الشّاعر الفرنسيّ فيليب لوموان ل” مشارف” : لا تضاربَ بين الالتزام والغنائيّة ولا بين الكلاسيكيّة وروح العصر الحديث .

221611_182232048491862_7239723_n

الشّاعر الفرنسيّ فيليب لوموان

يثير شعرك سؤالين محوريين .ولنبدأ بأحدهما: يتوزع مجموع قصائدك على غرضين يلوحان متباعدين إن لم نقل متقابلين : الالتزام والغنائية .فإذا كانت بعض نصوصك الشعرية تُلحقك بالتيار النضالي الذي يتصدى بكل حزم إلى ما تعانيه البشرية من أدواء فإن قصائد أخرى لك تُظهرك على العكس منطويا على ذاتك ، هاربا من الواقع إلى الحلم والطبيعة .فهل من تفسير لديك لهذه الثنائية ؟

 
** الشاعر لا يعرف الحدود . وكل البشر عنده إخوة. لذلك لا يمكنه أن يقف موقف لا مبالاة إزاء الآلام التي يعانيها البشر وأمام الفظائع والمظالم المتواصلة منذ بدء الخليقة على الأرض .فأمام هذه الآلام و الفظائع والمظالم من واجبه أن يكون صوت العالَم ، صوتَ الضمائر، صوتَ الناس الذين يقاسون الألم ، صوتَ الحرية والأخوة والكرامة والاحترام المتبادل بين الأفراد وبين الشعوب ، هذا هو الواجب الملقى على عاتقه باعتباره شاعرا وباعتباره مواطنا من مواطني العالَم . فشعري الذي يوصف بأنه “ملتزم” هو، في الوقت ذاته، صرخة ثائر ورسالة تسامح وتعبير عن قيمي الإنسانية أتحمّل مسؤوليته .وهو يحمل الحلم بعالم تسوده العدالة والأخوة .ولكن ليتني لو لم أكن مضطرا إلى الكتابة في هذا الغرض. فلو حصل ذلك لكان معناه أن العالم صار أكثر عدلا وأضحى أفضل للجميع .
أما شعري الذي يُنعت ب” الغنائي” فلا هروب فيه من الواقع ولا انطواء على الذات.بل إني أعرّفه بأنه رؤية للروح وبأنه شعر حميمي يستمد معناه من البحث ، البحث عن ذاتي وعن العلاقة التي تربطني بالكون ، تلك التي تربط بين كل الموجودات .ولكنه أيضا بحث جمالي ( قال فرلان Verlaine : “الموسيقى قبل أي شيء آخر”) .وهكذا فإن الالتزام والغنائية لا يمنع وجود أحدهما وجود الآخر. فكل من هذين التعبيرين ومهما يكن الموضوع المطروق : الإنسانية ، الالتزام ، الحلم، الحب، الطبيعة … ما هو إلا وجه من وجوه حساسيتي.وبدلا من اعتبارهما متضاربين هما في الحقيقة متكاملان ، إذ تفصح عن الإنسان الذي هو أنا و عن رؤيتي للأشياء وانتمائي إلى العالم.

 

• يتعلق السؤال الثاني بأسلوبك في الكتابة الذي يمكن اعتباره كلاسيكيا خالصا.وهذا يلاحظ في مستوى الجمل التي غالبا ما تَبْنيها طبقا للقواعد التركيبية الصارمة وكذلك شأن طريقة تتاليها في السياق حيث تخضعها لقواعد الوصل والفصل المتعارفة … فليس في شعرك تلاعب بالألفاظ ولا تعترض القارئ فيه أي جملة مختزلة ولا جمل متتالية دون روابط لفظية أو معنوية . فكيف يمكن أن تتناغم مثل هذه الذائقة اللغوية الكلاسيكية مع الغنائية المشبوبة التي تؤُزُّ اللغة أزًّا ؟

 

