرب، والذّات والجماعة…، لأنّ الخلفيّة التّي توجّهه مبنيّةٌ على فرضيّة أنّ الفروع أو الهوامش هي المرشّحةُ أكثرَ للانفتاح على المستقبل بما فيه من ممكن أو مجهول، ولذلك فإنّها هي الأقدر على أن تصون الذّات من الانغلاق على نفسها وتحميها من وهم الكمال والاكتمال.

من هذه الجهة انفصل أدونيس عن أوهام الأصل وخرافة الإجماع وانتسب إلى حيّز الهامش وحريّة الاختلاف وعناء البحث ومعناه. وبعيدا عن شعارات “الأوّل” أو”السّابق” أو “المؤسّس” فإنّ أدونيس من أكثر الكتّاب إلحاحا في التّنبيه إلى تسلّل الدّينيّ- الفقهيّ إلى الشّعريّة العربيّة، على أنحاء خفيّة. وهو لم يخصّص حيّزا دون آخر للتّنبيه والسّؤال وزرع الشكّ والقلق المعرفيّين. فتأمّلاته النّظريّة وكتاباته الشّعريّة تتقاطع وتتداخل وتتكامل. وهو يؤكّد فيها باستمرار أنّ القيمة العليا ليست المدلولَ، وإنّما هي الدّال أو مداخل التّفكيك والبناء والإبدالات للتّفريق بين ما استنفد كفاياته المعرفيّة والجماليّة وما تقتضيه حركة التّاريخ واختلاف الذّوات من تحوّلات في الثّقافة والهويّة والمعنى.

إنّ الثّقافيّ- الإبداعيّ، إذن، هو ما يؤسّس للفروق النّوعيّة بين الشّعوب في تصوّرها للوجود ووعيها بالزّمن والتّاريخ، أمّا الدّينيّ-الفقهيّ أو الايديولوجيّ- السّياسيّ، فأزواج قد تختلف وتتباين، هنا أو هناك، ولكنّ اختلافها ليس نوعيّا، وإنّما هو اختلاف كمّيّ، لذلك فإنّ الإبداعيّ هو بناء المعنى باستمرار أي إلى ما لا نهاية. وليس تعبيرا عن معنى موجود مسبقا، على نحو ما توهم به المنظومات الفكريّة الأيديولوجيّة الدينيّة أو السياسيّة (موسيقى الحوت الأزرق، دار الآداب، بيروت –لبنان، الطّبعة 1، 2002، ص 387)

2- الشّعر- الأيديولوجيا- السّياسة :

لهذه الإشكاليّة صور متعدّدة في ثقافتنا العربيّة. ولكلّ صورة أزمنتها وأنصارها ومعارضوها. وربّما كان للسّياقات أثرها في التّرجيح والتّعديل. ولعلّ القضيّة الفلسطينيّة وهزيمة 1967 شاهدان صارخان على ذلك. ولئن خفتت الآن حدّة الصّراع بين من يتحدّث عن الشّعر من خارجه أو يريد أن يفهمه بالايديولوجيا، ومن يقطع كلّ صلة بين القصيدة والعالم، فإنّ أدونيس قد استنبت- منذ أن خاض تجربة شعر- ما به يصون الشّعر من ثنائيّات اليمين واليسار، والثّوريّة والرّجعيّة، والإباحيّة والعذريّة، والمقدّس والمدنّس… ويحميه من أن يتسلّل إليه الفقهيّ بالمعنيين الدّينيّ والسّياسيّ.

