محاضرتي عن القصّاص والرّوائيّ التّونسيّ البشير خريّف في مئويّته بمدينة نفطة : في خصوصيّات تجربة البشير خريّف السّرديّة : محمّد صالح بن عمر

هذا نصّ المحاضرة التي ألقيتها في الجولة الأولى من ملتقى مئوية القصّاص والرّوائيّ التّونسيّ البشير خريّف(1917 – )1983 التي التألمت بمسقط رأسه مدينة نفطة في الجنوب الغربيّ التّونسيّ أيّام 17و18و19 نوفمبر/تشرين الثّاني  2017

 

ليس ما سأسعى إليه في هذه المقالة ، مثلما قد يُفهم من عنوانها، سردَ قائمة محدّدة في خصوصيّات ثابتة ،معلومة لدى الدّارسين والقرّاء  أو وقفتُ عليها شخصيّا بعد دراستي لأعمال البشير خريّف السّردية بل إلى إثارة إشّكالية أحثُّ المهتمّين بأدب هذا الكاتب على إعمال الرّأي فيها.

وتكمن أهمّيّة هذا الموضوع في أنّ الإبداع الحقيقيّ – وأنا مضطرّ إلى وصفه بالحقيقيّ ،إذ لا وجود لإبداع غير حقيقيّ، بالنّظر إلى ما نال معنى هذا اللّفظ من ابتذال   حتّى صار يُطلَق على كلّ ما يكتب من شعر وقصّة ورواية ويُتَّخذ مقابلا للفظ “نقد” أو “بحث”-   مرتهن بتوفّر طابع خاصّ في ما ينشئه شخص ما، يُعرَفُ به حتّى في حال غياب توقيعه . فإلى أيّ حدّ يمكن اعتبار أدب البشير خريّف  السّردي مستجيبا لهذا الشّرط؟

لقد عرفت البشير خريّف عن كثب في جلسات كثيرة لكن غير منتظمة جمعت بيننا من نهاية السّتّينات إلى بداية الثّمانينات بالمقهى الذي اعتاد الجلوس فيه. وهو مقهى المغرب العربيّ الذي كان يوجد في شارع فرنسا بالعاصمة .وفي نهاية السّبعينات وعدته بتأليف كتاب عنه كان سيصدر في سلسلة اتّفق  حسين الواد مع  مكتبة المعرفة  المرحة (Le gai savoir) بالعاصمة على إحداثها لكنّ المشروع لم ير النّور.وقد شرعت فيه. فجمّعت ما يقارب المائة والخمسين صفحة من الشّواهد والملاحظات والتّخريجات الشّخصيّة من دون تنظيم ،إلاّ أنّ  شواغلي الكثيرة وأعمالي المكثّفة في كلّ الأوقات تقريبا حالت دون وفائي بذلك الوعد .لكنّ تقصيري ذاك في حقّ هذا الكاتب لم يمنعني من العودة إلى الملّف الذي أعددته عنه في مناسبات متباعدة  واستلهام موضوعات متنوّعة منه لسبع محاضرات ألقيت ثلاثا منها في مدينة نفطة، مسقط رأسه  والأربع الأخرى بدار الثّقافة ببن عروس وقصر “بيت الحكمة” بقرطاج”ودار الثّقافة محمّد البشروش بدار شعبان الفهريّ ودار الثّقافة بمساكن.وربّما أكون بهذه المحاضرة الثّامنة  قطعت شوطا مهمّا  في إكمال الكتاب الذي وعدته به.

ما شغلني في تلك الدّراسات  السّبع  التي  تناولت فيها أعمال البشير خريّف السّرديّة هو مدى تفرّده ،مقارنة بالذين سبقوه والذين عاصروه من أبناء جيله .وهذا التّفرّد الذي لاح لي ويبقى محتاجا إلى المزيد من الإثبات ماثل في مجموعة من العناصر  الأسّلوبيّة والأغراضيّة سأتوقّف هنا، لضيق المجال ،عند أبرزها.وهي الثلاثة التّالية  :

1- اللّون الأدبيّ العامّ الذي تتنزّل فيه أعمال البشير خريّف  السّرديّة .

2- القيمة العليا الرّئيسة التي ينبع منها أدبه وعليها مداره.

3- أسلوبه في السّرد والوصف.

