شهادتي على موقع عزّ الدّين المدني من حركة”الطّليعة”الأدبيّة التّونسيّة في ندوة تكريمه بدار سيباستيان بالحمّامات يوم السبت 21 نوفمبر2020: محمّد صالح بن عمر

عزّ الدّين المدني

سبق أن شاركتُ في حفلين تكريميّين لعز الدّين المدني أشرف على تنظيمهما الباحث محمّد المي : الأوّل  انتظم يوم الجمعة 3 ماي 2006 بمقر وزارة الثّقافة بمناسبة حصوله على جائزة سلطان العويس لسنة 2005 وقدّمت فيه مداخلة عن تجربته السّرديّة بعنوان”عز الدّين المدني كاتبا سرديّا” اعتمدت فيها العناوين الثّلاثة  التي  أصدرها في هذا اللّون من الكتابة. وهي مجموعتاه القصصيّتان خُرافات (1)ومن حكايات هذا الزّمان (2) وروايته اليتيمة العدوان(3)،  في حين قدّم المخرج المسرحيّ محمّد المديوني  فكرة عن تجربته المسرحيّة ورأس الجلسة الوزير الأسبق محمّد العزيز ابن عاشور.والدّراسة التي أعددتُها بتلك المناسبة نشرتها كاملة ضمن كتابي إطلالات على المشهد الحكائيّ في تونس (4).

أمّا الحفل الثاني فقد التأم سنة  2008 بمقرّ المكتبة الوطنيّة بالعاصمة ودعيتُ إلى المشاركة فيه بتقديم شهادة شفويّة على  دور عزالدّين المدني في حركة الطّليعة الأدبيّة (ديسمبر 1968 – ديسمبر 1972). ولمّا كانت شفويّة ومرتجلة فلم يبق منها ولا من الشّهادات الأخرى التي أدلى بها غيري في تلك المناسبة ولا من ردود المحتفى به عليها أيّ أثر.

وفي هذا الحفل الثّالث الذي ينتظم  اليوم أيضا بمبادرة من محمّد المي وإشرافه طلب منّي أن أعيد تقديم تلك الشّهادة نفسها لكنّ كتابيّا هذه المرّة  حتّى  توثّق بضمّها إلى  كتاب النّدوة ، مع ربطها بأحد موضوعات السّاعة في السّاحة الثّقافيّة. و هو إنكار بعضهم  في نصوص منشورة أن يكون عزّ الدّين المدني  أسّس حركة الطّليعة أو تزعّمها مقابل نسبتهم ذلك التّأسيس وتلك الزّعامة إلى غيره والحال أنّ كلّ الأدباء والصحفيّين الثّقافيّين الذين واكبوا ما نُشِر من أدب تونسيّ في النّصف الثّاني من ستّينات القرن الماضي والنّصف الأوّل من السّبعينات  يجمع الأحياء منهم اليوم  إجماعا تامّا لا خلاف فيه على أنّ حركة الطّليعة  انبثقت من الضّجّة الضّخمة  التي أثارتها قصّة “الإنسان الصّفر” لعز الدّين المدني  في الصّحافة التّونسيّة و في المجتمع على إثر صدورها في عدد شهر ديسمبر من سنة 1968.وقد ردّ صاحب تلك القصّة على خصومه إذّ ذاك  بسلسلة من المقالات والبيانات جمعها في ما بعد هي وغيرها في كتاب صدر سنة  1972 عن الشّركة التّونسيّة للتّوزيع عنوانه في الأدب التّجريبيّ غدا دستورا لحركة الطّليعة ومرجعا رئيسا لخلفيّاتها الفكريّة والفنّيّة .وقد تحلّقت حول عزّ الدّين المدني في أثناء تلك الضّجّة وبعدها طيلة أربع سنوات مجموعة من الكتّاب والشّعراء الشّبّان تجاوبوا مع بياناته وتبنّوا أطروحاته باتّخاذ التّجريب أسلوبا في الكتابة .فوُصِفوا ب”التّجريبيّين” ثمّ بداية من سنة 1970 ب”الطّلائعيّين” .وقد ضبطتٌ شخصيّا  فيهم قائمة اشتملت على ستّة وعشرين كاتبا سرديّا وشاعرا وناقدا(5).