ففي حديثه عن الشّعر وفي كتاباته ذاتها نجده مأخوذا بتيه الباحث عن سرّ القصيدة. وسرُّ القصيدة لغتُها. وفي السرّ أسباب شهوة أو ذاكرة جسد، لذلك كان لا بدّ من بناء علاقة جديدة مع اللّغة وكتابة الشّعر بأبجديّة ثانية. فاللّغة ليست أداة أو قناة أو طلسما معمّى، وإنّما هي فكر ووجود. بل إنّها تسمية أو إعادة تسمية. وفي إعادة التّسمية تقويض للاسم– الحجاب، وخلخلة للوعي والذّائقة وإعادة ترتيب لصيغ الوجود وللعلاقات بين الإنسان والأشياء:

ولكم غطّيتُ قبرَ الزّمن المَيْتِ بثوب الكلماتْ

ولكم غنّيتُ للشّيء الذّي ضيّعه في أوّل الدّرب قطيع الكلماتْ

وأنا أعرف أنّ الشّيء مفتاح ولا يَفتحُ إلاّ الكلماتْ

اقرع الباب لكي توقن أنّ الكلماتْ

جسدٌ آخرُ لا يلبس غير اللّيلِ، … (قصيدة “البرزخ”، أبجديّة ثانية، دار توبقال للنّشر، المغرب 1994، الطّبعة 1، ص145)

إنّ اللّغة، بما هي فكر ووجود ووعي، هي الحيّز الأمثل للحفر والتّفكيك والمساءلة. ففي تحريرها من آثار الآخرين انفصال عن الإجماع وخروج من الهويّة- السّجن وانتساب إلى الذّات في هويّاتها اللاّنهائيّة واستعداد لرهانات المستقبل وما يمكن أن يُستحدث فيه.

ولذلك فإنّ مساءلة أدونيس للّغة، لم تكن إلاّ هدما لطبقات من المعنى تحجّرت وحوّلتها بعض القراءات إلى مسلّمات. والحال أنّها ليست إلاّ إمكانا، سواء تعلّق الأمر بالنصّ القرآنيّ أم النّصوص الأديولوجيّة الأخرى يمينا ويسارا. والمربك أنّ أشتاتا كثيرة من تلك القراءات قد تسرّبت إلى الحقل الإبداعيّ، فعطّلت فيه الانفتاح على الممكن والمفاجئ. بل إنّ تلك القراءات الفقهيّة للأدب قد أتلفت إبدالات كان يمكن أن تخطّ تاريخا آخر، كما أنّها أقصت ألوانا من الإبداع، منها الخطاب الصّوفيّ. فقد حاصرته وألغت ما كان يمكن أن ينفتح عليه من إمكانات كتابيّة ومعرفيّة. وهو ما ستتفطّن إليه الرّومانسيّة والحداثة لاحقا وتحوّله إلى مداخل نظريّة جديدةٍ.

ينتسب أدونيس إلى الحداثة، إذن، من جهة السّؤال. ومن جهة الوعي بأنّ الهويّة الكتابيّة التّي لا تحتضن التّاريخَ في تحوّلاته ووعوده والآخرَ في اختلافه وتعدّده، تصبح سجنا. وبأنّ حرب اللّغة هي الحرب الأولى التّي تخوضها الذّات لتؤسّس تمايزها واختلافها، إذا كان رهانها إبداعيّا في حقول المعرفة المختلفة، لا في الأنواع الأدبيّة فقط. وإلاّ فإنّها ستكون ذاتا ناسخة منسوخة لا ملامح لها:

– آويني، احرسيني أيّتها الضّاد الضّاد- يا لغتي، يا بيتي

أدلّيك تميمة في عنق الوقت، وأفجّر باسمك أهوائي

هكذا أحضُنُك وأقول- من جديد:

أنت الجسد الذّي يُسمّى الغدَ

وعلى هذا الجسد يُرمى نرد التّاريخ. (قصيدة “شهوة تتقدّم في خرائط المادّة ” أبجديّة ثانية، ص 101)

إنّ المحنةَ في اللّغة والمأزقَ كلَّه فيها، بالنّسبة إلى الإنسان عامّة والعربيّ خاصّة. فهي بذرة الخلاف والاختلاف، وهي فضاء الوحدة والتّمزّق، وربّما كان من المفيد أن نذكّر بأنّ “الاصطدام بجدار اللّغة” بعبارة يوسف الخال، كان سببا من أسباب أزمة مجلّة “شعر”. إنّ اللّغة هي أمّ الثّنائيّات المربكة: الشّرق والغرب، الرّوح والجسد، الأنا والآخر، الشّعر والنّثر، الحقيقة والمجاز، الثّبات والتّحوّل… لذلك فإنّ مسؤوليّة المبدع الأولى، في أيّ حقل من حقول المعرفة، هي مسؤوليّة لغويّة. فالموقف من اللّغة من المداخل الأساسيّة للانتسابِ إلى أزمنة معرفيّة أخرى غير التّي استبدّت بنا في المشرق والمغرب.

