العشيرة والعشائريّة وجهان مختلفان : جوتيار تمر – كوردستان – العراق

جوتيار تمر


تحتل العشيرة مكانة بارزة في المجتمعات لاسيما الشرقية، بحيث أصبحت كما يراها البعض هي إحدى أهم الإشكاليات التي تمر بها بلدان المنطقة، لاسيما من حيث نفوذها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الديني المذهبي، ناهيك عن المجالات الاخرى كالعسكرية التي تحولت هي الأخرى إلى مؤسسات عشائرية تمدها العشيرة نفسها بالكثير من الإمدادات البشرية والمادية، وذلك ما يفرض على الدولة ان تتعامل معها وفق قواعد مغايرة تعتمد على التوافقية والمسايرة في اغلب الاحيان بعيداً كل البعد عن روح القانون الذي من المفترض ان يتسيد هو الواقع.
مرت البشرية سواء في الغرب ام الشرق بمراحل تاريخية تسيدت فيها العشيرة  والعشائرية مقاليد الأمور، ففي الغرب كما يقول حسني عايش: وقبل قيام الدولة واندلاع الثورة الصناعية وظهور الاقتصاد والتعليم الحديثين، كانت العشيرة والعشائرية سائدة فيها، ولكن بعد التحولات التي ذكرناها حلت الدولة والأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني محل العشائر والعشائرية، على الرغم من أن العشرة كرابطة دم وقرابة بقيت ولكن فقط كشجرة يعرف المرء من خلالها من أين جاء و إلى أين ينتهي، وبذلك لم تزل هناك العديد من العشائر موجودة او معروفة بسلسلتها او بشجرتها المدونة وليس المدعاة بالتاريخ الشفوي الذي لاسند له وهي على الرغم من نفوذها السياسي والاقتصادي خاضعة للقانون والدولة.
وفي الشرق تختلف الموازين والمفاهيم، فالعشيرة ” العشائر ” لم تزل متحكمة بأمورها الاجتماعية وروابطها الدموية وتعمل على حل مشاكلها بنفسها، وذلك ما يجعل أمورها تتداخل في الكثير من الأحيان مع أمور الدولة نفسها لاسيما فيما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية، أو حتى المسارات السياسية الانتخابية و إلى غير ذلك، إن هذا التداخل هو الذي تضفى على مفهوم العشيرة بعض المتغيرات الحالية، فحولتها الى وحدة اجتماعية فعالة ومهيمنة وفق منطق العشائرية، كما ان تلك التداخلات نفسها جعلت بعض العشائر تمارس سلطتها لاقامة وحدة عشائرية، هذا التحول غير من مفهوم العشيرة وجعلها تختلف كلياً عن ما سائد حولها وعن ما هي عليه في الاصل.
فالعشيرة كما يراها د . محمد الخطيب في كتابه الاثنولوجيا ” دراسة عن المجتمعات البدائية ” : هي وحدة اجتماعية تعتبر امتداد للاسرة وتتميز بتسلسل قرابي معين يتفق مع نظام سكني خاص ولذلك فان العشيرة هي وحدة مكانية ويعتقد أفراد العشيرة الواحدة في وجود جد واحد مشترك قام بتأسيس العشيرة وأحيانا يكون ذلك الجد شخصية أسطورية ، وينقل محمد احمد غنيم في كتابه الضبط الاجتماعي والقانون العرفي ” دراسة في الانثروبولوجيا الاجتماعية ” عن العالم الاجتماعي الفرنسي “دوركايهم”  تعريفاً عن العشيرة على انها مجتمع تتعدد فيه الزمر الاجتماعية ولكنه لايزال يحتفظ بوحدته وتجانسه وعدم قبوله للانقسام الى عدة مجتمعات تتمايز على الرغم من انها تتكون من الأسر الصغيرة التي لاتكون أقساما سياسية متمايزة.
وبذلك تبقى العشيرة ضمن جغرافيتها المكانية والزمنية وحدة قائمة، تساهم كثيراً في حل النزاعات الاجتماعية، كما تساهم في مد الدولة بالكثير من الطاقات والخبرات العملية، وهي طالما خاصعة للقانون فهي منتجة، فعالة، ومهمة لاستكمال عملية البناء التي تسعى اليه الدول، لاسيما في الشرق بصورة عامة والشرق الاوسط بصورة خاصة، فافراد العشيرة حين يخضعون لمؤسسات الدولة يساهمون في تطوريها، وهذا ما جعل علاء ناجي يذهب في دراسة أكاديمية له منشورة على الانترنيت بعنوان ” الدور الاجتماعي للعشيرة في تحقيق السلم المجتمعي “،الى ان العشيرة كانت ومازالت وحدة سياسية واجتماعية واقتصادية  تمارس دوراً مهما في ضبط سلوك أفراد المجتمع وكذلك تلعب دورا رئيساً في حفظ كيان المجتمع من الأخطار الخارجية، كما ان لها الدور الاكبر في فض النزاعات والصراعات وكذلك معالجة المشاكل التي تواجه الافراد، وهي تحافظ ايضا على تجانس وتماسك الأفراد بصورة خاصة وباقي أفراد المجتمع بصورة عامة. اذ ان العشيرة هي مؤسسة اجتماعية سياسية تهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار وبث الطمأنينة بين الأفراد وزرع الألفة والمحبة وغرس المودة والإصلاح والتكافل الاجتماعي ونبذ التطرف والعنف والصراع بينهم.
