ندوة دار إشراق للنّشر ومجلّة”مشارف” عن الشّاعر التّونسيّ المرحوم عبد الله مالك القاسمي(4): شاعريّة الألم في مجموعة ” قصائد للمطر الأخير” لعبد اللّه مالك القاسمي : مصطفى الكيلاني

مصطفى الكيلاني

 

1 – بدءا:

لقصائد المطر الأخير “لعبد اللّه مالك القاسمي صلة وثيقة بالرّثاء، إلاّ أنّ الرّثاء الّذي نعني، هنا تحديدا، مختلف عن غرض الرّثاء في الشّعر العربيّ القديم وإن أحال إلى مشترك حال تصل بين السّالف والحادث، ومفادها الألم عند فقدان عزيز، وإحساس تراجيديّ بالزّمن ضمن لحظة التفجّع الواصلة والفاصلة بين ماضي المرثيّ حينما كان على قيد الحياة وحاضر فقدانه، وما تركت فاجعة الموت من أثر عميق دام في نفس الرّاثي.

اختلاف أداء الفاجعة بين قديم الشّعر العربيّ وحادثه ب” قصائد للمطر الأخير” لعبد اللّه مالك القاسمي يتمثّل، على وجه الخصوص، في احتجاب القصد الأوّل المرجعيّ ( الغرض الشعريّ) واختفاء مسبّق الحال، إذ الحال، بشاعريّة القاسمي، حينيّة متدفّقة لا تأتمر بسنّة شعريّة لغرض محدّد ولا تحتكم إلى معنى جاهز، وذلك لاعتمادها وصف الإيحاء (connotation) تكثيفا يذهب بعيدا في الإلماح حدّ الإعتام في مواطن كثيرة من قصائد هذا الدّيوان، أي بما هو أبعد وأعمق من وصف المطابقة (dénotation) كأن يذهب الإيحاء إلى الأقصى أحيانا كثيرة بما يربك اشتغال الدّلالة الشّعريّة ذاتها ومنطق لغة التّداول والمجازفة انزياحا حدّ تحويل الكتابة في بعض القصائد إلى ضرب من الانكتاب الّذي يستعيض عن القصديّة الكاتبة بلا قصديّة تذهب إلى العفويّة أحيانا وإلى أداء ما يشبه تداعيات حال هذيانيّة.

فالّذي حدث للشّاعر صادم مؤلم، بل هو بالغ الإيلام ، ممّا قضى لواذا بالدّاخل حيث مراياه المعتّمة ونزيف أطياف لصور تضمر دلالة أكثر ممّا تظهر، ثمّ لا اطمئنان ولا يقين عدا التّسليم بحقيقة واحدة هي حتميّة انقضاء الوجود والموجود .

فكيف تأدّت شاعريّة الألم تحديدا في” قصائد للمطر الأخير” لعبد اللّه مالك القاسمي؟

2 – في العناوين أو النّصوص-العتبات:

تعرض بدءا النّصوص- العتبات عنوانا رئيسا ( قصائد للمطر الأخير) وتصديرا ( مقتطف من شعر سعدي يوسف)، وعناوين لمجموعات صغرى( كائنات هاجر الضّوئيّة، والخرساء وقمر في الغرفة ، وأعلى من الصّمت، وشذرات، وحارس الأزاهير، وقصائد لوردة الرّمل، ودوز، وقصائد للفتى الغريب، ومشاهد من عنّابة، وورقات قديمة)، أي إحدى عشرة مجموعة صغرى، لكلّ واحدة نصوصها وعناوينها الدالّة عليها، وفي مجملها سبعة عشر عنوانا: عنوان رئيس، وعناوين مجموعات صغرى، وعناوين قصائد. وهذا الكلّ المتعدّد صاغه الشّاعر باللّفظ المفرد أو التّركيب الإضافيّ أو بناء الجملة:

أ – اللّفظ المفرد :الخرساء، شذرات، الحكاية، الفانوس، الأشجار، السّرير، رقص، دوز.

ب – التّركيب الإضافيّ :كائنات هاجر الضّوئيّة، حارس الأزاهير. 

ج- بناء الجملة: قمر في الغرفة، قصائد لوردة الرّمل، قصائد للفتى الغريب، مشاهد من عنّابة، ورقات قديمة.

وهذه العلامات- العناوين، على اختلافها، تمثّل صورا ينزع بعضها القليل إلى وصف المطابقة وبعضها الكثير إلى وصف الإيحاء بما هو أبعد من الحسّيّ تمثّلا لحالات مبهمة ملتبسة.

و إذا ” قصائد للمطر الأخير” لعبد اللّه مالك القاسمي لحظات، وإن تباعدت زمنا واختلفت وجودا فهي المتآلّفة عند أداء حال مرجعيّة تختصر تسمية بالألم وما حفّ به من علامات مختلفة دالّة على التفجّع الظّاهر والخفيّ. وهذا الألم لكونه حالا جوانيّة مرجعيّة لمجمل الدّلالات في قصائد الدّيوان ناتج عن الاصطدام الحادّ بوقائع أثّرت، عميقا في حياة الشّاعر ابتداء بموت ” هاجر” الطفلة الابنة وموت الشاعرين الصديقين محمّد المهدي بن نصيب ورضا الجلاّلي وانقضاء ما كان من زمن جميل عند ذكر لحظات عارضة من زمن مضى وانقضى، ومختصره العلاقة الحميمة مع صديقين آخرين هما نصر بالحاج بالطيّب ونورالدين صمّود، وما كان من ذكريات وأحلام في حياة الشّاعر الماضية.

وجامع لحظات ” قصائد للمطر الأخير” موسوم أداء شعريّا بالالتفات إلى ماض قريب وآخر أقرب وسواه بعيد، كالماثل في ” ورقات قديمة”( مقتطفات من قصائد طويلة) مهداة إلى الشّاعر نور الدّين صمّود. أمّا الماضي الأقرب فمرجعه الدّلاليّ فقدان هاجر الابنة، وأمّا القريب فما كان من وقائع وأحلام لها اتّصال مع أسماء كلّ من محمّد المهدي بن نصيب ونصر بالحاج بالطيّب ورضا الجلاّلي.

وفي ” المطر الأخير” ما قد يشي بالنّهاية الوشيكة، بالموت القادم لما يرمز إليه المطر عادة، كالوارد في أنشودة المطر ” لبدر شاكر السيّاب ، من دلالة الحياة والنّماء والتّجدّد، و انتفاؤه دالّ على توقّف الحياة ذاتها.