لكنْ قبل الخوض في هذا الموضوع ،لا بدّ من توضيح بعض المفاهيم التي التبست دلالاتها  في أذهان الكثيرين ، منهم بعض الطّلائعيّين وفي مقدّمتها مفهوما  “التّجريب” و”الطّليعة”.

عزّ الدّين المدني بين التّجريب والطّليعة :

يقول الطّاهر الهمّامي في الرّسالة التي أعدّها لنيل شهادة التعمّق في البحث ووسمها بحركة الطّليعة الأدبيّة في تونس (1968 – 1972)(6) :”تكون بداية الوعي “للطّليعة الأدبيّة”في ديسمبر 1968التي شهدت صدور أوّل نصّ تجريبيّ بصريح العبارة “ويقصد به قصّة “الإنسان الصّفر”(7).

فقد ربط صاحب هذا القول ربطا وثيقا بين التّجريب والطّليعة،  إذ جعل حدث صدور أوّل نصّ تجريبيّ في تونس هو في الوقت نفسه حدث  ظهور حركة “الطّليعة”.ومعناه أنّ تاريخ الطّليعة وتاريخ التّجريب واحد.

لكنّ المرحوم لم يكن يعلم ، حسب ما نرى، أنّ قصّة”الإنسان الصّفر” نُشرت قبل ذلك التّاريخ بسنة وإن في صيغة مختلفة بعض الشّيء. وذلك في عدد شهر مارس من مجّلة “قصص”.فلو كان على علم بذلك فهل كان يُرجع ظهور الطّليعة إلى شهر مارس من سنة 2007 ؟

هذا ما نتصوّره ما دام قد ربط بين الحدثين ، لأنّ القصّاص أحمد ممّو أيضا  بعد مشاركته مشكورا في النّدوة التّكريميّة  التي نُظّمت لي بمدينة الثّقافة يوم السّبت 18 جوان من السّنة الجارية نشر تدوينة في حسابه على الفايسبوك ذكر فيها أنّ  الطّليعة في تونس لم تظهر في شهر ديسمبر من  سنة 1968بصدور  قصّة “الإنسان الصّفر” لعزّ الدّين المدني  بمجلّة”الفكر” بل في سنة 1967 بمجلّة “قصص” حيث نشرت لأوّل  مرّة  بعض الأقاصيص  التّجريبيّة منها قصّة “الإنسان الصّفر” نفسها لكن في صيغة مختلفة عن الصّيغة التي نشرت بها في مجلّة”الفكر”.فربط مثل الطّاهر الهمّامي بين ظهور التّجريب وظهور الطّليعة وعدّهما حدثا واحدا(8).

لكنّ في كلام المرحوم الطّاهر الهمّامي والقصّاص أحمد ممّو خلطا  واضحا بين “التّجريب” الذي هو أسلوب في الكتابة  – ومعناه” الكتابة على غير منوال” –  و”الطّليعة” التي هي حركة أدبيّة .ولفظ “الحركة” في اللّغة العربيّة المعاصرة اتُّخذ مقابلا  للمصطلح الفرنسيّ (mouvement ) الذي معناه، حسب ما جاء في الموسوعة الكونيّة “مجموعة أشخاص منظّمة لغاية محدّدة نحو: حركة فوضويّة”(9).

وهكذا فحتّى إن ظهر التّجريب الأدبيّ في تونس قبل نشر قصّة”الإنسان الصّفر” بمجلّة”الفكر” في ديسمبر 1968فلا يعني ذلك أنّه ظهرت بظهوره حركة أدبيّة ما دامت لم تتشكّل مجموعة من الأدباء تدعو إلى استخدام التّجريب.

