حوارات “مشارف” : 1- مع الشّاعرة البولنديّة مونيكا دال ريو

مونيكا دال ريو

 

من هي مونيكا دال ريو؟:

ولدت مونيكا دال ريو بفرصوفيا ( بولونيا).زاولت دراستها بأكاديميّة فريديريك شوبان بفرصوفيا ثمّ بدار المعلّمين العليا للموسيقى بباريس. هي متعدّدة المواهب، إذ هي عازفة محترفة على البيانو ورسّامة وقصّاصة وروائيّة وشاعرة. في مجال العزف على البيانو هي متخصّصة في سمفونيّات شوبان ،ذات شهرة عالميّة ، إذ تقدّم حفلاتها على انفراد أو رفقة عازف آخر على خشبات أكبر الفضاءات الموسيقيّة في العالم .أمّا في ميدان الرّسم فهي متأثرة بالمدرستين : الانطباعيّة والتّجريديّة.وأمّا نصوصهاالسّرديّة – ومعظمها بلغتها الأمّ البولونيّة – فهي تتنزّل في اللّون التّجريبيّ وتستثمر فيها، على نحو واسع، الكابوس واللاّوعي لاعتقادها أنّ الحياة التي نعيشها ليست سوى حلم وأنّ الرّوح التي تسكنها هي روح إنسان آخر عاش في عهد غابر منذ آلاف السّنين .وأمّا شعرها – و إن كان متأخّرا إذ لم تصرف إليه جهدها إلاّ في السّنوات الخمس الأخيرة وتحديدا منذ استقرارها بأديسا بابا ( أثيوبيا )، فهو أشبه ما يكون بالانفجار.ذلك أنّها في هذا الظّرف القصير نسبيّا كتبت أكثر من ثلثمائة قصيدة.أغراضيّا لا يخرج شعرها البتّة عن شواغلها النّفسيّة والوجوديّة التي بيّنّاها أعلاه.أمّا أسلوبيّا فتُلمح فيه بوضوح آثارُ مواهبها الأخرى لاسيّما المهجة السّرديّة التي تسمه على نحو عميق والجوّ السّمعيّ وفيض الألوان اللّذين يسبح فيهما.وهو ما يجعل الحدود القائمة بين الأجناس الأدبية والفنون تنهار في قصائدها تلقائيا دون حاجة إلى تمشّ منهجيّ مخطّط له مقدّما.
لها روايتان : الكوابيس المزعجة للمفتّش دجين ( بالبولونيّة)، فرصوفيا 1996 – على أرصفة باريس ( بالفرنسيّة) ، دار إشراق، تونس 2011.
ومجموعتان قصصيّتان : وإذا لم تكن الحياة سوى حلم ( بالبولونيّة)، فرصوفيا) ، 1998 ثم ترجمها إلى العربيّة محمّد صالح بن عمر، تونس 2002 – على سواحل قرطاج ، ترجمها إلى العربيّة محمّد صالح بن عمر، تونس 2005 ومجموعة شعريّة :أثيوبيّات، دار أديلفر، باريس 2017.

 

س 1: قضيّتِ طفولتكِ وفترة مراهقتك ببلادك: بولندا ثمّ ما إن أُتيحت لك أوّل فرصة لمغادرتها  حتّى شددتِ الرّحال إلى فرنسا وفي نيّتك عدم العودة.ولم تعودي إليها فعلا إلاّ بعد سقوط النّظام القائم آنذاك .فهل كان الوضع في بلادك لا يحتمل إلى حدّ أن دفع بمثقّفة شابّة مثلك في ذلك الوقت إلى الهروب والاغتراب ؟

مونيكا دال ريو: منذ أن ظهر الإنسان على سطح الكرة الأرضيّة وهو يحمل في ذاته روح البدو الرّحّل .

أعتقد أنّ استحالة تنقّلي في ذلك العهد أي في ظلّ النّظام السّابق هي أكثر شيء كنت لا أستطيع تحمّله.فجوازات سفرنا كانت محتجزَة في مكاتب الميليشيا.وأنا نفسي كنت أحسّ بأنيّ معتقلة .

حين أفكّر في هذا الموضوع  أقول إنّ ذلك الوضع هو الذي دفعني بوجه خاصّ على اتّخاذ قرار البقاء في باريس.

بطبيعة الحال، هناك أيضا جانب المغامرة .ففي فترة الشّباب يكون المرء مسكونا بالأحلام.وعلاوة على ذلك ففي ما يخصّني أنا  كنت دائما مسكونة بالأحلام.