فتتقابل في ” قصائد للمطر الأخير”، بناء في البدء على هذه العلامات- العناوين ،دلالات الغبطة والحلم وانطلاق الرّغبة في اتّجاه ودلالات الـألم والرّعب والشّذعور الحادّ بالخواء، بالكارثة في اتّجاه آخر حتّى لكأنّ مجمل القصائد في اشتغالها الدّلاليّ جملة شعريّة واحدة عنوانها المضمر الرّئيس هو الألم، وضمنها يتنزّل اعتراض مفاده لحظات فرح ضنين مضى عهده وانقضى.

وبنصّ التّصدير ندرك حال الشّاعر الّتي هي شبيهة بموصوف سعدي يوسف للقحط( الخواء) المستبدّ :” جبال، كمكّة جرداء- واد- كمكّة لا زرع فيه- وأنت الهلاليّ أفقر من ذرّة الرمل- بدّلت تيها بتيه” (1)

إنّ مختصر الحال بدءا: وجود قاحل، وموجود فقير المعنى، وانتقال من تيه إلى آخر في متاهة كبرى هي الوجود ذاته.

ومأساة الشّاعر في انطباع القراءة( قراءتنا) الأوّل هي مأساة سالفة وأخرى حادثة، بل استمرار في الألم بما هو أمضّ بالحدث الّذي قلب حياة الشاعر ظهرا على عقب، وقد تمثّل ذلك في فقدان ” هاجر”: ” إلى ابنتي هاجر دائما”.

هذا الإهداء مطلق بديمومة الزّمن( دائما) ، إذ لا حدّ، كما جرت العادة عند أيّ إهداء، لأنّ المهدى يؤدّى حينا وتبعا لسياق ولا إطلاق، في حين أنّ مهدى الشّاعر إلى ابنته لازمنيّ لنزوعه المصّرح به إلى الدّيمومة.

” فهاجر” في الظّاهر اسم للابنة، ومسمّاه أبعد دلالة منها في عميق وصف الحال، إذ هي حياة الشّاعر وقد تهاوى بعضها الكثير دلالة رمزيّة، لأنّ فقدانها دالّ على فقدان المعنى الّذي به كان ويكون، أي بعض كثير من الموت قبل الموت: موت الرّوح قبل موت الجسد بما يشبه انفصام الحال الكارثيّ.

إلاّ أنّ ذاكرة الشّاعر ظلّت نابضة حياة ممّا فاقم من الإحساس بالألم فتعدّدت لحظاته وتكثّر واشتدّ بعدد من الأوضاع والصفات.

3 – الفاجعة الكبرى: ” كائنات هاجر الضّوئيّة”:

إنّ فاجعة الشّاعر الأب كبرى في ” كائنات” “هاجر الضّوئيّة” من ” قصائد للمطر الأخير”، ووقعها عميق صادم، إذ مثّل إبدالا خطيرا،حسب تقديرنا، في مسارّ تجربة عبد اللّه مالك القاسمي في الوجود والكتابة، فاتّسم وصف الحال بالرّثاء الواصل بين الحنين إلى ماض تقضّى، ماضي ” هاجر” ، وبين لحظة التّفجّع استذكارا. وللتّرجيع في ” القطّ ياسمين” إيقاع الألم الممضّ، الحزن الّذي بلغ أشدّه : ” قطّ ثلجيّ”، بتكرار أوّل ثمّ ثان فثالث، لتتّخذ القصيدة لها حركة الدّوران تنتهي إلى انفتاح. وبين الدّوران والانفتاح حدّ فارق صادم اختصره الشّاعر تكثيفا بالحدث : ” لمّا رحلت…”

كان ويكون، بهما نتمثّل سيرورة ما حدث، إذ في البدء أو الما-قبل صورة ” للقطّ الثلجيّ” تتشكّل مرارا :” قطّ ثلجيّ أم…قطّ ثلجيّ يهوى صيد النجمات… قطّ ثلجيّ من نار وفراشات…”

حلم الطّفلة ( حلم القطّ الثلجيّ) يتمثّله الشّاعر كما يتمثّل صوتها، وهي في النّزع الأخير : ” نادته من تحت رماد طفولتها- “ياسمين” سمّته حين تعالى- ( لم يفزع منها، لم يذهل) ( ص 11)

إنّ حلم الطّفلة المحتضرة الأخير ( الحلم بالقطّ ” ياسمين”) هو الّذي أنشأ حلم الشّاعر في قصيدة” القطّ ياسمين”، إذ رحلت ” هاجر”، ومعها رحل القطّ : حلم مشترك بين ” هاجر” الابنة والشّاعر الأب وانفتاحا على دوالّ الطّبيعة، رموزها :” النّجمات، الغيمات، النّار، الغابات، الأشجار.، بتمثّل كوسمولوجيّ استقدم مطلق الكون إلى الحدث- الفاجعة، إلى الطّفلة الفقيدة وقد تركت في عميق وجدان الشّاعر ندوبا نازفة أفقدته طمأنينة الحال فأضحى بلا غاية ولا أمل.

للطّفلة الفقيدة أشياؤها الخاصّة، وقد أضحت بالحلم ( حلمها) وحلم الشّاعر ” كائنات ضوئيّة”  قياسا في البدء على واقعيّة القطّ ” ياسمين” ورمزيّته معا وعلى ” السّلحفاة” الّتي لها دلالة خاصّة ثانيّة في حياة الفقيدة وفي تمثّل الشّاعر، وعيه المزدحم بمختلف حالات التفجّع والألم. وإذا هذه ” السّلحفاة” ، في تمثّل الشّاعر الأب، متعدّدة في واحد بكثرة الصّور واختلافها الّتي تظهر بها، فهي ” الحكيمة” بالصّوت الأبديّ ، وهي ” المتصوّفة” بعزلتها الخاصّة، وهي سريعة التّحرّك في مواضع مختلفة، إذ تغيب وتحضر بين الذّاكرة والنّسيان لتتحدّد وجودا ب ” هاجر” وتتحدّد ” هاجر” بوجودها تماهيا رمزيّا بينهما، وبدلالات الواقع والحلم، الذّاكرة والنّسيان، الحقيقة و الأسطورة… والثّابت المرجعيّ في توصيف الحال هو غياب ” هاجر” الملازم لصدى ندائها المنبثق من ” صمت الأبد” :

ومضت هاجر

نبت العشب على القبر

نادت من صمت الأبد

أين سلحفاتي كي ترعى أعشاب الرّوح؟ ” ( ص20)

وإلى ” القطّ ياسمين” و ” السّلحفاة” ينضمّ ” الكناري الأعمى” ضمن ثالوث الأشياء الدّالّة على وجود كان فأضحى لا وجودا ، أو هو موجود  الشّاعر يصل بين ما كان ويكون وجودا ليضحي لا وجودا.

