في الكيس : قصّة قصيرة لسوزان إبراهيم

10644944_892575180822082_2215105652390802636_n

بلى… وصل الشاطر حسن إلى حبيبته الست بدور، ولكن أجزاءً وقطعاً في كيس من الخيش ما زال يسرِّبُ دماء الذبيحة. هكذا هي الحكاية بين يدي الآن، مقطعة الأوصال تبحث عن جسدها. ما أن تهم الست بدور بترتيب أعضاء الجسد على طاولتها حسب المخطط البشري وتضع كل عضو في مكانه الصحيح، حتى تبدأَ رحلةَ البحث عن ماء الحياة الذي ما أن يُصبّ على الأجزاء المتقطعة، حتى تلتئم جراحها في اللحظة ذاتها.
الآن أنا.. وأوصالُ الحكاية المتناثرةُ، وطاولةٌ تتحداني، وعليّ  البحثُ عن ماء الحياة.

ظننتُه الباب الوحيد لولوج المدينة. فعبرتُه. تجمهر حولي بشر بأشكال ووجوه مختلفة. أيدٍ كثيرةٌ امتدت تشدني، كلٌّ منها يجذبني إلى ما يسميه الباب الأوحد المعترفَ به للمدينة. صامتةً وقفتُ أتأمل المتصايحين، كانوا ثلة من باعة متجولين في ساحة المدينة. بدوا كأمواجِ بحرٍ تتلاطم, تتمدد نحوي حيناً.. وتنحسر حيناً آخر. بعد أن اتخذتُ من الساحة الرئيسية مركزاً لوقوفي.. تفرقوا!
لماذا لا أجرّب بعض تلك الأبواب؟! قالت الست بدور لنفسها. ونادتْ أحدهم :
-هيه… أنت أين الباب الذي حدثتني عنه؟
انفرجت أسارير وجهه مهللةً:  لن تندمي أبداً.. هذا الباب سيقودكِ إلى مركز المدينة مباشرة عبر طريق مختصر.
كلما قفلتُ راجعةً من أحد الأبواب، ناديتُ حارساً آخر لأجرّبَ دخول المدينة عبر بابه… وهكذا إلى أن شعرت بدوار يفتك بوعيي.
كنتُ كلما عبرت باباً، وجدت نفسي في مكانٍ باهتٍ، كالحٍ كأنّ عصاباتٍ علي بابا اجتمعت هنا وسرقت كل الألوان. فلا أبيض، لا أسود، لا أحمر، لا أخضر.

وتضيف الست بدور في رسالتها الالكترونية التي أرسلتها لي ليلة أمس:
بدت وجوه السكان بلا ملامح. كانت أشبه بمن يغطي وجهه بكلسات نسائية شفافة.

وتقول بين معترضتين- أنتِ تعرفين الكلسات النسائية على ما أعتقد- ثم تتابع: بل ربما كانوا  كالمومياوات المغطاة بالشاش الأبيض!
ولأن رسالتها الالكترونية لم تُشبع نهمي لمعرفة المزيد، اقترحت عليها الجلوس في إحدى غرف الدردشة. فوافقت.
-وماذا رأيتِ أيضاً في تلك المدينة يا ست بدور؟

لن تصدقي! التقيتُ كائناً غريباً ربما هو ساحر، وقف أمام أحد الأشخاص، ثبّت نظرَه عليه، وغرق في عينيه. فإذا بذلك الشخص يتحوّل تدريجياً إلى غبار!! لقد رأيته بعينيّ يشفط الغبار بفمه ثم ينفثه في قارورة صغيرة ويسجّل اسم الشخص عليها!! لقد كرّر الأمر مع كثيرين في الساحة!
-وماذا يفعل بتلك القوارير؟
أخبرني أنه أمين عامِ متحف القوارير في المدينة و أنّه  على فتح أقسام جديدة فيه، كما يفكر في إحداث فروع لمتحفه في المدن المجاورة. وتضيف الست بدور:

