المياهُ مُعتمةٌ .. والغرقى كثيرون : شعر: علي نويّر – البصرة – العراق

علي نويّر

 

أيّها البحرُ

لا جدوى من إغوائي بنشيدكَ اليوميِّ ، بأمواهكَ التي تأتي إليَّ

مُحمّلةً بالقواقعِ ، والعلبِ الفارغةِ ، والنّذورِ ، ورسائلِ الغرقى التي لم تصل..ولن

لا جدوى من إغوائي أيّتُها المياهُ الضحلةُ ، ما عدتُ أصلحُ

للرّحلاتِ القصيرةِ ، أنا ابنُ الصّحراءِ الأزليةِ ، لا أفقَ يحدّني ،

أنا ابنُ المياهِ العميقةِ ، لا ساحلَ أنتظرُ ، ولا فَنارَ أهتدي إليه ،

خُذْ هداياكَ أيّها البحرُ ، وارمِ بها بعيداً ، لن أحتاجَها بعدَ الآنَ .

.

ها هيَ ذي يدي ، مازالتْ تلوّحُ بفسفورِها المُشعِّ

للذين سيأتونَ من وراءِ هذا الأفقِ

للهابطينَ من تلكَ التّلالِ

أنا الجامحُ كنزوةٍ عابرةٍ ، والجارحُ مثلَ شظيّةٍ طائشةٍ

أعرفُ كيف أُضيءُ في اللّحظةِ الحاسمةِ .

.

لم أكُ يوماً مِئذنةً لأحدٍ

ولا عهدَ لي بالهُتافِ أمام حَشدٍ ،

بَيدَ أنّ رقبتي مازالتْ طويلةً بما يكفي

كي أرى من وراءِ هذه الأكتافِ ما لم ترَهُ عينانِ

وثَمّةَ احتياطيٌّ هائلٌ من الغناءِ الجميلِ مازالَ مُحتبساً في حنجرتي .

.

أيّها البحرُ

ها أنذا أمامكَ الآنَ

تركتُ ورائي مُدناً تتقاذفُها الأعاصيرً ، وتلتاثُ إليها الطرُقُ ،

لم يبقَ منها سوى استغاثاتٍ ، صُراخٍ مكتومٍ ، وآخرَ مُدوٍّ

مازلتُ أسمعُهُ مُخترقاً الغُبارَ والرَّمادَ ،

سوى أجسادٍ مُزرقّةٍ بفعلِ آلاتٍ للتّخديرِ .

.

بكاءٌ ساخنٌ ومرٌّ يقاطعُهُ على الدّوامِ ضحِكٌ خليعٌ ،

شُرُفاتٌ ومُتّكآتٌ وثيرةٌ تطلُّ على خرائبَ وقُرىً مُغبرّةٍ ،

جدرانٌ وأعمدةٌ من الرُخامِ ، وأخرى من الصّفيحِ ،

عُكّازٌ هنا .. صولجانٌ هناكَ

سوطٌ هنا.. ظهورٌ محنيّةٌ هناكَ

منارةٌ مُتداعيةٌ هنا .. صُلبانٌ مَعقوفةٌ هناكَ

نِفطٌ هنا .. مياهٌ آسنةٌ هناكَ

ساحلٌ ممتدٌّ هنا .. طرقٌ مُلتويةٌ هناكَ .

.

أيّها البحرُ

خُذْ بيدي إلى الأزرقِ البعيد

كن هادئاً

زوارقُ الصّيّادينَ لا عهدَ لها بأمواهِكَ المُتواثبةِ وصخبِكَِ العالي ،

ما هيَ إلّا زوارقَ خشبٍ خاوٍ من بقايا سفينةِ نوحٍ ،

نوحٍ الذي لم يتركْ وصيّةً لأحدٍ

سوى حكايةٍ تشظّتْ على ألسنةِ الرّواةِ .

.

أيّها البحرُ

ها هوَ ذا شراعي الأخيرُ

خُذْ بأطرافِهِ الآنَ

المياهُ مُعتمةٌ .. والغرقى كثيرونَ

ولا أحدَ ينتظرُني هنا .

.

وأنتِ أيّتها الغيمةُ اهبطي

لنرى أيَّ أرضٍ ستزهرُ قبل غيرِها

في هذا الرّبيعِ العَدميِّ الأخيرِ .

2/2/2014

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*