** إن الكتابةَ التي يمارسها الشاعر والشكلَ الذي يختاره إنما هماشأن شخصي.ولا محلَّ مقدسَ عندي في الشعر.بل أحترم فيه كل ألوان التعبير.فما يعنيني هو المغزى والقوة الانفعالية وموسيقى الأبيات واحترام بنى الجمل.وذلك لأن الشعر هو جنس أدبي ذو خصوصيات محددة تجعل منه فنا مخصوصا، قائم الذات، قريبا بعض الشيء من فن الموسيقى . ولهذا لا يصح أن نقول ” كتب فلان الشعر” بل “نظمه”.وهذا الفن ، كما ذكر بودلار في دراسته المقتضبة للجمالية وقد ألفها سنة 1845، كثيرا ما يُبتذَل.ولاستحالة أن يكون المرء في الوقت نفسه خصما وحكما ليست مؤهلا لتقويم شعري .ومهما يمكن أن يقال في هذا الموضوع فأنا شديد الصرامة مع نفسي في هذا المجال : ومرد ذلك إلى احترامي لفن الشعر وللقارئ على نحو متعادل. فأنا أنظم الشعر منذ أكثر من أربعين عاما وكتبت في اللون الحرّ فترة طويلة ويحلو لي أحيانا أن أعود إلى الكتابة فيه .ثم انتقلت إلى كتابة الشعر الكلاسيكي منذ عشرين عاما ، لأني كنت، قبل ذلك، مكثرا إلى حد الإفراط ( كنت أكتب الشعر على امتداد اليوم ).فأحسست بالحاجة إلى أن أكون أشد صرامة مع نفسي .فوقعت في حب بحر الإسكندري ( يعادل في الشعر العربي بحر الطويل ) الذي عشقت موسيقاه وسيولته والإيقاعات التي يتيح للشاعر استخدامها .ولا أعدُّ هذا الانتقال عودةً إلى الوراء ولكن تطورا إيجابيا لا تضارب فيه مع العصر الذي أعيش فيه .نعم إن اللون الذي أنظم فيه شعري موغل في الكلاسيكية ( قصائد على بحر الإسكندري ، انقطاع، اختلاس الحركة e ، قوافٍ من النوع المسمى ” غنيّا” كلما كان ذلك ممكنا وهو الذي يقوم على تكرار عدة أصوات لا صوت واحد مثل : زبانية/علانية في العربية … هذا أتحمل مسؤوليتي فيه وأنادي به .ولكن يحدث لي أن أنظم أبياتا أستخدم فيها الفصل لا الوصل بين الجمل (حين لا يؤدي ذلك إلى تعطيل الفهم ) ، كما قد أمارس لعبة استخدام الجناس و تقطيع بحر الإسكندري بالزحافات والإكثار من التدوير ، باذلا أقصى جهدي في اجتناب القوافي التي يفرضها الوزن وتؤدي إلى الانحراف عن المعنى المقصود (ولا أخطر من قافية يفرضها الوزن دون المعنى ).أنا أخوض بحثا دائما عن موسيقى الألفاظ والإيقاعات والصور الاستعارية …واستعمالُ بحر الإسكندري لا يمنع الشاعر من أن يكون خصب الخيال ، ملتهب المشاعر، مبتكرا .فأساس الشعر يكمن خارج الشكل الذي ليس هو، كما قلت، سوى شأن شخصي . إنه يكمن في الدلالة وفي قوة الانفعال الذي يسري في العبارة الصادرة عن أعماق الشاعر، ذلك الانفعال الذي يتقاسمه مع القارئ أو المُشاهِد …أحاول إذن أن أجمع بين الشكل والمعنى والموسيقى والعبارات المبتكرة والإيقاعات والاستعارات …ولا شيء يمكن أن يضايق نسقي في القراءة حين ألقي شعري أمام الجمهور(ولا ننسى أن الموسيقى سابقة للإنشاد …).

 

• طبعا يرمي السؤالان السابقان إلى استثارة ردود فعلك أكثر من الإنصات إلى أجوبتك .وذلك لأنه إذا كانت التناقضات مرفوضة في الميدان العلمي فإنها يمكن أن تعتبر في الميدان الأدبي والفني علامة تفرّد …تلك الصفة اللازمة للخروج عن القطيع . على أن الالتزام الذي نراك ، في ما يبدو، تؤمن به كل الإيمان يشك الكثيرون اليوم في نجاعته ، بالنظر إلى أن الشاعر لا يصل صوته إلى جمهور واسع إلى حد كاف .فما رأيك في هذه القضية ؟