وليس بكرا أن نشير إلى أنّ أدونيس كان مثقلا بهموم الإنسان العربيّ وبما يعطّل حضوره الرّمزيّ في العالم. ولكنّ ما تمايز به عليّ أحمد سعيد هو البناء على البرازخ لتولد بين يديه وفي قصيدته علاقات تخرج بالشّعر من متداول” الوجدان” و”الانفعال” و”الارتجال” و”الحدث” و”المناسبة” إلى حيّز الفكر إلى حدٍّ تبدو فيه القصيدة للمتسرّع المتعجّل فوضى لا ينتظمها خيط أو إيقاع أو ذات تفكّر. وهذه هي الشّبهة التّي نروم رفعها في سياق ما نعتبره مدخلا أساسيّا في قراءة أدونيس. ونعني تحديدا إشكاليّة الشّعر – الفكر.

الشّعر- الفكر :

إنّ ما تمّت الإشارة إليه متعلّقا بالموقف من اللّغة ييسّر علينا أن ننبّه إلى ما يمكن أن نعتبره من مظاهر التّمايز والاختلاف بين أدونيس وغير من الشّعراء والكتّاب. فتجربته الكتابيّة متحوّلة دائما لأنّه هو ذاته يرفض أن يستقرّ في بيت واحد حتّى إن كان هو مؤسّس هذا البيت. فلحظة ” شعر” التّي خاضها مع يوسف الخال وأُنسي الحاج وغيرِهما، كانت تفكيرا في ممكن شعريّ آخر غيرِ السّائد الماثل آنذاك، بل كانت انفصالا عن إجماع مثقّفي الأحزاب والتيّارات السّياسيّة وخانتي اليسار واليمين بما فيهما من بذور ميتافيزيقيّة ورغبات في قراءة الشّعر من خارجه وتحويله إلى هامش لأصل، هو الأيديولوجيا. وما تلا تلك اللّحظة لم يكن إلاّ تفكيرا مستمرّا في كيفيّات إخراج بالقصيدة ممّا حجبتها به الاجتهادات أو التّنظيرات الفقهيّة العربيّة. وها هنا يصبح من ضرورات السّياق أن نذكّر بأنّ:

– أدونيس قد ارتفع بالشّعر عن الحدث والإحساس والانفعال ليصله بالفكر ويصل الفكر بالجسد. ففي القصيدة، وداخل القصيدة يفكّر أدونيس في المعنى والذّات والبناء والكتابة والجسد والآخر… وبهذا المعنى فإنّ القصيدة، باعتبارها إمكانا شعريّا في الدّرجة الأولى، لا تخلو من وعود آسرة باستمرار. فهي تعد بأن تكون فضاء نقديّا ونظريّا وفلسفيّا، بل فكريّا خارج الأنساق لأنّها هدم للأنواع وإنشاء فريد لإيقاع مختلف وإرباك واع لكثير من المتعاليات.

– تجربته الكتابيّة منفتحة على النّقصان لا الاكتمال. والمزيّة أنّ نقصانها ليس إلاّ أمارة من أمارات تمايزها وانفتاحها على ما يجهله أدونيس ذاته. فهو قد انتقل بعد تجربة شعر إلى ما سمّاه مرحلة الكتابة الجديدة. وربّما كانت الصّوفيّة باعتبارها معاناة للّغة من أهمّ أسباب التّحوّل والاختلاف. وسيظلّ الدالّ الصوفيّ عنصرا إيقاعيّا بانيا للخطاب الأدونيسيّ يعضده الأسطوريّ المركّب من ثقافات متعدّدة. ولمّا كان الانفصال في عرف أدونيس باب للسّؤال فإنّ تجربة الكتاب كانت حلولا آخر في التّاريخ لمساءلة الصّمت والمكبوت والممحوّ الذّي كلّما توهّمنا اندراسه النّهائيّ ردّتنا إليه تقاطعات الخارج نصّي والنّصّي ليكون ذلك استئنافا للكارثة.