وكما شهد ” القطّ ياسمين” و ” السّلحفاة” ، بتمثّل الشّاعر الخاصّ ، على الفاجعة بفقدان ” هاجر” الابنة حضر ” الكناري الأعمى” للتّدليل هو الآخر على مأساة ما جرى بقتام حال بلغ بها الألم أقصاه :

كم ضجّ بخطو الرّيح مدى

كم نادى الأفق جناح الطّير

كم ناحت أشجار وبكته سماء… ( ص 21).

وبضرب آخر من التّماهي تلتقي صورة ” الكناري الأعمى” ، حبيس القفص، والشّاعر المسكون بلوعة الفراق في مشهد واصل بين وحشة الوجود المشترك وبين حمل نعش الابنة لحظة مغادرة البيت إلى المقبرة.

فتذهب شاعريّة الألم ، هنا ، بعيدا إلى أقصى حالات الوصف لما تركه حادث الفراق في عميق النّفس من جراح نازفة.

يمضي زمن ” هاجر” تاركا زمنا آخر هو زمن الفقدان : ” كنّا … وكانت…” ، بضميرين هما المتكلّم المثنّى والمفرد الغائب ( هي) تواصلا دلاليّا بين الأب وابنته المنتفية وجودا الحاضرة وجدانا :

كنّا هنا…

أو في الغياب هناك

في وضح الظّلام…” ( ص 27)

وإن اختفت ” هاجر” وجودا فقد ظلّ طيفها ماثلا في الذّاكرة ، شأن صوتها تاركا صداه :

بيدين من شمع

يسيل على الرّخام

كانت تحدّثني وقد…

شرقت أصابعها

بأنوار الكلام…” ( ص 27)

” كانت هنا…” رحلت ” هاجر” ، إلّا أنّ آثارها حاضرة في ذاكرة الشّاعر وفي مختلف الأمكنة. فحيثما نظر، هنا أو هناك، داخل البيت أو خارجه، وفي غرفة النّوم، تحديدا وعلى وجه الخصوص، تراءت بفائض أنوثة الطّفلة الملازمة وجودا لذكورة أبيها العاشق الولهان ” عاريين كنّا في ليلة قائظة…” ( ص 31) ليستمرّ حضورها في حياته رغم الغياب:

كنت إذن،

تأتين دائما ( في منامي) قبل النوم

وتسهرين في أحلامي ” ( ص 31)

و إذا تكرار الحال وجه آخر للإيقاع ( الإيقاع الدلاليّ تحديدا )، كأن يتكرّر معنى حضور ” هاجر”  في ذاكرة الشّاعر الأب ولحظة الكتابة. وكما وظّف الشّاعر إيقاع الصّوت تفعيلة واللّفظ الواحد ترجيعا فقد اعتمد تكرار الحال المعلنة ( الدّلالة) والخفيّة ( التّدلال)، فلا تمدّد بهذا التّكرار ولا تجدّد للمعنى، وإنّما هو البوح يعاد ويستعاد أداء للكشف عن بعض من عميق الإحساس بالألم الناتج عن الصّدمة إثر الفقدان الحاصل.

4 – لون آخر للكتابة أو فنّ الانعزال الصّامت الجميل:

مفتقد الشّاعر، جراحه النّازفة، قلقه المسترسل، التباس رؤيته أو رؤياه امتدّ تأثيرها إلى ما هو أبعد من حدث فقدان الابنة لتشمل جلّ ” قصائد للمطر الأخير” فيتغيّر بذلك أسلوب الكتابة الشّعريّة بانتهاج سبيل كلام الصّمت بدلا عن الكلام بمعتاد التّداول أو بما هو ” أعلى من الصّمت”، على حدّ عبارة الشّاعر، لمقاربة حالات ناشئة ملتبسة لم تألّفها الذّات الشّاعرة قبل حدث الفقدان المذكور، كالمتمثّل بالمرأة ” المشتعلة باللّحن ” :

أما زال اللّحن مشتعلا

في يديها

المرأة الّتي

تعثّرت، البارحة، بمصابيح اللّيل؟ ” ( ص 37)

إلاّ أنّ حدّة الألم لا تنفي ، هنا ، إمكان الأمل بما بدا تيقّظا لحواسّ ، انفتاحا على أشياء العالم ، حتّى لكأنّها ولادة أخرى جديدة للشّاعر بعد الفقدان الّذي حدث أو قبله ، لغياب تواريخ لحظات القصائد قصد معرفة السّابق منها و اللاّحق.

إنّ ” أعلى من الصّمت” توجّه إلى لغة أخرى لا تنكشف دوالّها و لا تتّضح دلالاتها، لأنّها لغة تحدس ولا تسمع، كلغة النّمل بعلاماتها الخاصّة :

للنّمل

مسالكه

وقراه

وأوانيه الحجريّة

وسياج أعلى من الصّمت… ” ( ص 39)

فالمفتقد استرجاعا أو استباقا في تواصل القصائد علّم الشاعر فنّ الانعزال الصّامت الجميل ، والالتفات إلى ما كان من زمن الطّفولة بالتّثنية الدالّة على زمن كان :

وحيدين…

طفلان من حبق و حنّاء

يزهران

في ليل الأحاجي

والماريخوانا …” ( ص 40)

5 – الكتابة الشذريّة بين العبث والتفجّع:

الكتابة الشّعريّة في ” قصائد للمطر الأخير” قبل المفتقد الأعظم ( فقدان ” هاجر”) أو بعده، هي لعب جادّ ، على حدّ عبارة هانز جورج غادامير (Hans georg Gadamer) (2) قارب تخوم الكارثة وذهب بعيدا في أداء شاعريّة الألم حدّ التّسليم بموت وشيك للشّاعر ذاته و الرّغبة في التّسريع بالانقضاء قبل الانقضاء إثر فقدان أهمّ الأسباب الرّوحيّة الّتي بها يحيا الإنسان ، ذلك الآخر القريب ( هاجر الابنة تحديدا).

إلاّ أنّ إرجاء ما حدث ، إن اعتبرنا ” شذرات” من المجموعة الشّعريّة تعقب السّابق من القصائد ، وذلك بضرب من الاعتراض بين زمن أوّل لحال التفجّع النّاتج عن الفقدان المذكور و زمن ثان عند توسيع مجال الشّعور بالكارثة ، من الابنة ( الآخر القريب) إلى الصّديقين ، بدلالة الآخر القريب أيضا ، ولكن بعد الابنة في مدى القرب.

فينزع اللّعب في الكتابة الشّعريّة وبها عند قراءة ” شذرات” إلى ضرب من السّخرية القاتمة ، إلى استهزاء لعلّه في عميق حاله هو الأشدّ جدّا من الجدّ ذاته بمواقف أو مشاهد ثلاثة انتهى آخرها إلى أقصى حالات الرّعب.

