أرشيف تعاليق محمّد صالح بن عمر النّقديّة على الشّعر:9 : قصائد تقى المرسي: 9- 1: تُشرقُ فوضايَ

تقى المرسي

 

كمنْ يستسقي الغيمَ في كهفٍ مظلمٍ .. أبتدئُ اللّيلةَ بالصّمتِ ..  لا نوافذَ تثرثرُ ، .. أو نهارَ..! ليس هذا وقتَ النّومِ ؛ فمن يسكبُ في جفنيَّ النُّعاسَ ؟! أتكئُ على آخرِ طفلٍ يعدو بدمي .. وأغوصُ بقلبي .. أستحمُّ بقلبي مرّتين ؛ فتُشرقُ فوضايْ ..!!

 

إنّ الصّورة الحالكة الأليمة التي ترسم فيها الشّاعرة حالتها النّفسيّة في هذه القصيدة آخذة في أن تصبح قاسما مشتركا أي ثابتا من الثّوابت في الشّعر العربيّ المعاصر  منذ حدوث ما سُمّي “الرّبيع العربيّ” . فالكيان العاطفيّ للمبدعين العرب – ومنهم الشّعراء-  قد تأثّر بالغ التّأثر  بما  تعرّض إليه من اهتزاز عنيف،  نتيجة  استفحال التّعصّب وتوجيه أصابع الاتّهام إلى الفنّانين والمفكّرين الأحرار وتهميشهم المتزايد  . فانبرى كلّ منهم يفضي بما يعتمل في ذاته بأسلوبه الخاصّ ووَفق الحالة التي هو عليها . ففي هذه الأبيات التي تعرضها علينا الشّاعرة المصريّة تقى المرسي ستّة أصناف من المشاعر السّلبية تخترق روح  الذات المتكلّمة وتؤُزُّها أزّا . وهي إحساس بالحرمان من العناية والتّقدير جاء التّعبير عنه على  هيئة عطش شديد (كمنْ يستسقي الغيمَ في كهفٍ مظلمٍ .. )  وأرَقُ اكتئاب  حادّ (ليس هذا وقتَ النّومِ ؛ فمن يسكبُ في جفنيَّ النُّعاسَ ؟!) ورعب من التّهرّم يلوح في العودة اللاّواعية إلى الطّفولة (أتكئُ على آخرِ طفلٍ يعدو بدمي .. ) وركون إلى العزلة المادّيّة (لا نوافذَ تثرثرُ ، .. أو نهارَ..!) وانطواء على الذّات  (وأغوصُ بقلبي ..أستحمُّ بقلبي مرّتين ؛)  وتشظٍّ ذهنيّ ونفسيّ  (تُشرقُ فوضايْ ..!! ) . وهي أحاسيس إن اجتمعت كانت علامة على الانهيار. أمّا فنّيّا فإنّ أسلوب الشّاعرة يتميّز، كعادته،  بدرجة عالية من التّجريد كان من رائق آثاره تنقية لغتها  من دلالات الكلام العاديّ المبتذلة وإخصابُ القصيدةِ صورا مُربكة وألوانا من العدول المؤتلقة.وهو ما يكشف عن مدى ما تتمتّع به هذه الشّاعرة من حساسيّة جماليّة في منتهى الرّهافة .

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*