– مرحلة الكتاب ليست – في ما نتصوّرإلاّ استكمالا لما شرع فيه أدونيس في أبجديّة ثانية التّي نعتبرها كتابة خارج مفهوم القصيدة وداخله في آن معا. فمفهوم البيت، مثلا، أصبح إشكاليّا حتّى في الموزون، وتضاعف التّهجين والتّداخل، وتوثّقت صلة القصيدة بحقول معرفيّة أخرى كالأسطورة والفلسفة والتّاريخ والرّسم، وبدت مفاهيم كثيرة كالإيقاع والصّفحة الشّعريّة والصّورة مداخلَ لتوسيع دالّ الذّات ومفهوم الشّعر.

– أدونيس يعتبر الشّعر معرفة مفتوحة على التّأويل، والقصيدة عمل فكريّ يتمثّل العالم في كلّيته وتفاصيله برؤية ذاتيّة وإيقاع مركّب من عناصر مؤتلفة مختلفة. وهو موجّه في ذلك بوعي نظريّ أهمّ  أسسه أنّ الكتابة البدء وهم، وأنّ الأنا لا وجود له دون آخر، وأنّ الإدراك الشّعريّ للوجود إغناء للذّات واشتقاق للمعنى من كلّ شيء.

– وكيف أكون المفرد وما أنا، إن لم ألبس الشّخوصَ كلّهم إن لم أكن هذا الجمع؟

بين سورة القلب تتفطّر عشقا وسورة الذّهن تتلألأ نظرا أكتب وأعلن: كتابتي غواية،- وأكرّر: لست الجوهر   لست النّوع النّقيّ    أنا جواهر وأنواع    مزيج من قمر وشمس في لحظة واحدة  و”حين أضحك

أضحك لكي أنفصل بفرح عن الماضي” (ماركس) معلنا حقّي في أن أكون متناقضا (منطقي أكثر شمولا من منطقكم الظّاهريّ) ( “قصيدة “المهد” أبجديّة ثانية صص76-77)

وهكذا فإنّ القصيدة بالنّسبة إلى أدونيس عمل لا نهائيّ لا في ولادتها فقط، وإنّما في ما أصبح منجزا منها كذلك، فهو قد أعاد كتابة بعض نصوصه. ولعلّ عملا في مسوّداته – وهو ما لم ينجز بعد- يمكن أن يكون منتجا لأبجديّة ثانية ولأسئلة في الخلق والتّكوين والمحو والشّطب وإيقاع الذّات. وهذا وغيره بعضٌ ممّا ينطوي عليه مفهومُ الكتابة المنفتحُ على معان كثيرة، منها: المؤجّلُ والمختلفُ واللاّنهائيُّ والتّرياق            ( (Pharmakon وبعضٌ ممّا يتيح لنا أن ننعت أدونيس بأنّه مشروع منذور للاختلاف والتعدّد. وذا شأن من أدرك أنّه لن يكون خالقا إلاّ إذا كان ماحيا، (العبارة محوّرة عن عبارة لأدونيس في قصيدة ” في حضن أبجديّة ثانية” في ديوان أبجديّة ثانية، ص 212)  وأنه لن يُبدعَ إلاّ إذا هجّنَ (العبارة محوّرة عن عبارة لأدونيس في قصيدة ” المهد” نفسه ص81) ولن يعرف نفسه إلاّ إذا اغترب (العبارة محوّرة عن عبارة لأدونيس في قصيدة ” المهد” نفسه ص81).

 

fractalshell_glow.large

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*