وممّا يلفت الانتباه  في هذا الصّدد أنّ المرحوم الطّاهر الهمّامي لم يذكر حتّى مجرّد الذّكر أوّل كتاب تجريبيّ ظهر في تونس بل في العالم العربيّ بأسره. وهو مجموعة عزّ الدّين المدني القصصيّة خرافات التي صدرت في شهر أوت من سنة 1968 أي قبل أربعة أشهر من صدور”الإنسان الصّفر” بمجلّة “الفكر”، جاعلا أوّل كتاب تجريبيّ هو مجموعة صالح القرمادي الشّعريّة اللّحمة الحيّة التي صدرت سنة 1970(10).

ألم يسمع المرحوم بمجموعة “خرافات” القصصيّة أم سمع بها ولم يطّلع عليها؟ لا أظنّ ذلك، لأنّه  ذكر في رسالته الجامعيّة تلك ثلاث دراسات لي كتبتها عن خرافات  ونُشرت في الملحق الثّقافيّ لجريدة”العمل” وهي : “”مدينة النّحاس” أو نقطة بين لانهايّتين” (الملحق الثّقافي 21/1/ 1970  ص5)و”الواقع التّونسيّ من خلال قصّة “استعداد للرّحيل” لعزّ الدّين المدني(الملحق الثّقافيّ 1/4/70 ص10)و”المدني والنّقد  و”اختلاس”” (الملحق الثّقافيّ 4/9/70 ص 7) وقد ركّزتُ اهتمامي في هذه الدّراسات على الجانب التّجريبيّ في  هذه القصص.

ومن ناحية أخرى ليس صحيحا ما أورده أحمد ممّو في تدوينته من أنّ “التّجريب “ظهر في تونس لأوّل مرّة بمجلّة”قصص” سنة 1967.فصاحب هذا القول ،في ما هو جليّ، لا يعلم بوجود مجلّة أدبيّة صدرت في تونس بين سنتي 1962 و1964-  وكان مقرّها بالخلدونيّة اسمها “لُغَات” – وقد رأس تحريرها عزُّ الدّين المدني ونشر فيها نصوصا تجريبيّة ، كما أنّه لم يطلع على مقال صدر للكاتب نفسه سنة 1975 بجريدة”الهدف” (11) أشار فيه إلى أنّه نشر نصوصا تجريبيّة بالصّفحات الثّقافيّة لجريدة”العمل”  في سنتي 1958 و 1959.وإنّي لأذكر في هذا الصّدد  أنّ عزّ الدين المدني التمس منّي في سنة 2010 أن أبحث له عن تلك النّصوص،إلاّ أن” شواغلي المكثّفة على الدّوام  حالت دون ذلك .ويمكن لمحمّد المي مثلا الذي يًعنى بالتّوثيق للأدب التّونسيّ أن يقوم بذلك اليوم.

وفي ما يخصّ قصّة”الإنسان الصّفر” ذكر لي عزّ الدّين المدني منذ عدّة سنوات أنّه كتبها لأوّل مرّة سنة 1964لكنّه لم ينشرها لأنّها بدت له إذّ ذاك غير مكتملة و في حاجة إلى المزيد من التّجويد، إلاّ أنّه ذكر لي شاهد عيان على ما قال كان قد  أطلعه عليها فور كتابتها.وهو رفيق دراسته القصّاص محمود بلعيد حين كان يدرس معه بمعهد كارنو قبل أن يسافر إلى فرنسا لمتابعته دراسته في الطّب .وهنا ألتمس من الباحث محمّد المي أيضا أن يجري حوارا مع محمود بلعيد في هذا الموضوع أو أن يطلب منه شهادة كتابيّة وينشرها حتّى يتوفّرمرجع موضوعيّ يمكن  للباحثين المهتمّين بتاريخ حركة الطّليعة التّونسيّةاعتماده.