س 2 :تنقسم مسيرتك الأدبيّة إلى قسمين كبيرين:  الأوّل  يمتدّ من سنة 1998 إلى تاريخ انتقالك إلى الإقامة بأثيوبيا سنة 2010 وقد اتّسم بانصرافك كلّيّا إلى الكتابة السّرديّة (روايتان ومجموعتان قصصيّتان) ثمّ  فجأة حلّ الشّعر محلّ  السّرد وبإصرار لافت غير عاديّ (أكثر من 500 قصيدة في ثماني سنوات  ).فكيف تفسّرين هذا التّغيير المفاجئ وغير المعتاد؟

مونيكا دال ريو: منذ طفولتي الباكرة وأنا أكتب الشّعر.فقد كتبت قصيدتي الأولى وأنا في سنّ السّابعة.وكانت بعنوان “اللّيل يخيّم على الممرّ الجبليّ”.ففي ذهني آنذاك أنّي قد  سافرت بعدُ.ثمّ تواصلت مغامرتي الشّعريّة تلك إلى أن غادرت بولندا إلى باريس . ثمّ سكت شيطان الشّعر فيّ ووجدت نفسي غير قادرة على التّعبير بلغة القريض.وعلاوة على هذا فقدت الرّغبة في كتابة  الشّعر.ومنذ ذلك الحين ،طفقت أكتب الرّوايات والقصص دون سواها وبلغتى البولنديّة كعادتي.

أو إذا مثّلنا ذلك بآلة موسيقيّة ، أمكننا القول إنّ وترا حسّاسا فيّ  ربّما تعرّض للمسّ فانجرّ عنه ذلك السّيل الجارف من القصائد.

ومن جهة أخرى أعتقد أنّ بعض اللّغات مهيّأة لمراس الفنّ الشّعريّ أكثر من غيرها فيكون التّعبير بها شعريّا أفضل من استعمالها في كتابة  النّثر. وفي أثيوبيا قرّرت كتابة قصائدي مباشرة باللّغة الفرنسيّة بدلا من لغتي الأصليّة .وفي اعتقادي أنّ ذلك هو الذي ربّما حرّرني.

س 3 : يحتلّ الحلم مكانة بارزة في نصوصك ، سواء منها السّرديّة أو الشّعريّة .لكنّ بعض هذه النّصوص يغلب عليها بكلّ  وضوح الطّابع الواقعيّ.فهل يتعلّق الأمر بتطوّر أم ليس هو سوى عدول ظرفيّ عن الخطّ الأساس ؟

مونيكا دال ريو: في الأحلام كلّ شيء ممكن.لكنّي لا أقود أحلامي إلى حيث أريد .بل هي التي تفد عليّ وفقا لمشيئتها .فإذا هي  ملوّنة أو مرعبة أو مليئة مغامرات أو محذّرة أو دالّة  أو رمزيّة …أحيانا تكون قريبة أو تكاد من الواقع وأحيانا أخرى غريبة الأطوار.في أحلامي أطير كالعصفورة ، فأتحوّل إلى حيوان عجيب ،أو  أتّخذ شكل شجرة ، كما أستطيع  تحويل الآخرين.أمّا في الحياة الحقيقيّة فالأمر أعسر من ذلك بكثير.

4- تؤلّف الرّحلة موضوعا من الموضوعات الرّئيسة التي تدور عليها نصوصك.لكنِ يبدو أنّ الأمر يتعلّق برحلات تخوضينها داخل الرّوح وفي مجاهل اللاّوعي أكثر من كونها تجري في المكان الحقيقيّ.ما رأيك في هذا التّأويل؟

مونيكا دال ريو: أعتقد أنّ مجرّد بقائي  ثلاثا وعشرين سنة حبيسة فقاّعة معزولة  هي فقّاعة عازفة على البيانو  تشارك  في الحفلات ،مقطوعة عن العالم الخارجيّ قد نمّى فيّ ضربا من الارتحال إلى الدّاخل.فكنت أحاول إقناع نفسي  بما ذكره الفيلسوف إمّانوال كانْتْ الذي لم يغادر قطّ  مسقط رأسه  طيلة حياته من أنْ ليس ضرويّا أن تغادر بيتك لكي تبدع . لذلك سافرت  عبر الكتب والحكايات والقصائد التي كنت ألتهمها في كلّ لحظة تتاح لي.

5-  أنت عازفة على البيانو ذات شهرة عالميّة .وقد شهدتُ شخصيّا  الحفل الذي قدّمتِه بقصر البارون دَرْلنْجي بسيدي أبي سعيد بتونس والذي غصّ بالجمهور.وفي هذا السّياق أسألك :إذا كانت العلاقة بين الموسيقى والشّعر علاقة وثيقة لقيام هذا الفنّ اللّغويّ على الإيقاع فهل يمكن القول أيضا إنّ لمهجتك الموسيقيّة تأثيرا أيضا في مهجتك السّرديّة؟ وإذا كان هذا صحيحا فكيف يُلمَس هذا التّأثير في قصصك ورواياتك؟

مونيكا دال ريو: الموسيقى جزء لا يتجزّأ من حياتي.فهي تحيط بي وتسكنني منذ أن جئت إلى هذه الدّنيا.كلّ ذكرياتي وكلّ أفكاري مرتبطة بها.لهذا يبدو لي أنّه من الطّبيعي أن تؤلّف جزءا من كتاباتي أيضا

