حافلةُ الحياةِ: قصّة قصيرة : نور نديم عمران – اللاّذقيّة – سورية

نور نديم عمران

لم تمض ليلته  بسهولة بل بدت طويلة جدّا،بحيث تستوعب عرضًا مفصلاً للسّنوات الأربعين الشّقيّة ،إنّها عمره الذي قضّاه في وطنه مغتربًا عن السّعادة والرّاحة ،كان يتألّم مع كلّ مشهد يراه وهو يودّع أملاً ظل يملؤه زمنًا بأنّ الغد أفضل.
أشرقت شمس تمّوز وخيّم ظلام شتويّ في نفسه ؛أسرع ليغلق السّتائر. فانفردت دفعة واحدة لتشكّل شاشة عرض كبيرة فتغدو المشاهد التي أراد الهروب منها أكثر وضوحا.
ارتدى ملابسه على عجل ..(أنا خارج ..سأتأخّر ).
لم ينتظر ردّ أمّه العجوز .فذاكرته حفظت كلّ حرف منه،كأنّه صار موسيقى تصويريّة لمسلسل حياته معها.
استقلّ أوّل حافلة مرّت دون أن يكترث لوجهتها
جلس قرب شيخ كبير أو لعلّه توهّم..في الحقيقة لم ينتبه… كان نظره مركّزا خارج حدود الحافلة المليئة بوجوه كئيبة .
غازلته الشّمس …عبثا…زادت من حرارتها .فلم يدر وجهه ،إنّه يفقد إحساسه بكلّ شيء .
أمسك الشّيخ بيده..: يا بنيّ..يا بنيّ ..هوّن عليك….امسح دمعك .
تحسّس الرّجل البائس دمعاته بخجل وقهر:
آه يا عمّاه….لا تبكي الرجال لتوافهَ ..اليوم أكمل الأربعين..نعم ..إنّها أربعون سنة شقيّة …حرصت على إرضاء الوالدين..كنت رحيما بالأخوات…أخلصت في عملي…..كنت أمنّي النّفس بأنّ الأمور ستتحسّن
يوما..وها أنا لم أوفّق في الزّواج لأنّ ظروفي الماديّة حالت دون ارتباطي بمن أحببت
لم أكمل دراستي .فقد اضطررت للعمل في دكّان أبي بعد رحيله لأعيل أسرتي..
كبرت شقيقاتي .فشقيت لتزويجهن ولم أرتح يوما من خلافاتهن مع أزواجهنّ حتّى اضطررت  إلى طردهن جميعا…وأمّي التي كانت تصبّرني بدعواتها  مرضت وبالكاد تتعرّف إليّ أو تحدثّني لأنّها تظنّني غريبًا احتلّ بيتها.
فأيّ حياة تلك التي أحياها..أو ليس الموت رحمة في حالتي؟
حاول الشّيخ تهدئته بكلّ الكلام الذي يمكن أن يقال…لكنّه لم يفلح .فاليأس ملأ قلب الرّجل ولم يترك حيّزا من فراغ
صمت قليلا ثمّ قال له:هات كفّك لأقرأ لك طالعك..
ضحك اليائس بتمزّق: أو جاهل أنا بحظي حتّى أفعل؟!
– ماذا تخسر يا ولدي…هاتها؟
أمسك بكفّه لدقيقة..تجهّم وجه الشّيخ  وأعادها قبل أن يقول بتردّد:
– بمَ سأخبرك؟
– لا تتردّد يا عمّ…قلها ..سأموت وأرتاح..بشّرْني بالله عليك.
تألّم الشّيخ لرغبة الرّجل في وضع حدّ لحياته..صمت لبرهة ثمّ قال:خطوط حياتك قصيرة جدّا للأسف….لكنّها تتماشى مع خطوط متأخّرة للسّعادة والأمل،نعم سيكون الفرح صديقك قريبا.
– بشّرك الله بالخير…السّعادة بانتظاري ..كيف ومتى…؟
يا إلهي ما أسهل قول ذلك..دعني لشأني…دعني أيّها الرّجل الطّيّب.
أغمض عينيه لحظة ليفتحهما على صوت صراع وعويل ..
كانت الحافلة تدور بهم وتنقلب على طريق ترابي ..بدا الموت قريبًا جدّا فابتسم له وفتح ذراعيه وهو يصرخ  كمجنون:بشراك يا عمّاه ..بشراك..
فجأة توقّف كلّ شيء وقد وقع نظره على عيني طفلة صغيرة تختنق بضغط ثقل أمّها المصابة عليها .
تلمّس جسده …تأكّد أنّه ما زال حيّا،نهض بسرعة… أزاح المرأة بهدوء عن ابنتها وأخرجهما من الحافلة..عاد لينقذ رجلاً علقت ساقه بين مقعدين..وهكذا مرّ زمن قبل أن يتذكّر الشّيخ …بحث عنه فلم يجده..سأل النّاس عنه لم يتذكّر وجوده أحد
اخبره  بعضهم أنّه لا بدّ  متوهّم  ولكنّه لم يصدّقهم،لقد كان إلى جانبه وحدّثه ولمسه.
أجريت له الفحوص اللاّزمة في المشفى الذي أسعف إليه..لا شيء خَطِرٌ..تفقّد الرّكّاب ..اطمأنّ عليهم وخرج من المشفى دون أن يصدّق شيئا ممّا حدث.
فتح باب الدّار..عادت الموسيقى إلى حياته:هل هذا أنت يا بنيّ؟
– أمّي..هل عرفتني هذه المرّة؟..الحمد لله.
– بني…هل هذا أنت؟!
– نعم إنّه أنا..
– تعال يا حبيبي… افتقدتك اليوم كثيرا؛
لقد أحضرت لك طبقا شهيّا ستحبّه
سلمت يدك يا أمّي …. ما أحلى الحياة بقربك ، هل اتّصلت شقيقاتي؟
لم لا ندعوهنّ لتناول الغداء معنا ؟
الحياة قصيرة يجب أن نستمتع بها ، من يدري قد نموت في أيّ لحظة ، فلنحيا كلّ لحظة بحبّ و فرح …. ما رأيك بذلك يا أمّي؟
ضمّته الأمّ بحنان شديد قائلة:
جعل الله السّعادة رفيقتك كلّ يوم من أيّام عمرك الباقية يا ولدي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*