ومهما يكن التّاريخ الصّحيح لشروع عزّ الدّين المدني  في مراس التّجريب (في أواخر الخمسينات أو في بداية السّتّينات) فإنّ ريادته في هذا الميدان ثابتة لاريب فيها، لا  تونسيّا فحسب بل عربيّا ،إذ اتّفق النّقّاد المشارقة على أنّ دخول التّجريب الأدب السّرديّ  عندهم  كان في سنة 1969 وهو  تاريخ صدور  المجموعة القصصيّة الأولى  لجمال الغيطاني  الموسومة  بأوراق شابّ عاش منذ ألف عام(12) التي  نشرها سنة 1969 وضمّت خمس قصص  استلهمها  مؤلّفها من التّراث العربيّ الإسلاميّ وحمّلها دلالات ذات صلة بالواقع المصريّ المعاصر الذي نشأ إذ ذاك عن هزيمة العرب في حرب الأيّام السّتّة ، مع الإشارة إلى أن دخول الغيطاني السّاحة الثّقافيّة قصّاصا حُدِّدَ بتلك السنة 1969 .وهو النّهج نفسه الذي سلكه عزّ الدّين المدني في  جلّ نصوص مجموعته خرافات لكنّ المدني كان السّابق إلى انتهاجه لأنّ القصص التي تتضمنها هذه المجموعة نشرت بين سنتي 1966 و1968.

وهكذ يتّضح لنا أنّ التّجريب شيء والطّليعة شيء آخر وأنّه سبق ظهورها بعدّة سنوات وأنّ لعزّ الدّين المدني ريادة ثابتة  في هذا المجال وأنّه هو الذي أسّس حركة “الطّليعة” بنشره لقصّة”الإنسان الصّفر” في ديسمبر 1968 من مجلّة”الفكر.

لكن هل كانت ريادة عزّ الدّين المدني في التّجريب  تونسيّة وعربيّة فقط؟

في  صائفة 1971 ،من آخر جوان إلى بداية أكتوبر، أقمت في فرنسا بين مدينتي قرينوبل وباريس. وقد أدّيت بتلك المناسبة زيارة إلى مقرّ مجلّة”تال كال” بباريس بطلب من المرحوم حسين الواد.ولقيت مديرها الكاتب والرّوائيّ فيليب صولارس (Philippe Sollers ).فوجدته قد سمع بوجود طليعة أدبيّة في تونس بعد اطّلاعه على مقال نشره جان فونتان بجريدة “لوموند”  في ماي 1971 ذكر فيه أبرز أسس الحركة وجلّ أعضائها وسلّمتُه  نسخة من قصّة “الإنسان الصّفر”مترجمة إلى الفرنسيّة وقدّمت لك فكرة عن طريقة عزّ الدّين المدني في التّجريب وخاصّة  إعادة كتابته الحكايات الشّعبيّة والتَراثيّة العربيّة باستخدام أحدث الأدوات القصصيّة. فقال لي إنّ هذه المحاولات لا طائل من ورائها، لأنّ الأشكال الأدبيّة القديمة أدّت دورها  نهائيّا. أمّا نحن في مجموعة “تال كال” فإنّنا  ننظر إلى المستقبل لا إلى الماضي. والمستقبل يكمن في إفادة الأدب سردا وشعرا من اللّسانيات والسّيميائيات.وكان صولارس في ذلك الوقت يكتب نوعا جديدا من الرّواية يسمّيه “الرّولية اللّسانيّة ” ويدعو إلى ” إلى نقل  الأدب من الاجتماعيّات وعلم النّفس وبوجه خاصّ من الفلسفة، إلى اللّسانيّات والسّيميائيّات ، باعتماد مبدإ من مبادئ البنيويّة الرّئيسة. وهو “اكتفاء  النّصّ بذاته”…  و إلى ”التّخلّي عن جميع ألوان التّبرير التي تُمارس على الأدب من خارجه”(13)، ملتقيا في ذلك بفرضيّة رولان بارت( Roland Barthes   1915 –   1980)   الشّهيرة القائلة ب”موت المؤلّف”(14) التي أعلن عنها في السّنة نفسها.