وبين العبث والفاجعة تنتظم الشّذرات ، كمشهد البلديّة :

البلديّة

آخر اللّيل ، عاليا ،

ترفع ثيابها

كي لا تبتلّ خطى القمر …” ( ص 43)

فأيّ صلة للمجاورة هذه الّتي تجمع بين” البلديّة” و ” خطى القمر” و ” آخر اللّيل” و ” لا تبتلّ” ( البلديّة) ؟ !

النّظم، هنا، أو الوصل أو المجاورة بين مختلف هذه الألفاظ لا تحيل إلى واقع أو منطق معتاد للّغة بها تسمّى الأشياء والأحداث والحالات والأفكار، وإنمّا هو النّزوع إلى أداء صورة سرياليّة قوامها العفويّة الكاتبة والاندفاع بحال شبيهة بحال هذيانيّة.

وبالأسلوب ذاته يكرّر الشّاعر استخدام الوصف السّرياليّ لأداء وجه آخر للعبث :

” تكسّرت المرآة

فعوى ذئب في الزّجاج

مازالت الإذاعة تهذي

قرب المدفأة … ” ( ص 44)

” المرآة، ذئب، الإذاعة، المدفأة ” : علامات من سياقات دالّة مختلفة استقدمها الشّاعر إلى دائرة ” الشّذرة الثّانية”.

إلاّ أنّ السّخرية الماثلة في الشّذرة الأولى أضحت جدّا على شاكلة شبه هذيانيّة أيضا وبالمزج بين الوصف السّرياليّ والحال العابثة. وما بدا تواصلا منطقيّا في معتاد الواقع واللّغة الدّالّة عليه، ربّما، بين ” تكسّر المرآة” و ” عواء الذّئب في الزّجاج” عقبه انقطاع في الوصل فاقم من ارتباك الدّلالة وغموضها وما عطف على سابقه : ” هذيان الإذاعة قرب المدفأة”.

وإن نزعت الشّذرة الثّلثة إلى ضرب من التّجلية في الدّلالة فقد أسفرت عن حال من الارتعاب الشّديد باختفاء السّخرية تماما واندفاع وصف الحال إلى جدّ صادم عنيف يشي بفظاعة الهلاك :

بعيدا ،

هناك

جماجم

وعيون ملقاة على الأرصفة

ترعى المارّة والخلنج البرّيّ

لا مطر على المدينة…” ( ص 45).

وكأنّ الفاجعة استباقا أو استرجاعا، وقد بلغت أشدّها في عميق نفس الشاعر استلزمت لغة أخرى للقصيدة بمنطق آخر هو اللاّ-منطق في معتاد التّداول اللّسانيّ، أو هو منطق ذاتيّ تداوليّ حينيّ واصف لألم حادث استثنائيّ لم تألفه الذّات الشاعرة من قبل، فكان توسّلها بالسّرياليّة وصفا وبتداعيات الكتابة شبه الهذيانيّة وباستخدام دلالات العبث في سياق شعريّ واحد حادث.

وما اعتمده الشّاعر انزياحا عن معتاد القول في سالف تجربة الكتابة لديه أضحى انزياحا آخر للانزياح عن معتاد القول، ليزداد واقع الحال إغراقا في التّخفّي أو الإخفاء قصد محاولة الاقتراب من ذلك ” المبهم الشبحيّ” على حدّ عبارة جبرا إبراهيم جبرا ( 3).

6 – أداء الحال الملتبسة بعفويّة الانكتاب بدلا عن قصديّة الكتابة:

في قصائد “حارس الأزاهير” من ” قصائد المطر الأخير ” يتّسم موصوف الحال الشّعريّة ابتداء ببهجة حلم جميل يحيل إلى عالم شبه رومنسيّ ب ” أزاهير السّتائر ، والفراشات المسجّاة ، وما تشدو به الأنامل ، وبقايا من حرير الأصابع ، والشفاه ، وأبخرة وأنغام…” ، مثل الحكاية ( القصيدة الثّانية) حيث ” جدول من موسيقى الأماسي والضّوء الخفيف” ، وحيرة السّؤال في الأخير :

” أكان هنا

حين سرقت

شجرة اللّيمون قرب الشبّاك

أسرار الحكاية؟ ” ( ص 53).

إلاّ أنّ الحال، وهي تغرق في عميم عتمتها، لا تذهب باللّفظ إلى الانجلاء، وإنّما إلى المزيد من البهمة.

فاختفاء المرجع يكسب الدّلالة الشعريّة صفة المشروع، إذ كلّما قاربت حال التشكّل اضطرب في الحين وانتفى بذلك أيّ إمكان لمعنى ظاهر معلن.

إنّ الكتابة، نتيجة أداء هذه الحال أو الحالات الملتبسة، هي فعل انكتاب بعفويّة تقارب اللاّ-وعي، ربّما، أكثر من الوعي بحدسيّة حينيّة مباشرة تتّخذ القصيدة بها شكلا شذريّا مختصرا، كلمعة ” الفانوس” تليها لمعة ” الأشجار” ثمّ ” السّرير” و ” رقص”، كأن تتماهى حال الانكتاب مع ظلال معان وأطياف مشاهد بما يرتسم في ذات الواصف من صور غارقة في عتمة التّدلال من غير دلالة جليّة معلنة، ” كالفانوس المعلّق وحيدا في شرفته العالية” خائفا يطّل من كوّة في الظّلام” ، إذ بوحشة الأشياء يتبدّى بعض من وحشة الذّات في مواجهة التباس الحال والوضع معا بتداخل هو في صميم اللاّ-معنى وجود المستبدّ بالمعنى، و ” كالأشجار” الثّابتة على حالها، تلك الّتي ” لا تنحني للجنازات- حين تمرّ- ولا تلتفت إلى طريق المقبرة” ( ص 55) إثباتا لموجود يشقى بوجوده.

الأشياء باردة صادمة حدّ الأذى، ك ” جذور الشجرة- قرب باب الحديقة- تسري في لحم الحديد- وتصعد إلى سريريّ (سرير الشاعر)” ( ص 56). وما تحرص اللّغة ( لغة التّداول) تكشف لغة القصيدة، هنا، عن قبحه المرعب، بالعدم يبتلع الوجود والموجود، وبالفساد ينهي كلّ معنى، وكلّ وجود، وكلّ حكاية، وبالفوضى تسقط أيّ نظام ليستحيل الوجود إلى سمفونيّة للموت المتكرّر بما يتراءى رقصا في تداخل حالات الجمال والقبح، الوجود والعدم، الفوضى والنّظام، وليتغلّب في تجاذب قوى الطّبيعة والحياة القبح والعدم والفوضى، بما يتراءى جمالا آيلا إلى الاحتراق :

ما أجمل سيقان الغابة

حين ترقص عارية

في حفلات النار ” ( ص 57)

7 – مرثيّة محمّد المهدي بن نصيب- مرثيّة الصّحراء:

من نصّ الإهداء في مطلع ” قصائد لوردة الرّمل ” من ” قصائد للمطر الأخير ” نعلم اسم المرثيّ ، وهو شاعر دوز الرّاحل، كما ندرك العلاقة الحميّمة الّتي تصل عبد اللّه مالك القاسمي به.