 
** يعاني الفن الشعري من عدة أفكار مسبّقة يتحمل مسؤوليتها أحيانا الشعراء أنفسهم ( من فرط كونهم يجعلون أنفسهم غير مفهومين ) .فللشعر جمهور أكثر مما نتصور، لأنه يوجد في كل مكان لا بطبيعة الحال في الغناء فحسب (انظر مثلا القصائد التي غناها المطرب فَرَّا Ferrat والمطربة بربرا Barabaraوغيرهما…) بل يوجد في تلك النظرة التي ييلقيها كل كائن على الأشياء.كثيرون هم الأشخاص الذين نعيش معهم جنبا إلى جنب شعراء لكنهم لا يعرفون ذلك لأن مفهومهم للشعر خاطئ . إن شعار مؤسسة “ألف شاعر بالبحر المتوسط” التي أتشرف بكوني رئيسها المؤسس هو : ” الشعراء ينغلقون على أنفسهم في أبراجهم العاجية …وليس هذا هو الشعر… إن كل إنسان يحمل في ذاته حساسية شعرية لا تتطلب إلا الكشف عنها وتحريرها من عقالها “.عدة شعراء غير مفهومين ومنغلقون على أنفسهم، بدلا من أن يراجعوا أفكارهم ومواقفهم أو يمضوا قدما نحو الجمهور. لأنه لم يعد ثمة شعراء ملاعين .فالشعر يكون له جمهور حين يتحدث إلى القارئ أو المُشاهد ، حين يكون مصدرا للانفعال والأحلام والوعي ..وتبليغ كل ذلك إلى المتلقي يحتاج إلى الكثير من العمل والمعاناة سواء في الكتابة أو في الإلقاء.وذلك لأن عملا إبداعيا ممتازا يمكن أن يلوح قليل الأهمية إذا كان إلقاؤه رديئا. قال ليو فرّي Léo Ferré في هذا المعنى : ” الشعر يستمد جنسه من عضوه الصوتي “. وبالإضافة إلى ذلك على الشاعر أن يذهب إلى الجمهور لا أن ينتظر قدومه إليه .وبعد كل ذلك ،ماذا يكون هذا العالم الملطخ بالكثير من وصمات الخزي والعار لو لم يوجد الشعر ؟

 
• يقودنا هذا إلى سؤال آخر أوثق صلة بالموضوع : لمَنْ يكتب الشاعر؟

 

لكل شاعر دون أدنى شك دوافعه .شخصيا أرى أن الشاعر، ككل فنان، ينشئ نصوصه للفن في حد ذاته .في شعري الذي يقال إنه ملتزم أسعى إلى تبليغ كلام أو رسالة ، إلى إيصال قيم إنسانية ، إلى إيقاظ بعض الضمائر … فللكلام المُبَلَّغ هنا الغلبة على الأثر الفني.أما في شعري الذي يوصف ب” الغنائي” فإني أحاول ملامسة لب المشاعر وروح الأشياء… إذ الخطاب هنا أشد حميمية والصوت فيه داخلي وجمالي .لذلك فللأثر الفني الغلبة على الكلام المُبَلَّغ.هل أكتب لإرضاء نفسي أم هل أكتب للآخر؟ الأمر يختلف باختلاف ما نقصده ب”الخطاب الشعري” .وهذا السؤال وثيق الصلة بالسؤال الأول. فالشعر الملتزم هو إذن كلام موجه إلى الآخر. ولكن الشعر الذي يوصف ب”الغنائي” فلئن كان موظفا في خدمة الفن فليس الغرض منه أن نحقق به رضانا الشخصي وإنما نتوجه به في المقام الأول إلى ذواتنا. وأما الرضى الشخصي الذي تتحدث عنه فإنه، في نظري، يكمن في التطور الذي يمكن أن يطرأ على شعري من جهة صياغة القصيدة، سواء من حيث منحاها أو دلالتها ، كما يكمن في العمل الذي قمت به إذا كان جيدا .لكن لا ننسى ضرورة ملازمة التواضع إزاء أعمالنا الشعرية ، لأن كل عمل مهما كان يبقى ناقصا، غير مكتمل .وإذا كان اللفظ الثاني في سؤالك هو الصحيح فمن هو هذا ” الآخر” الذي نكتب له؟ في الشعر المسمى ” ملتزما” هذا الآخر هو الذات التي تتألم والتي يجعل الشاعر يتخذ من صوته صوتا لها . وهذا الصوت ينهض شاهدا ، متمردا، مخاطبا المتسببين في المآسي التي يتخبط فيها العالم وكذلك أولئك اللا مبالين الذين لا تحرك فيهم أوضاع العالم المتردية ساكنا… إنه صوت الثورة . أما في الشعر الذي ينعت بأنه ” غنائي” ف”الآخر” قد يكون ذلك الجانب المجهول الذي نحمله في ذواتنا . ذلك أن هذا الشعر من حيث هو تعبير صادر عن القلب والروح يلامس الحميمي والحساس والجميل فينا .ولكن الشعر، كأي فن آخر، قد جُعِل للتقاسم مع أكبر عدد ممكن من المتلقين .لذلك فإن “الآخر” هو هو ، هو أنا،هو نحن ، هو انتم، هو أنت، هو هم …