 

1-  العنصر الأوّل : الواقعيّة الإنسانيّة:

كاد يجمع دارسو مدوّنة البشير خريّف السّرديّة على تصنيفه ضمن المدرسة الواقعيّة، إلى أن أضحى ذلك من قبيل البديهيّات .لكنّ هذا التّصنيف يثير تساؤلا مشروعا : وهو التّالي: إلى أيّ نوع من الواقعيّة تنتمي أعماله ؟ ، إذ  الواقعيّة ، كما هو معلوم،  واقعيّات،  منها الواقعيّة التّسجيليّة والواقعيّة الطّبيعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والواقعيّة الجديدة …

للإجابة عن هذا السّؤال الجوهريّ يتعيّن المقابلة بين العالم المتخيّل الذي أنشأه البشير خريّف في قصصه ورواياته والعالم الحقيقيّ الذي عاش فيه .وهو الواقع التّونسيّ في الفترة الممتدّة من العشريّة الثّانية من القرن العشرين إلى بداية العشريّة التّاسعة منه(1917 -1983) .

تدور أحداث قصص البشير خريّف ورواياته، باستثناء قصّة واحدة هي قصّة”المروّض والثّور”(1) التي تجري وقائعها في إسبانيا ، في أطر مكانيّة تونسيّة ، معظمها  العاصمة وأحوازها وأحدها – وهو بارز جدّا – الجريد التّونسيّ الذي اتّخذه مسرحا لأحداث روايته الدّقلة في عراجينها(2)  .لذلك يمكن القول إنّ  هذين الفضاءين الكبيرين يؤلّفان ثنائيّة لافتة .ولهذه الثّنائيّة علاقة وثيقة بحياة الكاتب ،إذ هو ولد بنفطة وقضّى فيها سنواته الثّلاث الأولى (1917- 1920) ثمّ انتقل مع والديه إلى العاصمة واتّخذهاـ إلى أن توفّي، مستقرّا رئيسا له ، مع مواصلته التّردّد  بين الفينة والأخرى على مسقط رأسه .ومن ثمّة فإنّ بين  العالم الحقيقيّ الذي عاش فيه والعالم المتخيّل الذي أنشأه تطابقا يكاد يكون كلّيّا.ويدعم هذا الاستنتاج أنّ أسماء الأماكن التي تدور فيها أحداث قصصه هي نفسها التي في الواقع مثل سيدي مردوم في قصّة “إفلاس أو حبّك درباني”(3) والقصبة وحيّ العزّافين في رواية “برق اللّيل”(4) والجبل الأحمر وباب عليوة في قصّة ” رحلة الصّيف”.لذلك يمكن اعتبار أدبه السّرديّ من هذه النّاحية  متأثّرا بالواقعيّة التّسجيليّة .

ويلوح هذا التّأثّر أيضا في الأحداث التي يتّخذها موادّ لقصصه ورواياته .وهي ترتبط إمّا بأحداث تاريخيّة أو سياسيّة أو بتحوّلات حضاريّة مثل دخول الإسبان ثمّ العثمانيّين تونس في أواخر العهد الحفصيّ ضمن رواية برق اللّيل وأحداث 9أفريل 1938 في قصّة “محفظة السّمار”وسياسة التّعاضد بتونس في قصّة “رحلة الصيف” وإمّا بأحداث محتملة الوقوع كما في قصّة “خليفة الأقرع” التي يمكن أن تدور أحداثها في أيّ حيّ من أحياء مدينة تونس العتيقة أو غيرها من الأحياء المماثلة في المدن التّونسيّة الكبرى.

أمّا الشّخوص في قصص البشير خريّف ورواياته فهي على العكس  في الأغلب الأعمّ شخصيّات نموذجيّة عامّة من حيث أسماؤها وألقابها وأنماط سلوكها وملامحها الخارجيّة التي تربطها ارتباطا وثيقا بالبيئة التّونسيّة..

من ذلك سليم البرجي ،الشّخصيّة الرّئيسة في قصّة” حبّك درباني”  – وهو شابّ أصيل العاصمة، زيتونيّ التّكوين لم تمنعه ثقافته الدّينيّة من الارتباط بمومس تتعاطى البغاء السّريّ ومن الإقبال بنهم على ملاذّ الحياة .وهو ما يجعل منه أنموذجا لجيل تلقّى تكوينا تقليديّا لم يؤهّله إلى التّعامل السّليم مع الحضارة العصريّة .فانساق وراء إغراءات مظاهرها السّلبيّة، بدلا من أن يفيد من جوانبها الإيجابيّة فمُني مسعاه بالفشل ،كما يشير إليه عنوان القصّة. وحين سئل البشير خريّف في حوار أجري معه : “من هو سليم البرجي ؟” أجاب : “سليم البرجي هو أنا “.وفي هذا دليل على أنّه لم يكن له وجود حقيقيّ في الواقع وإنّما اتّخذه الكاتب أنموذجا لفئة معيّنة من الشّباب التّونسيّ في عهد الاستعمار كان ينتمي إليها هو نفسه.

