نحتاجُ عقولاً تتجدّدُ :جوتيار تمر – كوردستان – العراق

جوتيار تمر

 

إنّ التحجر الفكري هو أساس التخلف والتلاشي الحضاري وزوال القيم الإنسانية في أيّ مجتمع،  كما يقول ” رؤوف بوقفة ” ، فحين نتوقف عن التفكير ، عن التطور ، عن الاستمرارية التأملية والتفاعل مع النفس ومع الأخر ومع الكون، نقحم أنفسنا في دائرة ضيقة لا مخرج منها، وإذا ما رافق التحجر الفكري ، التحجر العقائدي  الذي هو موقف فكري جامد وقاطع يقوم على فرض الأفكار دون مناقشة – وهي مرادفة لضيق الأفق والجمود والتصلب والتشنج والتسلط والإرهاب الفكري والعقائدي-  فإنّنا بذلك ندخل طور التلاشي الحقيقي، بحيث يصعب معالجة حالتنا الوجودية، ونتحول إلى أدوات هدم وخراب بل إلى طفيليين نساهم في تدمير الوجود الإنساني ببطء  من الداخل.. ويصعب في الوقت نفسه معاينة المرض فيتفشى في البنية الأساسية لوجودنا ونصبح مشلولين تماما وعاجزين عن التقدم والتطور والإنتاج معاً.

على هذا الأساس حين نقيم المجتمعات الشرقية عامة والدينية فيها خاصة، نلامس عمق الهوة التي تبعد هذه المجتمعات عن الركب الحضاري السائر في أرجاء المعمورة، بالطبع هذا لا يعني أنّ الشرق وحده يعيش هذه الحالة المَرَضية المستعصية، لأن أغلب مجتمعات العالم الثالث او دول الجنوب تعيش هذه الحالة كل واحدة وفق معاييرها الخاصة، ولكن حين أخص بالذكر  المجتمعات ” الشرق اوسطية” لأننا نتكلم بواقع الحال الذي نعيشه ونراه ونعاينه عن قرب بل ونسهم في صيرورته – وهذا ما يدعونا إلى الخروج عن المألوف في الصياغات البلاغية أحيانا، وحتى عن السياقات الوجودية الحاضرة والمؤثرة  على نحو مستمر.

فالمجتمعات الشرقية لا تعيش التحجر الفكري الهادم لكل القيم الإنسانية فيها فحسب، بل إنها تستند في قتل الملكات الفكرية المتقدة بالتحجر العقائدي أيضا، ودون أن نمس الأصوليات العقائدية ضمن دوائر التشريع الأصل ، أو الشارع الأصل، انما وبحسب المقتضيات الواقعية التي نجدها تتحكم في العقلية الشرقية منذ التكوينات البشرية الأولى، والتجمعات التي تحوّلت إلى مُدينات ودويلات، تتحكم بالموجودات سواء عن طريق السلطوية التي ترتقي إلى اللهوية او الكهنوتية التي تساهم السلطوية الأخرى في ترسيخ المبدإ  القائل بالتحجر العقائدي المؤدي بالتالي إلى التحجر الفكري والعقلي معاً.

والتاريخ الشرقي أوسطي لا يشهد فقط على نمو الجوانب العمرانية والحضارية وحتى النظم السياسية والتي قد يستشهد بها الشرقي ليقول لي بالتناقض في المقولات التي أقوم بصياغتها ألان، ولكن الأمر لا يتوقف عند البناء الشاهق، والعجائب التي تم تدشين الإنسان الشرقي لخلقها لتخليد اسم الإله أو السلطة الحاكمة، إنما أتحدث عن الأساس في العمل الوجودي الإنساني ” البشري” على الخراب الأرضي، ودون الاستشهاد بالأمثلة التي يتبناها أغلب الشرقيين ويتباهون بها بكونهم كانوا رواد العلم والفلسفة والى غير ذلك من الترادفيات اللامنطقية .. إنما التاريخ يشهد أيضا على الجمود العقلي والفكري للشرق، وليسأل كل شرقي نفسه إلى أي درجة تغيرت العقلية الشرق أوسطية في القرن الحادي والعشرين..؟ ، إنه السؤال الذي يجيب على تلك التحديثات اللامنطقية التي تستقي من التاريخ وتتوهج إعلامياً فقط، دون ان تعطي الإمكانية على فهم واضح للصيرورة الحدثيّة التاريخية التي تخلق ذلك الأنموذج التطوري الاستمراري ” الديمومة والديناميكية”  والتأمل والتعامل مع النفس ومع الأخر،  فهذه المجتمعات على الرغم من انسياقها الواهم وراء ذلك التاريخ الذي حفل لفترة بنوع من التوهج والتطور العلمي والعمراني الذاتي، إلا انها في الحقيقة والواقع مجتمعات ” آفة ” تستهلك أكثر مما تنتج، تعيش كالطفيليات على الغير، وتهدم أكثر مما تُعمر، ولم تزل تستند على مبدإ  رفض الأخر إنسانياً ودينياً وفكرياً وعقلانياً وعقائدياً، لأنها باختصار لم تزل تحتفظ بالعقلية القديمة التي كانت تبحث عن كيانات قبلية مستقلة تريد أن تحكم باسم السلطوية الإلهية أو الكهنوتية التي تساهم في رفع منزلة السلطوية الحاكمة وأحيانا الكهنوتية التي تسعى لفرض نفسها  باعتبارها سلطة واحدة لا غير .. فأصبحت تقتل وتدمر وتسخر البشرية لإغراضها كما كانت من قبل.