وهكذا فإنّ التّجريب عند صولارس وجماعة “تال كال” كان يتجسّد عمليّا في إنتاج نصوص  مفرغة من أيّ مضمون اجتماعيّ أو نفسيّ أو فكريّ فتكون مغلقة على ذاتها وتُفهم من خلال العلاقات القائمة بين وحداتها اللّغويّة.وهذا الضّرب من التّجريب يختلف اختلافا جذريّا عن التّجريب عند المدني الذي ينطلق إمّا من التّراث العربيّ أو الشّعبيّ وإمّا مباشرة من الواقع المعيش فيحمّله في كلتا الحالتين أبعادا اجتماعيّة ونفسيّة وفكريّة .

ولعلّ اختيارعزّ الدّين المدني الحكاية الشّعبيّة أو العربيّة التّراثيّة  نابع من اعتقاده أنّها أقدر من الأقصوصة الغربيّة على تصوير  واقع المجتمع العربيّ في العصر الحديث .وذلك إذا أخذنا في الاعتبار أنّ العرب في وضعهم الحاليّ لا يصنعون تاريخهم بأنفسهم ولا يتحكّمون في مصائرهم وإنّما رَكْبُهُمْ أشبهُ ما يكون بسفينة تتقاذفها الأمواج فتسلك رغما عنها طرقا ملتوية كثيرة الانعطافات والانزلاقات. وهو ما لا يتهيّأ للأقصوصة أن تصوّره لأنّ الأحداث فيها تسير في خطّ مستقيم تصاعديّ يُتوَّج بخاتمة مباغتة كما بيّن ذلك الشّكلانيّون الرّوس.فالتّاريخ العربيّ  المعاصر في صيرورته الحاليّة لا يسمح بكتابة الأقصوصة  طبقا لمواصفاتها في الأدب الغربيّ وإنّما الأنسب هو الحكاية التّراثيّة لأنّه لا يعدو أن يكون تكرارا للتّاريخ العربيّ القديم “( 15)

أمّا القِصص التي يصوّر فيها الواقع مباشرة فكثيرا ما يؤصّلها على نحو أو آخر في التّراث .من ذلك قصّة”الإنسان الصّفر” التي جعل بطلها مثقّفا تونسيّا معاصرا سماته العامّة هي سمات مثقّفي عصره “مفردا في صيغة الجمع”(أنا وأنت وهو ) يبحث عبر الخطاب الدّينيّ والسّياسيّ السّائدين عن منزلته الحقيقيّة في هذا الوجود .وهو ما أتاح للكاتب فرصة تأصيل هذه القصّة في التّراث العربيّ الإسلاميّ بتكثيف التّناصّ مع النّصوص الدّينيّة ووسم اللّغة وسما عميقا بطابع تراثيّ  حتّى لكأنّ عزّ الدين المدني يريد أن يوحي بأنّ ماضي العرب مستمرّ في حاضرهم وبأنّ ثقل هذا الماضي يمنعهم من هضم الحداثة، فضلا عن المشاركة في إنتاجها .

كلّ هذا يؤكّد ما قلناه آنفا من أنّ التّجريب عند عزّالدين المدني لا صلة له البتّة بالتّجريب عند جماعة”تال كال”.

وأمّا جناح الطّليعة الفرنسيّة الثّاني وهو جماعة”شونج” التي كان يتزّعمها جان بيار فاي بعد انشقاقهم عن “تال كال” فكانت لا تمارس التّجريب على الإطلاق.فبعد لقائي مع صولارس توجّهت من الغد إلى مكتب مجلّة”شونج” حيث لقيت جان بيار فاي( Jean-Pierre Faye ) وحدّثته عن  مقولات الطّليعة التّونسيّة ومفهومها للتّجريب فقال لي إنّ الطّريق التي اخترتموها خاطئة لأنّ الأشكال التّراثيّة لا تحتاج إلى تطوير وإنّما هي قادرة على التّعبير عن معطيات الحياة في هذا العصر،  مستشهدا بالزّعيم الصّينيّ ماو تسي تونغ   – وقد كان جماعة “شونج” على مذهبه – الذي  كان يكتب شعره على بحور ترجع إلى  أكثر من ثلاثة آلاف سنة ومع ذلك يجد رواجا واسعا في بلاده ،  معتبرا أنّ الأساس في الأثر الأدبيّ هو المضمون الفكريّ والاجتماعيّ والنّفسيّ والموقف من الواقع لا الشّكل .وهذا هو الذي جعله وجماعته ينشقون عن جماعة”تال كال”  ويدعون إلى إحياء  مذهب الالتزام الذي أسّسه جان بول سارتر.