وإذا الاسم المعلن والصّحراء متماثلان، وبالصحراء يعرف الفقيد، هذا المكان الأقرب دلالة إلى الأبديّة. ” فمنذ آلاف السنين” والصّحراء هي الصحراء بمعنى الوجود شبه الأزليّ، إذ هي الفيافي أو المنافي كما يتمثّلها الشّاعر عبد اللّه مالك القاسمي عند تذكّر صديقة الشّاعر الراحل وجودا :

” المنافي

كيف صارت

وقد ضاقت بخطى الشّاعر

كجرح في الذّاكرة

كأنّي أراه الآن

على الأعتاب…

يجرّ طفولته الهرمة

أو يغرق في مياه الحكمة… ” ( ص 62).

إنّ المرثيّ تجاورا دلالياّ وتدلاليّا مع ” وردة الرمل” هو المفتقد الآخر الّذي يوقظ في الذّات الشّاعرة الإحساس العميق ” بالوحشة”، إذ بالفقدان تزداد الصّحراء فقرا ولا تفوح ” وردتها” الّتي هي بتسمية الشّاعر ” وردة الرمل” لفقدان ” بهجتها”.

للصّحراء، إذن، حضور بارز في رثاء محمّد المهدي بن نصيب لما يعنيه امتدادها  وقفرها من وحشة وما يدلّ عليه فقدان المرثيّ من وحشة أشدّ : ” حين ذوت على القبر عشبة… ” ( ص 64)، بل إنّ رحيل المرثيّ زاد الصّحراء وحشة والقفر قفرا :

وداعا للنّخيل

لأطياف بلا نجمات

لمرايا الجنوب المهشّمة

وداعا لمحمّد المهدي

وحيدا

يمضي

بلا ريح قديمة… ” ( ص 65).

” كأنّني أراه الآن…  “، بهذه العبارة يتقابل في حال الفقدان وجودان و زمنان لوجودين : ماض وراهن، وبينهما فجيعة هي فقدان الصّديق محمّد المهدي بن نصيب. وفي الماضي كان للمكان معنى الابتهاج بالصّديق، أمّا المكان في حاضر الرّثاء فهو الموحش عند الإشارة إلى القبر وبعض من ذكريات يختصرها الرّاثي في الإحساس العميق بالألم، ولا صفات تظهر المرثيّ عدا وحشة المكان ( الصّحراء) ورمزيّة ما حدث ” لوردة الرّمل “.

8 -مرثيّة الصّحراء بنصر بالحاج بالطيّب:

 يحضر في هذه المرثيّة اسم نصر بالحاج بالطيّب كما تحضر دوز لكونهما يعودان في الأصل إلى جذر واحد مشترك، كأن يعرّف الاسم بالصّحراء وتعرّف الصّحراء بالاسم، والأشياء علامات دوالّ تخصيصا بهذا المشترك القائم بينهما:” الجمل والبدو والرّمل والقبائل” مقابل علامات دوالّ أخرى من زمن حادث: ” باليه السّياحة والكوكاكولا…”

فما عادت الصّحراء بعد الّذي حدث لها صحراء لما أصابها من تشوّه وفقدانها البعض الكثير من الصّفات الدّالّة عليها وتدجين حيواناتها: ” الضبّ والسّفشة والفنك والسّحالي والغزال والجمل “، ” والبدو والرحّل” ما عادوا هم أيضا بدوا رحّلا.

وكما اتّسع الرّثاء قديما ليشمل المدن وغيرها من الأمكنة، كعموم البلدان لما اعتورها من خراب بعد عمارة فقد اشتملت ” قصائد للمطر الأخير” في ” قصائد دوز”، تحديدا، على رثاء الصّحراء الّتي كانت في ما مضى فضاء للحرّيّة ورحما منجبا للمعاني والمغاني، فاستحالت بذلك إلى وجه مشوّه، سلعة سياحيّة سمجة، ليشمل هذا التّشويه الحيوان( الغزالة وغيرها) والإنسان معا،  ك ” طرزان” الّذي أضاع بداوته ونقاوة أصله الأوّل فتحوّل إلى مهرّج أو مروّج سياحيّ وانتقل وجودا من ” ربيع القبائل” إلى ” ربيع البلاستيك”، شأن انتقال المعنى في هذا المكان المشوّه من ” سمرة الكائنات الرّمليّة” إلى ” عرق السّائحات الشّقراوات…”

كذا تبدو مرثيّة الصّحراء أكثر فجائعيّة من المراثي السّابقة، ربّما، لأنّ الخسارة، هنا تتجاوز سياق الفرد الواحد إلى الجمع، إلى تشوّه بعض كثير من تراث بلد ( تونس)، لأنّ المفتقد كارثيّ بعد سرقة المعنى الّذي به كانت الصّحراء زمنا كأنّه الأبديّة :

السيّاح يسرقون

فواكه الصّحراء

ويرحلون تحت التّصفيق…” ( ص 75).

إنّ ما حدث للصّحراء هو بمثابة قتل لها بعد الّذي تعرّضت له من اغتصاب ذاكرة وتاريخ وأمجاد و سير، وقد تمثّلها عبد اللّه مالك القاسمي أنثى تدخل من النّافذة وتجلس على الكرسيّ أمام الشّاعر وتحدّثه عن مأساتها، والقمر هناك في الخارج” يسترق السّمع وينشج، والوردة ما عاد لها شذا، والواحة منطفئة، والشجن انجراح يرد بصوت ” بلقاسم بوقنّة ” المغنّي، وأعراس الصحراء ما عادت أعراسا بعد الّذي حدث، حتّى ” سوق التّمور” أضحت ” صناديق فارغة- وبقايا ثرثرات- عالقة بالجدران- وخطى خمّاسة- رحلوا في اتّجاه المقبرة- بلا وجوه ” ( ص 82).

إنّ مشهد الصّحراء في الأخير، كما يرسمه الشّاعر بلوعة الفقدان لزمن البدايات، هو مشهد الموت: ” ضريح الوليّ ” سيدي الغوث” و ” مفتاح الجبّانة“، و ” السّدنة الزّنوج“، و ” بوّابة الصّحراء- مفتوحة على أقاليم الرّيح- والسّراب” ( ص 84).