 

• لنأت الآن إلى المشروع الكبير الذي تسهر على إنجازه منذ عدة سنوات وهو بيت الشعر بنربون ( فرنسا) الذي تضطلع بادرته .فبكل صراحة هل حققت هذه المؤسسة كل الأهداف التي حددتموها لها؟

 
** هذه المؤسسة هي عمل طويل النفس لأن نشر الفن الشعري معركة .ولن نحقق أبدا كل الأهداف التي حددناها لها، لأننا كلما حققنا هدفا حددنا هدفا جديدا. وحتى إن بقيت هناك أهداف كثيرة ينبغي أن نحققها فإن ما أنجزناه هو، في تقديري، مَرْضيّ .ففي كل سنة ينضاف إلينا عدة منخرطين جدد يدفعون اشتراكاتهم .ومن هؤلاء من كانت لهم أفكار مسبقة عن الشعر ، كما أننا استدعينا إلى حد الآن ثلاثين شاعرا وكاتبا ونشرنا بين ثمانية وعشرة كتب. ويتردد على البيت جمهور متزايد العدد، إلى جانب إمضائنا اتفاقيات شراكة مع مدينة نربون ومع مجموعة التجمع السكاني لنربون الكبرى …وأحدثنا مكتبة سمعية بصرية وحلقة للأكستون ….و ننظم ، فضلا عن ذلك، مسابقة شعرية منتظمة وتظاهرات متنوعة (منها 24 ساعة من الشعر-يوم التراث …).وعلى الرغم من أننا انطلقنا من الصفر، إذ لم نكن في البداية سوى شخصين، ولم نتلق إعانات مالية مهمة فقد احتللنا مكاننا عن جدارة واعتُرِف بنا طرفا فاعلا في المشهد الثقافي بالمنطقة التي نوجد فيها .وعلى الرغم أيضا من أننا صرفنا كثيرا من المال في اقتناء الأجهزة الصوتية وغيرها فإن حساباتنا متوازنة وهيكلنا مستمر الوجود . إن الطريق لا تزال طويلة .لكننا سنجتاز المنحدرات خطوة خطوة .

 

• متى ينفتح بيت الشّعر بنوربون على الشعر العالمي ؟

 

** إن جمعية “ألف شاعر بالبحر المتوسط” هي بطبيعة الحال جمعية متجهة إلى العالم وبابها مفتوح في وجه كل من يقصدها .ولكن لكي ننتشر في مناطق أخرى ينبغي أن نعثر على محطات وشعراء وعشاق للشعر متفانين في خدمته يعملون من أجل بناء هذا الصرح المشترك المسمى شعرا .لكن لمّا لم يكن ثمة شيء مستحيل للشاعر فبإمكاننا أن نحلم .وحين يحين الوقت المناسب …سنحقق هذا الحلم …

أجرت الحوار : فاتن الفخفاج

 

من هو فيليب لوموان؟
ولد فيليب لوموان في3 أكتوبر/ 1954بباريس .ويقيم بنوربون ( فرنسا).يرأس جمعية ألف – شاعر بالمتوسّط”. مدير مؤسّس لبيت الشّعر بنوربون . شعره يستعصي بعض الشيء على التّصنيف .وهو يستمدّ هذه الفَرَادة من طبيعته الثّلاثيّة ، إذ هو في الآن نفسه غنائيّ وملتزم وكلاسيكيّ جديد . فالغنائيّة والالتزام ينزّلانه في إطار الشّعر الرّومنسيّ الألمانيّ والعربيّ الذي كان ينادى بتحدّي الموت و التّعلّق القويّ الثّابت بالحياة .أمّا الكلاسيكيّة الجديدة فتتجسّد على صعيد الأسلوب في ضرب من المزاج المختلط يجمع بين الانضباط لقواعد اللّغة والعروض والنّزوع القويّ إلى تجديد الصّور.

مجاميعه الشّعريّة : غبار من الأكسيجين – غلبتني الزّوبعة – ما لا يُعَدُّ – متمرّد شعريّا – الموافقات – في خمر الحقيقة – أنفاس من الحبر – بوح حميميّ – وأتحدث للعصافير …

 

388573_3003667388000_1105996183_n

في بيت الشعر ببنربون(فرنسا).

37613_1159487364652_7930947_n

يلقي شعره بمدينة سوسة ( تونس) سنة 2010.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*