العجيب ليس ما فعله ذلك الساحر بتحويل الأشخاص إلى غبار محتجز في قارورة فقط، بل في قدرته الخارقة على استعادة أي منهم حيث يفتح غطاء القارورة، ويناديه باسمه، فينبعث ضباب أزرق يتصاعد وينتشر حتى يتحول إلى رذاذ  يتساقط رويداً رويداً ليشكّلَ إنساناً كاملاً!
يبدو الضغط على الشبكة العنكبوتية كبيراً، إذ فقدتُ الاتصال بها. وريثما أتمكّن من معاودة التواصل معها، رحت أتابع أحد البرامج الوثائقية التي تعرضها قناة “الكون هذه الأيام”. تحدث الفيلم الوثائقي عن حاضرةٍ (مدينة) كبيرة تؤمها كائنات فضائية، وقد حوّلتها إلى مختبرات لدراسة بعض الظواهر. بدتِ الحاضرة كغابة من الأحذية، السكّان أقزام يتجوّلون بينها وكأنها غير موجودة، مع أن خطر دهسهم بأحد تلك الأحذية الضخمة كان وارداً في أي لحظة. كل ما في الحاضرة الغريبة سيقان وأحذية وأقزام. سأل معدُّ البرنامج أحد السكان الأصليين عن طموحاته وكيف يرى المستقبل؟
ردّ عليه بصبر نافدٍ: كل ما أرجوه وأطمح إليه  أن أعرف ماذا يوجد في أعلى تلك الغابة من السيقان.
*****

ها قد عادت الشبكة إلى وضعها الطبيعي. ضغطتُ زرَّ التنبيه لألفت انتباه الست بدور إليّ، فردّت بابتسامة مكتوبة. سألتها: ماذا حدث معك بعد ذلك؟ هل وصلتِ مركز المدينة؟
بعد أن أضافتْ وجهاً غاضباً من تلك الوجوه الجاهزة على الشبكة كتبتْ: بعد أن تجاوزت أحد الأبواب برفقة الحارس، وقف شعر رأسي لما رأيته. فالناس يمشون ويعملون ويمارسون كل أشكال الحياة، لكن دون رؤوس تجثم فوق رقابهم!
-أنت تبالغين بلا شك، أنا لم اقرأ مثل ذلك، ولا حتى في حكايات ألف كذبة وكذبة!! كتبت لها وأتبعتها بقهقهة مكتوبة.
=صدّقيني.. أنا لا أبالغ، لقد سألت الحارس عن الأمر، فقال:
عانت مدينتنا من مرض غريب يجعل رؤوس الأطفال كلما كبروا، تستدير فوق رقابهم إلى الوراء، كانوا يمشون وأقدامهم إلى الأمام، لكن رؤوسهم تتوجه إلى الخلف. استدعى مجلس المدينة أمهر الأطباء والباحثين لمعالجة ودراسة هذه الظاهرة، وابتكروا لقاحاً بدا فعالاً في البداية، لكن مفعوله لم يستمر طويلاً . بعد ذلك أُرسل عددٌ من الأطفال إلى بلاد الغرب للعلاج. قام خبراء الغرب بزرع شرائح الكترونية صغيرة جداً تحت جلد أذرع الأطفال ونجح الأمر. لكن الأطفال ما إن دخلوا حدود المدينة حتى بدأت رؤوسهم تدور عكس عقارب الساعة شيئاً فشئياً وتتجه إلى الوراء كسابق عهدها، حينها قرّر مجلس حكماء المدينة اختراع آلة لقلوزة الرؤوس بما يسمح بتركيبها أو فكها. وهكذا ترين أن الجميع يحملون رؤوسهم في حقائب!
طبعاً لم أصدّق رواية الست بدور. لكني أبديت لها عكس ذلك كي لا تغضب. ويكفيها ما عانته من مصاعب في البحث عن مركز المدينة الملونة لتُحضر زجاجة ماء من ينبوعها المقدس.
كتبت الست بدور تسألني: الوقت متأخر ومازلتِ مستيقظة.. هذا ليس من عادتك! ما الأمر؟! هل من رجل؟
أجبتها: كان يومي صعباً.. وأشعر بتوتر يمنعني من النوم.