ولعلّ فاجعة الشّاعر في هذه المرثيّة أشمل وأعمق من فاجعة الشّاعر القديم وهو يرثي المدن والدول، ذلك أنّ المدن والدّول تعاد إعمارا بعد خراب، أمّا ضياع الصّحراء فهو أبديّ، إذ التّشويه الحاصل إنهاء كارثيّ لبهجة البدايات.

9- صديق آخر ولوعة أخرى: فقدان رضا الجلاّلي:

” قصائد الفتى الغريب” هي نصوص مهداة إلى روح رضا الجلّالي. والرّثاء، هنا، محدّد أيضا بالمكان، ” بحانة غاريبالدي” الّتي اعتاد عليها الشّاعران الصّديقان عبد اللّه مالك القاسمي ورضا الجلّالي : مكان مخصوص ” بالسّكارى والمسطولين وأرباب الوجد ” والقطّ brohrer…

يمضي رضا الجلّالي في حال سبيله، يفارق الحياة، ليظلّ القطّ وحيدا ” يبحث عن صاحبه الّذي مضى”.

وإذا رؤية الشّاعر للمكان بعد غياب الصّديق مسكونة بالألم، إذ لا وجود للآخر- الصّديق ولا أثر عدا ” مواء راعف يصّاعد في سماء ” ( ص 87) .

وكما يتأمّل عبد اللّه مالك القاسمي في المكان وما في المكان ( حانة غاريبالدي)، وهو يتذكّر الصّديق الرّاحل، يتوسّل بدُعاء ” هدى” أخت الفقيد، وهي تتوسّل إلى ” سحابة زرقاء ” بأن تهطل ” برضا” الرّاحل وبذكريات الطّفولة و ” فوضى الصّبا”،. وإذا التّمنّي الّذي هو من أبرز معاني الرّثاء العربيّ القديم يتّخذ له حضورا دالاّ ودلاليّا في مرثيّة عبد اللّه مالك القاسمي لصديقه الشّاعر.

إلّا أنّه تمنّ مختلف، كأن يتحوّل بالفقيد إلى دائرة الرمز الدالّ على انبعاث معنى آخر جديد، كالوارد على لسان ” هدى” الأخت :

” هل تعْشوْشب الذّاكرة

فيُزهر وقت في دمي

ويطير فراش؟ ” ( ص 89).

كذا الرّاثي، بهذه القصائد، واحدٌ منفتح على العدد مكانا ( الحانة) وحيوانا ( القطّ) والإنسان القريب من ذات الفقيد( الأخت).

وبهذا الانزياح ترتبك صفة النّواة الدّالّة وجودا على أنا- الشّاعر ليتحوّل الرّاثي إلى رُثاة ذات راثية واحدة بدْءا ومرجعا، ولا إحضار لصفات المرثيّ الجسميّة والخُلقيّة، كما جرت عادة الرّثاء العربيّ القديم، بل إنّ الصّفة الّتي بها يُعْرف الفقْد ويُعَرّف هي أبعد من الحسّ الجسميّ والمعنى الخُلقيّ، وإنّما هي روح الفقيد كما تمثّلها شاعر لشاعر قارب أقصى الحياة فأدرك الموت بذلك، كأن وصلتْ إقامتُه في الحياة بين الماء والنّار، منتقلا من خطر إلى إنفاد طاقة الحياة فيه بالتّحليق عاليا :

أ مازلت مقيما في الماء

تعلوك النّيران

كيف إذنْ لم تغرق…

ولم تلتهب؟

أ مازلت مُحلّقا بلا جناحيْن، كطائر البطريق؟ ” ( ص 90).

فالصّديق الفقيد ( رضا الجلاّلي) هو ذكرى، بل أكثر من ذكرى. والرّثاء، هنا، ليس محدّدا بثنائيّة الماضي والحاضر، المنقضي وراهن الحال الرّاثية، وإنّما هو زمن ثالث إطلاقيّ يقارب معناه الأبديّة ” بدازين” (4)الشّاعر عبد اللّه مالك القاسمي، براهن حاله الرّاثية والمرثيّة أيضا، للتّداخل القائم بين واصف الحال وموصوفها، بشهادته الحينيّة على هذه الحال، وبما يستمرّ بقاؤه بعد هذه الحين لحظة، بل لحظات، القراءة بمختلف سياقاتها الحادثة.

لا شكّ في أنّ الألم الإنسانيّ هو ذاته، إن قارنّا بين الرّثاء العربيّ قديما وهذا الرثاء. فاللّوعة، كما هي، حارقة موجعة، ولا اختلاف.

إلّا أنّ مقاصد الرّاثي القديمة تستحيل في اللّاحق إلى مقاصد أخرى تبدو محايثة لذات المرثيّ، غير منفصلة عنه نتيجة اختلاف طبيعة الذّات الرّاثية، كأن يذهب الرّاثي( عبد اللّه مالك القاسمي) إلى ما هو أبعد من التّماهي مع مرثيّه، فيستحيل عند أداء الرّثاء وتوصيف حال الألم إلى مرآة شبه معتّمة تتطلّع إليها ذات الشّاعر ليتمرْأى بعضٌ من عذاباتها ومخاوفها وسأمها، وينشأ عن ذلك تداخُل طيفيّ عميم بين الفاقد والمفتقَد، ويزول ما كان حدّا فارقا بينهما في قديم الرّثاء العربيّ.

10 -المُفتقَّد زمنا: مشاهد من ” عنّابة” :

تستعيد ذاكرة الشّاعر لحظات كانت ثمّ مضت وانقضت في عنّابة لتترك آثارها، لا كغيرها من اللّحظات. وكأيّ ذكرى تنتفي التّفاصيل لتمكث الصُورة/ الصُور أقرب إلى الطّيف ولون الرّماد منهما إلى التّجلّي. فانقضاء لحظات عنّابة، وإنْ حرص الشّاعر على تثبيتها بما يُشبه اليوميّات المكتوبة شعرا، هي من الماضي وإليه، إذ لا صلة لها مباشرة بالرّثاء وبحال الراثي، وإنّما هي لحظات ألم أيضا، منه ينطلق الرّثاء ويعود إليه مرجعا. وما مشاهد عنّابة الثّلاثة إلّا كشف عن خيبة أمل، عن قلق دفين، عن شعور حادّ بالخواء، ” كالشّيخ الواقف في ساحة الثّورة” :

ما الّذي يحدس هذا الشّيخ

واقفا في ” ساحة الثّورة” بلا رايات

وبلا ريح

صامتا بسنواته الصّاخبة

ينثرها على الإسفلت فُتات خُبز

للحمام

وللأطفال يمرحون في السّاحة…” ( ص 93).