ووفق هذا التوهم وتلك التداعيات لم تزل المجتمعات الشرق اوسطية تعيش حالة من فقدان الذات والهوية، وكأنها لا تستطيع الاستناد على المنطق والعقل في صرف أمورها وسيرها، فحتى الأديان لم تستطع أن تخلق داخل هذه المجتمعات ما يفضي إلى التخلي عن تلك الوهميات والانسياقات غير المنطقية، والبدء بمرحلة يمكن فيها للعقل أن يخرج من دائرة التحجر الفكري والعقائدي إلى دوائر التطور التلازمية التي تفرضها الوقائع والحقائق والتجديد، وحين نقارن بين الممكن والواقع سنجد بلا  شك عمق الهوة بينهما، فالممكن هو آخر ما يبحث عنه الشرقي كي يستحدثه، لكونه باختصار متمسكا بواقعه الوهمي الخيالي الراسخ في ذهنيته المتحجرة والمتجذرة في كينونته  غير القابلة للتطور بسبب انسداد المسامات العقلانية والتفكيرية والتجديدية لديه، فأصبح مهوساً بتراثه وبتاريخه، دون أن يسعى لإعطاء سمة الديمومة والاستمرارية لتلك الموروثات ولذلك التاريخ، وهذا الجمود دفع باحد الكتاب ليشخص بعض التلازميات المتحجرة للفكر الشرق أوسطي، ضمن أنموذج سلطوي ديني يعتبر أخر الأديان المتوارثة في الشرق( نحن نذكر هذه المقولة كمثال يمكن ان يساهم في توضيح ماهية التمسك بالقديم وفرضه على الحاضر المتجدد وليس من باب التنقيص للديانة الإسلامية )، حيث يقول ” د.لؤي صافي ”  إن التيار الإسلامي يتبنى مضمون التراث التاريخي ولكنه يسعى إلى تنزيله على أساس معاصر يتناقض معه في مستوى المقاصد والتكوين “فحركات الإسلام السياسي تتبنى نظريات الأحكام السلطانية التي طورها الفقهاء التاريخيون في القرون الأولى للإسلام، ولكنها تعمل على تنزيلها على بنية سياسية حداثية، وبالتحديد الدولة المركزية التي تتولى السلطة السياسية فيها مهمة تنظيم الحياة”، فحركات الإسلام السياسي هذه “لا تدعو إلى عملية تشريعية يرتبط فيها القرار التشريعي بالإرادة الشعبية الممثلة في المجالس النيابية، بل تصر على تطبيق الشريعة الإسلامية وفرضها على المجتمع السياسي وفق مؤسساتها التاريخية”..” ، وهذا بالطبع يمكن إسقاطه على باقي الديانات أيضا التي فيها الكهنوتية هي الحاكمة وهي التي يستمد منها السلطات السياسية مقاصدها باختلاف أنواع تلك المقاصد، وهذا بالضبط ما يسبب التحجر الفكري ويعيق الاستمرارية والتطور، لكونه عائقا غير طبيعي في المجتمعات الشرقية، فحين يتعلق الأمر بالدين والتشريع تتوقف عجلة الكون في الشرق الذي يلبس رداء الدين ظاهرياً، ويبيح ما ليس للدين علاقة به باطنياً.

ومن هذا المنطلق نجد السمة التحجرية  غير مستحدثة أو ضمن ما يسميه بعضهم  نظرية المؤامرة، إنما هي امتداد طبيعي وموروث في البنية الاجتماعية والسلطوية والكهنوتية الشرقية، حتى أصبحت متمكنة في الفرد والأسرة والمجتمع والدولة معاً، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأننا لا نحتاج إلى تيارات فكرية وسياسية مغايرة وجديدة ومختلفة،  لنقول للعالم إننا متحضرون ولدينا ديمقراطية وتعددية حزبية وفكرية ودينية وطائفية ومذهبية وقومية، إنما نحتاج بالدرجة الأساس إلى عقول متغيرة متجددة، تواكب الحدث الكوني وتساهم في  إحداث النقلة الايجابية للواقع العياني، دون الانقياد إلى المعيقات التي لا  تفسد التطور فحسب بل تجعل من الفرد والسلطة والكهنوت معا آفات تدمر المجتمعات من الداخل وتساهم في انحلالها على جميع الأصعدة..العقول المتغيرة التي تتغلب على التحجر الفكري والعقائدي،  على نحو يتناسب مع الرؤية الأصلية للوجود الإنساني.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*