وهذا الرّأي الرّافض لمبدإ التّجريب  كاف وحده لجعل عزّ الدين المدني بعيدا كلّ البعد عن تلك الجماعة .

عزّ الدّين المدني وزعامة حركة “الطّليعة” :

اتّفقنا عندئذ ولا خلاف بيننا البتّة على أنّ عزّ الدين المدني هو رائد التّجريب الأدبيّ تونسيّا وعربيّا إمّا بداية من سنة 1964 – وهذا ثابت – وإمّا من سنة 1958 بعد التّثبّت من مدى وجود نصوص تجريبيّة له منشورة في الصّفحات الثّقافيّة لجريدة”العمل” في تلك السّنة أو في السّنة التي تليها.

بقي لنا الآن أن ننظر في موضوع آخر مهمّ آخر. وهو زعامة عزّ الدّين المدني لحركة”الطّليعة” لأنّ تأسيس حركة لا يعني بالضّرورة تزعُّمَها .من ذلك أنّ الكاتبة الفرنسيّة جرمان دي ستايل كانت أوّل  من أدخل الرّومنسيّة  إلى فرنسا إلاّ أنّها لم تتزعّم  أيّا من الرّومنسيّين الكبار الذين جاؤوا من بعدها وأوّلهم شاتوبران الذي كانت بينه وبينها مشاحنة فكريّة حادّة لتبيّنها مبادئ الثّورة الفرنسيّة وتمسّك شاتوبريان بالنّظام الملكيّ الذي أطاحت به تلك الثّورة، في حين كان  الرّومنسيّون اللاّحقون أصغر منها سنّا .فكانت جرمان دي ستايل عندئذ مؤسّسة للرّومنسيّة لا زعيمة لها.

أمّا عزّ الدين المدني فحين أسّس حركة “الطّليعة” على إثر الضّجة الضّخمة التي أثارتها قصّته “الإنسان الصّفر” فكان  يُنْظَرُ إليه من الشّباب الذي تحلّق حوله وآمن برسالته الأدبيّة على أنّه بطل يناضل في سبيل التّجديد ويتعرّض بسبب جرأة أفكاره  إلى الاعتداء اللّفظيّ وتلفيق التّهم الكاذبة والتّهديد ثمّ كان لهذا الزّعيم الصّاعد مذهب واضح  متماسك ينظِّرُ له و يدعو إليه. فكان ولاؤهم له تامّا.ولقد أسهمت في ترسيخ هذا الشّعور لديهم  بعض العرائض لم يُعرَض التّوقيع عليهما إلاّ على الآخذين بالتّجريب والمدافعين عنه. وهكذا نشأت حركةٌ تامّة الشّروط لها قائد أو زعيم وأتباع متحلّقون به .

لكن كيف كانت علاقة  أعضاء هذه الحركة وقائدهم ؟

الولاء الأدبيّ والفكريّ:

كان كلّ الطلائعيّين مؤمنين بأنّ الأشكال الكلاسيكيّة متخلّفة عن العصر وغير قادرة على تمكين الكاتب أو الشّاعر من التّعبير الرّاقي  عن واقعه  في العصر الحديث ، كما كانوا يتعلّقون شديد التّعلّق بفكرة تجذير الأدب الذي يكتبونه في البيئة التّونسيّة، عملا بالمقولة التي تمسّك بها  محمّد البشروش في الثّلاثينات. وهي “أدب تونسيّ لا شرقيّ لا غربيّ”.ولقد كان عزّ الدَين المدني يدعو أعضاء حركته  إلى الاطّلاع على كلّ المذاهب والاتّجاهات الأدبيّة والفكريّة في العالم شرقا وغربا  لكن حين  يكتبون مقالاتهم وبياتهم  وخواطرهم أو يدلون  بتصريحات إلى وسائل الإعلام لا يعتمدون  إلاّ مصادر الفكر التّونسيّ النّيّر. والمقصود بها  كتابات أبي القاسم الشّابّي والطّاهر الحدّاد ومحمّد البشروش ومحمّد الحليوي ومحمود المسعدي ومحمد فريد غازي والشّاذلي القليبي ومحمّد مزالي والحبيب أبوالأعراس ومن لفّ لفهم .