إنّ صفة السّرد ماثلة في كتابة مشاهد عنّابة، وأداؤها قريب من أداء وصف المُطابقة بالتقاط اللّحظة في راهن المشاهدة.

فلا تعتيم في وصف الحال أو الحالات لانفتاح النّفس على الخارج حيث العالم بأشيائه وأشخاصه وحركاته يدفع الذّات الشّاعرة إلى التأّمُّل والتفاعُل بإحساس هو أقرب إلى الحدس المُتّصل بما يُشبه الموقف الحكميّ عند التّفكير العارض في ما يصل بين ” الشّيخ”، و ” الأطفال”، بين ماض وحاضر يشي قريبا بانقضائه وبين مستقبل، بين واقع المشاهدة والّحلم بما ” سوف يأتي- في الأحلام” ( ص 93).

اللّحظة في المشهد الثّاني هي انقضاء يوم :” وهذا المساء الّذي… يهبط فجأة على المدينة” ( ص 94)، وهي لحظة مُحدّدة بمكان :” أعلى الرّبوة- عبر المدارج الحجريّة، و” جامع أبي مروان الشّريف”، وبحركات بشر :” أصحاب اللّحى والجلابيب، وبأصوات :” صلوات وأدعية…”

وإذا هذه اللّحظة زمن يتكرّر، وانقضاء زمن يُعلن ضمنا انقضاء لحظة، بل لحظات قادمة…

فإحساس الشّاعر العميق الحادّ بالزّمن صيغ بوصف هو أقرب إلى التّجلية انفتاحا للنّفس على الخارج حيث المكان وما في المكان من تفاصيل حياة يوميّة.

وتتراءى اللّحظة والمكان متعالقيْن أيضا في المشهد الثالث ” أمام فندق الصّفصاف- في الحيّ القديم…”، والموصوف هو من الحياة اليوميّة عند الإلماح إلى ” البائعين المتجوّلين”، فالحركة تبدو على أشدّها بالازدحام وكثرة الأصوات، كالمعتاد عليه في الأحياء الشّعبيّة بالمدن العربيّة والإسلاميّة، باستثناء يُكسب اللّحظة دلالة خاصّة، كالوارد من دوالّ أحداث، بالتّصايُح والتّباكي و ” بُقع الدّم” وفوضى المكان، و ما في المكان، ممّا يرجّح أنّ الّذي حدث قد حدث في عشريّة الدّم بالجزائر.

11 – مُنقض آخر من زمن مضى وترك أثره : ” ورقات قديمة”:

” ورقات قديمة” هي، لا شكّ، أقدم نصوص ” قصائد للمطر الأخير”، وهي إلى ذلك ” مقتطفات من قصائد طويلة” مهداة إلى الشّاعر نور الدّين صمّود.

ستّة مقتطفات من قصائد عموديّة طوال تبيّن لنا بها حذق عبد اللّه مالك القاسمي لأداء هذا النّوع الشعريّ القديم، وقد نأى به من أغراض الشّعر القديم إلى نوع أقرب إلى الرّومنسيّة  الّتي مثّلت حداثة الشّعر العربيّ منذ بدايات القرن العشرين بأداء حالات مختلفة، كالعشق والقلق واليأس والخوف، وهي حالات لازمت بدايات الشّاعر الشابّ.

والواصل الأسلوبيّ والإيقاعيّ بينها هو إتقان أداء العمود وتوليد الصّورة الشّعريّة بتوهّج إبداعيّ. أمّا المشترك الدلاليّ فهو حيرة الشّاعر البادئة وارتباكه العميق وشغفه باللّغة، ولغة الشّعر تحديدا.

وللزمن، هنا، وعيه الحادّ في ذات الشّاعر الفتى، بدلالة اللّحظة الفارقة الاستثنائيّة :

” قبل أن ألتقيك ما كنتُ شيّا                إنّك الدنيا حين تحنو عليّا

فالّذي فات… لم يكن من زماني            لم يكن قد جرى على راحتيّا

إنّك الآن جئت من كلّ برْق                كي تُضيئي السّماء في مُقلتيّا ( ص 103).

فهذا الوعي الزمنيّ الحادّ في بدايات الشّاعر قضى بداية شعريّة لا كغيرها من بدايات عدد من الش”عراء الآخرين، حسب

تقديرنا، ممّن ألفوا النظم و اطمأنّوا إليه، وإنّما هو الشّاعر الّذي جرّب القصيدة العموديّة وأتقن أداءها ثمّ تحوّل منها إلى قصيدة التّفعيلة مستفيدا من شاعريّة الإسماع والسّماع التّقليديّة إلقاءً وتطريبا، ومن شاعريّة الكتابة رؤيةً ورُؤيا، تفضيةً وإبطانا. فكان بذلك لعبد اللّه مالك القاسمي صوته المتفرّد المختلف عن غيره من الأصوات الشّعريّة التّونسيّة في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، وما عقب ذلك إلى آخر حياته، إنْ أرّخْنا لتجربته الخاصّة في الكتابة مرورا من بداياتها الأولى إلى اللاّحق منها.

وإذا ” ورقات قديمة” ابتداء في مسارّ الكتابة الشّعريّة وإنْ وردت في خاتمة ” قصائد للمطر الأخير”.

12 -محصّل شاعريّة الألم : دلالة الموت بل دلالته المرجعيّة:

” كتُبتْ قصائد هذه المجموعة عاميْ 2000و 2006″. هذا ما أورده الشّاعر في بدْء ” قصائد للمطر الأخير” إلاّ أنّ ” ورقات قديمة” المماثلة في آخر” قصائد للمطر الأخير” تعود إلى ما قبل 2000 بأكثر من عقديْن، إذّْ حرص الشّاعر على التّأريخ بها لبداياتها الأولى في الكتابة الشّعريّة، وهي تذييل للمجموعة، بل تبدو على هامشها في حين يعرض سؤال تسلسل القصائد الأخرى التّاريخيّ لتمثّل حالات الشّاعر تبعا لتعاقب اللّحظات الزّمنيّ وسياقاتها الدّالّة عليها.

إنّ الابتداء ب “كائنات هاجر” الضّوئيّة مرتبط بأوّل سنة 2000، إذْ يُرجّح أنّ وفاة الابنة قريبة من هذا التّاريخ، كأنْ تتحّد بنهاية تسعينات القرن الماضي. ومن المفترض أنْ تتصدّر المجموعة الشّعريّة اعتبارا للتّسلسل الزّمنيّ ” مشاهد من عنّابة” الّتي تشير إلى عشريّة الدمّ بالجزائر ( تسعينات القرن الماضي) ، مثّلها يُنتظر أن تأتي بعدها ” قصائد للفتى الغريب”، وهي المهداة إلى ” روح الشّاعر رضا الجلاّلي المتوفىّ في 17 جانفي 2000 تليها قصائد ” دوز” غير المؤرّخة ثمّ قصائد لوردة الرّمل ” الّتي نُشرت بمجلّة ” المسارّ” التّونسيّة ( العدد 71، 1 ديسمبر 2005)، مع الإشارة إلى أنّ وفاة محمّد المهدي بن نصيب مؤرّخة عام 2003.