-خيراً.. ماذا هناك؟ لا تقولي إن مجموعتك القصصية الأخيرة التي أطلعتني عليها قد رفضت ومُنِعتِ من نشرها!
-ليت الأمر كذلك. في الواقع.. اليوم وأنا في طريقي إلى عملي استرعى انتباهي رجلٌ متشردٌ

هكذا يبدو على كل حال- يحمل بطّانية على ظهره وعكازاً في يده. حين صرت بمحاذاته، وقف على حافة الرصيف وبدأ يضحك بصوت عالٍ ويسأل نفسه دون أن ينتبه إلى وجود أي كائن آخر:
الآن اكتشفتُ أنه يوم الخميس، والصيدلية مغلقة، ثم أطلقَ قهقهة مدوّية وضرب كفاً بكف. بعدها أخرج من جيبه زجاجة صغيرة مملوءة بسائل أبيض وابتلع رشفة منه. حين اقترب من لوحة إعلان طرقية  كبيرة وقف إزاءها وراح يقرأ بصوت مسموع:
-بياض الثلج معجون لتبييض الرؤوس… بياض الثلج فعّال ويزيل أقوى البقع الثابتة والمتحركة.. بياض الثلج … ثم رفع زجاجته البيضاء في وجه أحد المارّة. وصرخ: هل تريد منظفاً قوياً يريح رأسك؟
استغربتْ الست بدور كلامي. وأجابتْ بأن هؤلاء المتشردين كثر، ومن الممكن أن نصادفهم في أي مكان، فلِمَ القلق والتوتر من شخص مثله؟!
قلتُ: خطر لي أن الرجل ليس مجنوناً، حسبتُهُ جاسوساً مندساً، أو رجلَ أمن متنكراً يلاحقني.
قاطعتني الست بدور: وماذا فعلتِ ليلاحقك رجل الأمن؟
ألا تذكرين تلك الروايةَ التي نشرتُها في المدينة المجاورة ؟ منذ ذلك الحين وأنا أحسّ عيوناً تلاحقني!
قالتْ: أظنك بحاجة إلى رحلة استجمام وراحة، لم لا تزوريني؟
****

كتبت الست بدور في دفتر يومياتها:
لمّا رأيت حال صديقتي على ما هو عليه، خشيت أن أحدّثَها عمّا لاقيته بعد خروجي من تلك المدينة خالية الوفاض. فبعد أن أصابني اليأس، من كل تلك الأبواب وحرّاسها الأشداء، اخترت طريقاً يقودني خارجها. وهناك سمعت صوتاً يناديني: يا ست بدور!
كان رجلاً مهيباً ذا لحية بيضاء كثةٍ، يكاد الضوء يشرق من وجهه. بدا متعباً وحزيناً حين اقتربت منه. أظنني عرفته، بلى إنه هو!
سألته: ها قد عدتَ أخيراً.. هل تقصد المدينة؟
قال وألمٌ يحزّ أوتار صوته: لقد غادرتُها منذ زمن طويل، وليس في نيتي العودة.

وما أتيتُ الآن إلا لأعيد لها هذا… وأشار بيده إلى كيس كبير
لم ينتظر سؤالي التالي. وقف على أعلى قمة تشرف على المدينة، فتح كيسه، ثم اختفى.
مازال الشاطر حسن مُقطّع الأوصال في كيس الحكاية.. وما زلتُ أبحث عن ماء الحياة.. وسرب من غمام ملون يحلّق فوق المدينة.

سوزان ابراهيم

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*