وعلى الرغم من قيامه بالخلط بين مفهوم العشيرة والعشائرية في دراسته إلا أنها أعطت رؤية واضحة حول أهمية الدور الذي يمكن إن تقوم به العشيرة داخل المجتمعات بصورة عامة، ومع ذلك يتوجب علينا البحث عن وجه الاختلاف الحقيقي بين تلك المفاهيم التي ذكرناها حول العشيرة و بين مفهوم العشائرية التي يراها حسني عايش على أنها عقلية او اتجاه سياسي يسعى إلى تحويل العشيرة إلى نوع من الحزب السياسي في مواجهة العشائر الأخرى، والاحتكام إليها في العلاقات الاجتماعية والسياسية، بهذه العقلية أو التحويلية تصبح العشائرية شكلاً من إشكال الإيديولوجية يرجع إليها ويفسر بها كل امر مثل تشكيل الحكومات، والانتخابات البرلمانية، والبلدية والنقابية، والمقاضاة، والوظائف العامة، المدنية والعسكرية وربما الاستثمارات والأعمال في القطاع الخاص. اي ك الإيديولوجيات الأخرى مثل الإيديولوجية القومية والايدولوجيا الشيوعية و الإيديولوجية الإسلامية وهكذا، عندئذ تصبح كل عشيرة – بالعشائرية – حزبا في مواجهة بقية اجنحة الحزب العشائر الفرعية داخل العشيرة او العشائر الأخرى عداً ونقداً. ولقد  أفرزت عن هذه التحولات مصطلحات أخرى في بعض الدول الشرق أوسطية مثل الدكة العشائرية والتي يُعرفها عامر صالح في مقال له بعنوان “الدكة العشائرية بين الإرهاب وإعادة إنتاج العشيرة – ملاحظات سايكواجتماعية ” على إن مفهومها يتخلص بإقدام مسلحين ينتمون لعشيرة على تهديد عائلة من عشيرة أخرى، من خلال عملية إطلاق نار بمختلف الأسلحة….. على منزل المقصود، كتحذير شديد اللهجة لدفعها على الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف، وفي حال عدم موافقة الطرف المستهدف تتطور الأمور لتؤدي الى وقوع ضحايا من الطرفين. وهذا بالضبط ما يخلق المفهوم الصحيح للعشائرية التي تتحول إلى قوة سلبية على الساحة الاجتماعية، وتؤدي دوراً فوضوياً في المجتمع والدولة، ومما لاشك فيه أن هذه الظاهرة لا تخدم الرؤية الصحيحة للعشيرة كوحدة اجتماعية متماسكة انما تفكك العشيرة نفسها إلى وحدات اخرى مغايرة تخدم مصالحها على حساب العشائر الأخرى وبذلك تُحول العشيرة وجودها الى عشائرية ساعية لفرض هيمنتها، وهذا لا يحدث إلا كنتيجة حتمية لضعف الدولة ووجود خلل في أجهزتها ومؤسساتها، حيث تصبح العشائرية مفهوماً وقانوناً في تلك الدولة ويرجع إليها حتى في الانتخابات وتوزيع المناصب والإيرادات، وحين تعتمد الدولة في سن قوانينها على المرجعيات بصورة عامة تدخل في نفق مظلم لاتخرج منه إلا بخسائر لايمكن تعويضها على جميع الأصعدة، فالتاريخ يؤكد على أن المرجعيات القبلية التي تضم داخل جغرافيتها العديد من العشائر، لم تستطع أن تسيطر على جميع تلك العشائر لاسيما التي امتلكت طموح السلطة والريادة فحولت مساراتها للتمرد والسعي للحصول على مكتسبات، وباتت تشكل تهديداً على النظام العشائري المتماسك داخل القبيلة نفسها، ما نتج عن ذلك فوضى داخل الدولة.
ووفق هذه المتحولات والمتغيرات التي طرأت على دور العشيرة – العشائرية – أصبحت الشعوب تنظر الى مفهوم العشيرة بسلبية وترجع إليها جميع الإخفاقات وجميع الانكسارات التي تحدث سواء على المستويات الجماعية او الفردية، على الرغم من ان الامر مجحف بحق تلك العشائر _ العشيرة – التي حافظت على كيانها ووحدتها الاجتماعية وتساهم بشكل إيجابي في مد الدولة بمقومات الاستمرارية من خلال دعمها والامتثال لسياستها وقوانينها،كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، ولم ينخرطوا في تلك الأعمال التي تجعل منهم حزباً أو إيديولوجية مناهضة للدولة، بالعكس تماما فإنها تقدم نفسها أنموذجا للتعايش السلمي. وهذا ما يفرض علينا البحث عن الظروف التي تحفز العشيرة لتقبل المتغيرات والتحولات السلبية، والتي تجعلها تتحول تدريجياً إلى حزب سياسي أو إيديولوجية فتخرج عن سلطة الدولة ولا تعترف بقوانينها، وتفرض وجودها بالقوة والسلاح كمكون أساسي ورئيسي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*