أمّا قصائد المجاميع الأخرى فهي غير محدّدة بأزمنة، وتعاقبها لا يثير أيّ تساؤل بخصوص ترتيب القصائد الزمنيّ.

وإذا الثّابت أنّ الشاعر تعمّد تذييل ” ورقات قديمة” ( قصائد البدايات، بل مقتطفات منها مثلما أخّر ” مشاهد من عنّابة” إلى ما قبل التّذييل وأبرز في مقدّمة مجموعته الشعريّة ” كائنات ” هاجر” الضوئيّة”، ولم يلتزم قياسا بالسابق واللّاحق بخصوص قصائد المجموعات الصّغرى الأخرى حتّى لكأنّ مجموعة ” قصائد للمطر الأخير” خاضعة لترتيب عكسيّ، إذْ لا أهميّة في نظر الشّاعر لتسلْسُل القصائد الزّمنيّ، وذلك لاشتراكها في أداء الألم التفاتا إلى الماضي المتعدّد بمدى الاقتراب من زمن نشر المجموعة الشعريّة أو الابتعاد عنه.

والثّابت الآخر أنّ أنا- الشّاعر هو الضّمير الحاضر في مجمل القصائد، وهو الذّي مارس لعبة وصف الحالات تبعا لسياقات مختلفة وبوعي زمنيّ حادّ يرصد كارثة الوجود من خلال حدث الموت المتكرّر الّذي أصاب الابنة والصديقيْن والمكان أيضا ( الصّحراء) وموت الأنا أيضا المؤجّل إلى حين…

إنّ الموت، كما يصفه فلاديمير جانكلفيتش، (Vladimir jankélévitch) حتميّ منذ الولادة، وعلى امتداد الحياة، وهو الملازم لها وأفقها الّذي به تنقضي ( 5) ، كما أنّ الموت حال وعي مرتبطة بثالوث ضمائر : هو الآخر البعيد المجهول، والأنا المعلوم بإحساس حادّ تراجيديّ، وما بين الضّميريْن المذكوريْن أنت الّذي يختصر مختلف الضّمائر القريبة من الأنا إفرادا وتثنية وجمعا ( 6).

إنّ لموت ” هاجر” والصّديقيْن الشاعريْن دلالة رمزيّة خاصّة حوّلت الرّثاء من دائرة التّبعيد القديم بين الرّاثي والمرثيّ إلى تداخُل بينهما، فاستحال بذلك الرّاثي إلى مرثيّ، وهو الرّاثي لذاته ضمْنا، إذْ مثّل المرثيّ دلالة مُضمرة لانقضاء أنا- الشّاعر الرّاثي في قادم الزّمن، كما أسلفْنا.

وإذا أفق الأنا الكارثيّ يمرّ عبر هذه الحال التّراجيديّة، كما وصفها فريديريك نيتشه Friedrich Nietzshe)) في  المعرفة البهيجة ، كقوْله: ” خلف أيّ شخص يمثل ظلّه (…) لأنّ الموت والصمت حالتان متعالقتان من الوثوق، وهما الدالّتان على مصير الإنسان” ( 7).

وإنْ ذهب آرتر شوبنهاور (Arhrur Schopenhauer ) إلى أنّه من غير الموت يصعب التّفلسف، ( 8) ، ففي تقديرنا أنّه من الصّعب، بل من غير الممكن أصلا، التّوصُل إلى الإبداع الفنّيّ، وإلى الإبداع الشّعريّ تحديدا من غير وعي الموت.

الموت، هنا بناء على السّابق، يظهر تشميلا في حدث الانقضاء في اتّجاه المرثيّ والفقدان في اتّجاه الرّاثي، بما يرد من أفعال التفات مختلفة في تمثّل عبد اللّه مالك القاسمي للزمن والوجود، وهو يظهر تخصيصا بموت هاجر والصّديقين الشّاعريْن وموت الصّحراء مجازا بعد الّذي أصاب وجودها من انتهاك للقيمة وتسليع للمعنى.

كذا الوجود فهو حدث مشروط بالعدم ابتداءً وانتهاءً، وهو المسكون به ليكون بذلك نفاده تأجيلا أو تعجيلا بما حدث للقريب ( الابنة في مقام أوّل والصّديقان في مقام ثان)، وعلامة رمزيّة، إذْ لموت هذا القريب وقع عميق مُدوّ في نفس الشّاعر استباقا دلاليّا لموْت الأنا القادم.

هو الرّثاء، إذن، في ” قصائد للمطر الأخير” لعبد اللّه مالك القاسمي. رثاء الأنا قبل رثاء الآخر القريب، ورثاء الأنا أيضا برثاء هذا القريب، بدلالة النعي المشترك بينهما حدوثا وتأجيلا لحدوث.

فهذا الإحساس المرهف العميق بالانقضاء مثّل حدثا إبداعيّا شعريّا لافتا للنّظر في مسارّ تجربة عبد اللّه مالك القاسمي الشّعريّة.

لقد مضى الشّاعر في حال سبيله ليترك لنا أثرا، صدى بعد صوت، نصوصا شعريّة لا كغيرها من النّصوص في سابق ما كتب، ذكرى لألم عاصف، جنون محبّة نادرة، إبداعا شعريّا متفرّدا مختلفا، شهادة موجود على وجود كان ثمّ اضمحلّ…

الهوامش :

1 – عبد اللّه مالك القاسمي،  قصائد للمطر الأخير ، دار سحر للنّشر،تونس 2006.

2- Hans Georg Gadamer , “vérité et méthode…”, Du Seuil ,Paris : 1976.

3 – جبرا إبراهيم جبرا،  الفنّ والحلم والفعل ، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنشر ،بيروت  1986.

4 – مقولة هيدغريّة، نسبة إلى مارتن هيدغر، وهي الأساس الأوّل لمفهوم هيدغر للموجود(étant (في تواصله بالوجود ( être).. انظر:

Martin Heidegger, ”  Etre et temps”, France : Gallimard, 1964

5Vladimir Jankélévitch, ” la mort “, Flammarion p 32

   6Ibid , p 29

7Friedrich Nietzche , “le monde comme volonté et comme représentation”,Paris : Librairie Félix Alcan,1912, p 2111

8Arthur schopenhaur , ” le monde comme volonté et comme représentation ” , Paris : librairie Félix Alcan , 1912 , p 2

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*