البساط : قصّة قصيرة لمحمّد أسعد سموقان – اللاّذقيّة- سوريّة

محمّد أسعد سموقان

محمّد أسعد سموقان

كان صغيراً يلعبُ ُ بالطين ..يدهن جذوع الأشجار يرسم عليها قلوباً وأشياءَ وشموساً وأقماراً .. يذكرُ يوم نزلَ إلى الوادي السحيق ، حملَ الكدان وبسكينٍ صغيرة ٍكان يصنعُ العرباتِ والحيواناتِ البريةِ التي ترعى ..تأكل …تركض ..هكذا كان الوقت يمرُ.. تحت تلك المشمشةِ أو شجرةِ المشمشِ الكبيرةِ التي يستلقي تحتها على بساط مزركشٍ بكل الألوان ..إنه من قطعٍ قماشيةٍ صغيرةٍ مستطيلاتٍ حمراءَ وزرقاءَ تتراصف لتشكل انطباعاً متموّجاً يغيِّرُ من إيقاع ِ المكانِ فينبسط على العشبِ الربيعيِّ الذي ينبثقُ هو الآخر ليؤكد حضور الأخضر بكل درجاته .
كانت الشمسُ تتسللُ من بين الأغصان والأوراق ..أوراق شجرة المشمش وأغصانها، فترسمُ الظلالَ على جسده كما على البساط والأرض .لا لحم ولا شحم تحت جسده.. لذا كان يتقلَّبُ كثيراً وبهذا يستطيعُ أن يرى كامل المشهد.. السماء والأرض .. يرى الأشجار الصغيرة والكبيرة .. الحيواناتِ والحشراتِ وأفعالِها…
يتقلَّبُ بين الفينة والأخرى ليتجنب استمرار ضغط جسده على الكتل الترابية (القلَّاع ) من تحت البساط.. يأخذ جسده النحيلِ نفسَ التواءاتِ الأرضِ من تحته .. وتتفرعُ منه ذراعان نحيلتان أيضاً لكن عظام المفاصل قويةٌ يمكن أن تحلَّ محلَّ محراث الأرض …

ولم يكن يعرف إن كانت مراقبته لحركات الحشرات هي عملُ كسول جداً يساعده على ارتخاء جسده وتمدده لفترات طويلة تستمرُّ نهاراً كاملاً .. ولا يقطع تأمله إلا مرور بقرةٍ أو حيوانٍ أو شخص ما  يوقظه من تأمله .
تخترق الشمس أوراق الشجرةِ وفروعَها ، فترسم ظلالاً للأوراقِ والأغصان ، وتتداخلُ الدوائرُ والخطوط العريضةُ والرفيعةُ حسب ثخانة الفروع . والعيدان.: إنها تتوحد باللون مع الأوراق عندما تصبح ظلالاً، وعندما تقي من الشمس وعندما تغطي أجساداً مختلفة..تُرسم على اللحم والقماش والتراب !
ولا يفلت حيّ يمرُّ من تحت الشجرة إلاَّ ويُختم بظلالها !
يحاول أن يحمي عينيه من تلك الفراغات التي تحيط بالظلال وتأخذ دلالاتها .
يتقلب..على البساط .لم يعد يرى الظلال إلا على يديه الأماميتين ..و راح نظره يغفو بعيداً يراقب جرادتين منهكتين.
قطع له هذا المشهد مرور أخيه الأكبر., الذي بدأ يكسر بقدميه الدمى الطينية التي شكّلها بأصابعه..
إنها عصافيرُ وحيواناتٌ..قططٌ وفيلةٌ وأفاعيُ وفراشات.
هو ذاهب إلى الصيد ،ليصطاد العصافير (بالنقيفة) قال له:- هل تأخذني معك؟.
– أنت صغير لا تعرف الصيد ! وراح يضربه وهو ممدّد على البساط..
بقسوة تعاراكا بالأيدي ..مسك إصبع يديه الوسطى وراح يلويها بشدة .. وبدأ يصرخ ألماً..
كانت إصبعه الوسطى هي نقطة ضعفه وكان لِيُّها سهلاً عليه..
فأستسلم ألماً..
ذهب وانبطحَ مرةً أخرى على البساط ..لم يكن يغريه أو يروض حواسه إلاَّ مراقبة ظلال الأشجار والحيوانات وحركاتها ..وكانت هذه المراقبةُ تشكّل مساجاً لجسده فيرتخي ويتوحد بالأرض والسماء أو يُصبح صدى لكل هذه الإشارات ..فيزداد حبأً للحيوانات والحشرات..عشقاً لأصواتها وأشكالها وأفعالها ..
رأى الجرادتين ثانيةً..هما يمارسان الحب تحت الشمس اللاهبة..فوق ورقةِ التين الخضراء ، فكانت أرجل الجرادة الأنثى تخّرشها عندما تمشي وهي تحمل ذكرها الذي يمسكها برجليه ومؤخرته..ويحميها بجناحيه عندما تهب الريح..
فيصبحان جسداً واحداً،حشرة واحدة، قلباً واحداً يتحمل أشعة الشمس اللاهبة.. تسمَّرت عيناه لهذا المشهد !
.
إنهما يضمان بعضهما إلى بعض على بساط أخضرَ..يجرران أنفسَهما..
الأنثى تتحمل ثقل ذكرها وهو يحميها من الشمس.
-مشهد-
ثور هائج عقصته الزنابير راح يمزق بقرنيه ورقة التين ، يرفس الأرض فتغيم الأرض غباراً.
تشنجت عضلاته..تسمَّر فزعاً فوجده نفسه مقرفصاً.

انشدَت أوتار عضلاته نحو هذه المباغتة..ثم تركَت عيناه المسمرتان مشهد الثورِ لتعرف مصير الجرادتين..
لقد طارتا في هلع يعادل هلعي..
تداخلت أجنحتهما وتشابكت .ثم سقطا في شباك عنكبوت..
فراح
يراقب الشباك والأجنحة..
تشوشت الرؤيا لديِه أمام تلك الشاشةِ المشوشةِ.. التي تسوَّد للحظة وتعاود الارتجاج, لتسجل زمناً ثانياً..سيلاً من اللقطات المتتابعة لحركات الأجنحة ..ولقطات أخرى لحركات العنكبوت الذي يدور بسرعة فائقة ..يعضهما ويعكس دورانه ..حتى بدا له مجموعة عناكب تتحرك في وقت واحد وبمحاور مختلفة..
فتولد له عيوناً كثيرةً كبيرةً تتسع للأمكنة والأزمنة ولمستقبل العشق والموت..
يحاول الذكر بقوةٍ التخلص من الشباك يمدُّ أرجله بعنف بشكل أفقي فيخرّب الشبك ويضغط بقوة على أنثاه..هي اللحظة التي شعر بأن قلبه يرقص ألماً ولذةً..يمتط فيخرج من جسده ..تتسارع ضرباته..ثم يعود ويهدأ إنها قوة الموت والحب..
وكما تشد شباك العنكبوت ذكر الجراد إلى أنثاه .. كذلك تشده خيوط الشمس إلى البساطِ.

araigne-sauterelle_thumb

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*