لذلك  لم تكن “الطّليعة” بزعامة عزّ الدين المدني تيّارا أدبيّا فقط بل في الوقت نفسه  اتّجاها  فكريا يقدّم نفسه بديلا إلى جانب التّيّارات الأخرى .لكن توقّف الحركة السّريع حال دون استمرار ذلك الاتّجاه أو تأثيره في الواقع.

التّعامل النّقديّ بين الزّعيم ومريديه:

على الرّغم من ولاء الطّليعيّين التّامّ لمؤسّس الحركة وزعيمها فإنّ نفوذه عليهم كان معنويّا بحتا .ذلك أنّ خلافات عميقة شقّت الحركة ولم يتّخذ الزّعيم أيّ قرار للحسم فيها، مكتفيا باتّخاذ موقف شخصيّ منها دون فرضه على أتباعه .ولعلّ أحسن مثال على ذلك قضيّة الشّعر غير الموزون الذي سمّي “غير العموديّ والحرّ” والذي  بدأت مجلّة”الفكر” تنشره منذ شهر جانفي من سنة 1969وسمّته بهذا الاسم بداية من شهرماي من السّنة نفسها.فعزّالدّين المدني لم يعتبره منذ ظهوره ولا يزال شعرا بل نثرا فنّيّا تُستخدم فيه بعض أساليب البديع التّراثيّة لإحداث الإيقاع وخاصّة منها  السّجع والجناس والتّناسب التّركيبيّ والموازنة ومراعاة النظير وما شاكلها. لهذا لم يعترف مثلا بفضيلة الشّابّي والطّاهر الهمّامي حتّى اليوم شاعرين. لكنّ نقّاد الطّليعة وهم العبد الفقير إلى ربّه والمرحومان الهادي بوحوش وحسين الواد وأحمد حاذق العرف أطال الله عمره عددناه شعرا بل لونا تونسيّا مُسْتَحْدَثا من الشّعر على غرار الموشّح الذي ابتدعه الأندلسيّون وأضافوه إلى ألوان الشّعر العربيّ الأخرى  وفي سياق مماثل لم يعترف عزّالدين المدني  بإبراهيم بن مراد قصّاصا تجريبيّا لأنّ التّجريب في نظر المدني رؤية  شاملة  لا مجرّد تقنية .ذلك أنّ ابن مراد نشر في مجلّة “الفكر”قصصا تجريبيّة وفي الوقت نفسه دراسات نقديّة  مدحيّة لشعر اء كلاسيكيّين منها دراسة عنوانها”جعفر ماجد والشّاعريّة الحقّ ” وكان جعفر ماجد في ذلك الوقت من  أبرز خصوم “الطّليعة” .لكنّي والهادي بوحوش أعدّ كلّ منّا دراسة عن قصص إبراهيم بن مراد ونشرناهما(16) ففرضناه  ضمن قصّاصي الحركة .

وهكذا فزعامة عزّ الدّين المدني  لم تكن هيمنة ديكتاتوريّة بل كانت قائمة على الجدل والنّقاش وكثيرا ما كنت ألتقي وإيّاه بمقهى “الشّيلّينق “أو مقهى “علي ورق” بالعاصمة أو نجوب شارع باريس وشارع فرحات حشّاد جيئة وذهابا طيلة أكثر من ساعة لننسّق بين مواقفه ومواقف الأعضاء  وخاصّة عند  نشوب خلافات بينهم .