6- السّؤال نفسه يثار بالنّسبة إلى موهبتك الثّالثّة وهي الرّسم .فأنت أيضا رسّامة ذات انتشار عالميّ.لكنْ خلافا للمهجة الموسيقيّة التي تؤثّر وجوبا في كتابة الشّعر إذا كان الشّاعر يتعاطى فنّ الموسيقى مثلكِ، فإنّ مهجة الرّسّام  تؤثٌر خاصّة في مستوى الوصف إذا كان الكاتب السّرديّ رسّاما أيضا.فهل تحسّين بوجود هذا التّأثير في قصصك ورواياتك؟

مونيكا دال ريو: الفنون عندي لا يمكن الفصل بينها.فأحدُها يؤثّر في الآخر.والموسيقى والكتابة والرسم تتكامل وتتآلف مرّة تلو أخرى  ويظهر أثر أحدها في الآخر.

عدّة فنّانين خاصّة في عصر النّهضة و في غيرها من العصور كانوا يمارسون عدّة فنون في وقت واحد. مؤخّرا زرت معرضا خُصّص  للفنّان الفرنسيّ أوديلون رودون (1840 -1916)الذي يمكن أن أسوقه  هنا مثالا لما ذكرت. فقد كان رسّاما وموسيقارا وكاتبا .ولكم ذهلتُ واستمتعت حين وجدت مادّة لوحاته الطّاغية هي الأحلام.

7 الأدباء الأوروبيّون الذين كتبوا عن  المشرق وإفريقيا أمثال شاتوبريان  وأندري جيد وموباسّان …) قد انساقوا وراء نزعة الإعجاب بما هو غريب عجيب في تلك الأصقاع. .فهل أحسست بمثل هذه النّزعة  عند كتابتك  ما كتبته من نصوص في أثناء إقامتك بتونس وأثيوبيا ؟

مونيكا دال ريو: طبعا بلا شكّ  أوّل ما يبادر إليه الأوروبيّ عند زيارته لهذه الأصقاع البعيدة هو الإحساس بالغريب العجيب أو البحث عنه  أو انتظار رؤيته .ثمّ تنقلب الأمور إلى عكسها  حين يبدأ الزّائر في النّظر إلى المشهد نظرة معمّقة بفضل الصّداقات والتّعوّد على نمط الحياة اليوميّة و الثّقافة المحلّيّة.لكنّ هذا يقتضي  وقتا كافيا .وقد كنت شخصيّا  محظوظة بالإقامة في تونس خمس سنوات وفي أثيوبيا أربعا.

أعتقد أيضا أنّ وجود الأجنبي نفسه وجها لوجه مع حضارة أخرى من شأنه أن يغنيَ  رؤيته ويكوّن لديه أفكارا جديدة ، كما يسهم في فتح أجنحة الإلهام لديه على مصراعيها .

8- إزاء الأحداث المأسويّة التي تجري في سورية والعراق واليمن وليبيا والتي وراءها مؤامرات حيكت ولا تزال في الغرب مع تواطؤ  أنظمة عربيّة ثريّة هل تعتقدين أنّ الحوار بين الغرب والشّرق لا يزال ممكنا؟

مونيكا دال ريو :  نعم للحوار …ولا بدّ من ملازمة الانفتاح.لأنّه  في حالة  الانغلاق   يستحيل فعل أيّ شيء. وفي تقديري الأمر لا يهمّ العلاقة بين الشّرق والغرب.بل أعتقد أنّ قوى الشّر هي التي تتصارع.

لست سياسيّة .وما أبعدني عن السّياسية.لكنّي لو كنت كذلك لبذلت قصارى جهدي لكي تعمّ المحبّة والسّلام العالم بأسره.

9- هل قدّم لك انتماؤك إلى منتخبنا الشّعريّ العالميّ شيئا ما؟

مونيكا دال ريو :  طبعا بلا شكّ مكّنني انتمائي إلى هذا المنتخب من التّعرّف إلى الكثير من الشّعراء والشّاعرات الممتازين ومن أن أدرج في كتاب  بالغ الأهمية وهو كتاب مختارات الشّعر العالميّ الذي ضمّ كلّ التّيارات الشّعريّة .

 

10 – ما هي مشروعاتك القادمة ؟

مونيكا دال ريو :  ديواني الثّاني – وعنوانه صائدُ النّجوم – مهيّأ للطّبع ولا ينتظر إلاّ النّاشر الحازم الذي يقبل مرافقتي في هذه المغامرة  الشّعريّة الجديدة.

من جهة أخرى أنا بصدد كتابة رواية أيضا عنوانها ليل المهاوي استوحي أطوارها كعادتي من رحلاتي.

وفضلا عن كل ّذلك عندي مشرعات كثيرة بدأتُ بعضها وتركتُ أخرى على مدى الأيّام .وهي تنتظر كلّها داخل القمطر  لحظات خروجها إلى النّور .

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*