أبيضُ وأسودُ : قصّة قصيرة: ريتا الحكيم – اللّاذقيّة- سوريّة

ريتا الحكيم

 

كلّ شيءٍ يوحي بكارثةٍ مُقبلةٍ، صَمْتُ الأنفاسِ وحشرجتُها وهي تؤوبُ إلى مُسْتقرّها، حتّى السّماء المُكفهرّة تُرسِلُ من حينٍ  إلى آخرَ تهديداتٍ بِقُربِ حدوثِ ما ليس بالحسبان بالنّسبةِ  إلى تلكَ الطّفلةِ المحشورةِ في زاويةِ الشّارعِ المُظلمِ الخالي من المارّة. أسْدَلَتْ على جسدِها النّحيلِ أسمالاً باليةً كانت قد عثرَتْ عليها مُلقاةً أمامَ أحدِ الأبنيةِ في أحدِ الأحياءِ الرّاقيةِ، يومَها تمنّتْ أن تجدَ بينها حذاءً تَدكّ فيه قدميْها الصّغيرتينِ بدلاً من سيرِها حافيةً، وأيضاً أرادَتْ معطفاً يقيها بردَ الشّتاءِ وصقيعهِ، لكنّ الحذاءَ كان أكبر من قياسِ قدمِها بكثير وأيضاً المعطف. بدتْ في هذه الملابسِ واحدةً من شخصيّاتٍ خياليّةٍ لحكايا الجدّات. يئنُ أسفلتُ الشّوارع تحتَ الكعبِ العالي للحذاءِ في كل خطوةٍ تخطوها.
لم تكنْ تعيرُ اهتماماً لنظراتِ المارّةِ وهُم يرقبونَها وعلى وجوهِهِم ترتسِمُ ابتساماتٌ خجولةٌ، لكنّ البعضُ منهم كان يتحاشى النّظرَ إليها، ربّما لأنّهم عاجزونَ هُم أيضاً؛ فخلفَ جدرانِ بيوتِهم تتوارى مآسٍ وويلاتٌ.
هذه هي المدينةُ المُقفرةُ في ساعةٍ متأخّرةٍ من ليلٍ ثقيلٍ يجثمُ على صدرِها وعلى صدرِ تلكَ الفتاةِ التي تبدو للنّاظرِ إليها كلوحةٍ سرياليّةٍ، تُخفي القذاراتُ المُتكَدّسَةُ على ملامِحِها، تساؤلاتٍ الإنسانِ في كلّ بقعةٍ في العالمِ حولَ عبثيّةِ الوجودِ في ظلّ ظروفٍ كهذه. تكهّناتي تعزّزت حين لمحتُها من نافذتي المٌطِلّةِ على الشّارع، تنوءُ بأسمالِها وهي تروحُ جيئةً وذهاباً بتوتّر بادٍ للعيان، وبين الحينِ والآخرَ تحكّ رأسَها ووجهَها وتتابعُ حركتَها الدّؤوبةَ دون أن يصيبَها مللٌ أو إعياءٌ. عادتْ إلى تلكَ الزّاويةِ المُعتّمةِ مُتّخِذَةً وضعيةَ القرفصاء، واضعةً رأسَها الصّغيرَ تحتَ الياقةِ المُمزّقَةِ، ويبدو أنها تستعدُ للنّوم؛ فلمْ يبقَ لبزوغِ الفجر سوى ساعات قليلة.
تسلّلَ النُعاسُ بخفةٍ في محاولةٍ منهُ لتغييبي عن متابعةِ المشهدِ المُخزي الذي يُخجِلُ الإنسانيةَ أمام قسوتِهِ ويجعلُها تتبرّأ من هذا اللّقب الفضفاض، نظراً لِما يحمل في طيّاته من تشويهٍ لصورتِها بأسافينَ تُدَقّ في كل حرفٍ فيه.
خارتْ قِواي واستسلمتُ لهُ قبلَ أن أشهدَ بقيّة الحدث.
أفقتُ على ركلاتٍ طالتْ كلّ عضوٍ في جسدي ودماءٍ تغطّي المكان. كانوا رجالاً كُثُر يتناوبون عليّ بأحذيتهم الأنيقة. وأنا القابعةُ في تلكَ الزّاويةِ التي كنتُ أرقبُ منها نافذةً ترفَلُ بستائرَ من القطيفةِ الزرقاءِ، وأراني خلفَها.
لململتُ أشلاءَ روحي وأسمالي، مبتعدةً عن دمائي ورحلتُ إلى مصيرٍ مجهولٍ، ربّما لن تكون له زوايا أختبئ فيها لأرسمَ حلماً آخرَ حتى لو كان بالأبيضِ والأسودِ.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*