الخاتمة :

لعلَ أهمّ  ما أخرج به من هذه الشّهادة أنّه كانت لعزّ الدّين المدني الرّيادة مطلقا تونسيّا وعربيّا في مراس التّجريب وأنّ التّجريب الذي مارسه لا شبه بينه وبين التّجريب الذي  مارسه روّاد الرّواية الجديدة الفرنسيّة أو مجموعة “تال كال” إحدى فرعي الطّليعة الفرنسيّة.

أمّا في ما يخصّ حركة “الطّليعة ” فلا خلاف البتّة بين كلّ الذين واكبوا الإنتاج الأدبيّ التّونسيّ في نهاية السّتّينات وبداية السّبعينات في أنّ عزّ الدّين المدني هو الذي أسّسها بنشره قصّته”الإنسان الصّفر” فيمجلّة”الفكر” في ديسمبر 1968.

وأمّا في ما يتعلّق بنوعيّة الزّعامة التي مارسها على  حركة”الطّليعة” فكانت زعامة فكريّة وفنّيّة لكنّها كانت قائمة على الجدل والتّعامل النّقدي المتبادل لا على الهيمنة والتّسلّط.

الهوامش :

1- عزالدين المدني، خرافات،الدّار للنّشر، تونس 1968.

2- عزّ الدّين المدني، من حكايات هذا الزّمان، دار الجنوب،تونس 1982.

3- عزّ الدّين المدني، العدوان،الدار التونسية للنشر، تونس1988.

4- محمّد صالح بن عمر، إطلالات على المشهد الحكائيّ في تونس، دار إشراق ، تونس2007 ص ص 83 – 90.

5- محمّد صالح بن عمر، فمن هم الكتّاب والشّعراء الذين كانت تضمّهم حركة الطّليعة الأدبيّة؟www.masharif.com  بتاريح17/10/2020

6- الطاهر الهمامي،حركة الطليعة الأدبية بتونس (1968-1972)،كلية الآداب بمنوبة ودار سحر ، تونس 1994.

7- المصدر نفسه ص 5.

8- يقول أحمد ممّو في هذاالصدد:” من باب التوضيح حول الطليعة والتأريخ لبداياتها والتي يعتبرها البعض مقترنة بنشر عز الدين المدني لقصّته “الإنسان الصفر”، أرغب في التذكير ببعض الشواهد التاريخية التي عايشها أعضاء “نادي القصة” وكنت من بينهم في سنة 1967. وبالرجوع إلى مسرد مجلة “قصص”، يمكن أن نلاحظ أنّ سنة 1967 كانت منطلق زخم كتابات الطليعة الأدبية في مجال القصة التي تبلورت بشكل أفضل في السنوات الموالية (1968-1973) مع أسماء سمير العيادي ومحمود التونسي وعز الدين المدني وأحمد ممّو ورضوان الكوني وإبراهيم الأسود وإبراهيم بن مراد.”.(مدونة على الفاسبوك)

9- انظر تعريف لفظ mouvement في الموسوعة العالمية Encyclopædia Universalis

10- الطاهر الهمامي،حركة الطليعة الأدبية بتونس (1968-1972) ،ص 26.

11- عزّ الدّين المدني،”آمل كلّ الأمل أن تكتب دائما”، جريدة “الهدف”1/12/1975 ص 3.

12- انظر فصل”جمال الغيطاني” في موسوعة ويكيبيديا.

13-

 Tel Quel », Théorie d’ensemble, Seuil, Paris 1968 p 392

14-

 Barthes(Roland), La mort de l’auteur, publié dans la revue Manteia no. 5, 4e trimestre, Marseilles  1968, pp 12-17.

15- انظر: محمّد صالح بن عمر: إطلالات على المشهد اللحكائيّ في تونس ص 87.

16- انظر:

  • محمّد صالح بن عمر، “فن القصة عند ابراهيم بن مراد”، مجلة”الفكر”، السنة 15،العدد3 ديسمبر 1969 ص 92.
  • الهادي بوحوش، ” أشواك زهرة الميموزا”، ملحق “العمل” الثقافي 28/11/1969 ص9.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*