ومن هذا الصّنف مسعود بن خليفة الأعتر بطل قصّة ” رحلة الصّيف”.وهو   نازح من الجريد التّونسيّ يقيم بالحيّ الشّعبيّ الجبل الأحمر أيام التّعاضد بعد افتكاك الدولة ضيعته منه . وهو يجسّد بذلك  شخصيّة نموذجيّة هي شخصيّة النّازح من داخل البلاد التّونسيّة إلى إحدى مدنها الكبرى  الواقعة في الشّريط السّاحليّ، ذلك الذي يجد صعوبة فائقة في التّكيّف مع أجواء المدينة التي ينزح إليها . وكذلك شأن برق اللّيل بطل القصّة الحاملة لهذا الاسم .وهو أنموذج  لواحد من أبناء الفئات الدّنيا المسحوقة يوظّف ذكاءه لقضاء مآرب تحول دون تحقيقها منزلته الاجتماعيّة.ومثل ذلك خليفة الأقرع في القصّة المعنونة باسمه .فقد اتّخذ منه الكاتب  أنموذجا لليتيم أو فاقد السّند الذي  تحتضنه إحدى العائلات الميسورة أو تقرّبه منها لتستخدمه  لاحقا في قضاء شؤونها اليّوميّة وهي ظاهرة كانت شائعة في أوساط البلديّة بالعاصمة وغيرها من المدن التّونسيّة الكبرى .

هذا التّوجّه في اختيار الشّخصيّات النّمطيّة يتقابل تماما مع توجّه علي الدّوعاجي السّابق له  في الكتابة السّرديّة الذي كان أميل إلى انتقاء الشّخوص المفارقة للسّائد من البيئة التّونسيّة نفسها.فقد عرّف الدّوعاجي القصّة ب”أنّها صورة صادقة لمنظر شاذّ وعلى شذوذه لا يستغربه القارئ و لا يستنكره”(5).ومن أشهر شخوص هذا الكاتب حَدِّي في قصة”أحلام حدّي”(6).وهي شاعرة من مدينة نفطة لقيها الدّوعاجي بمسقط رأسها رفقة ابن المدينة مصطفى خريّف.فكانت تلبس لباس الرّجال وتحاكي أصواتهم وتدّخن السّبسي معهم أي مطابقة لما يسمّى في اللّهجة الدّارجة التّونسيّة”عيشة راجل” وشخصيّة العمّ باخير في قصّة “موت العم باخير” الذي يلوح مفارقا للسّائد في مجتمعه هيئة وسلوكا وحركات وقد وصفه الدّوعاجي قائلا : ” كان شاذّا في كلّ شيء ولعلّ في شذوذه ما يحبّبه إلينا نحن صبيةَ الحارة ويثير فينا استطلاعنا ويجعلنا نترصّد حركاته كلَّها” (7) والمرأة الغريبة الملتحفة بالسّفساري في قصّة ” المصباح المظلم” التي تلفت الانتباه بوقوفها وحيدة ذات ليلة ممطرة تحت ضوء عمود كهربائيّ قرب دكّان حلاّق ،مجسّدة بذلك سلوك امرأة مفارقا للسّائد في ثلاثينات القرن الماضي .

والحاصل من كلّ هذا أنّ اعتماد البشير خريّف معيار النّمذجة  في اختار شخوص قصصه ورواياته  يجعلها تستجيب لشرط من شروط الواقعيّة الاشتراكيّة.لكن هل كان واقعيّا اشتراكيّا؟هذا ما سنحاول الإجابة عنه في  ما سيأتي من هذا الفصل.

ولعلّ هذه الطّريقة في التّعامل مع الواقع تكشف لنا عن ملامح أوّليّة من واقعيّة البشير خريّف. فنقله للأمكنة والأطر الحدثيّة الكبرى يشي بمتانة العلاقة  العاطفيّة التي تشدّه  إلى  واقعه.لكنّ روحه الخلاّقة كانت تنأى به عن التّسجيليّة المحضة ، تلك التي تعدّ الدّرجة  الصّفر من الواقعيّة .فإذا هو يرتقي في تصويره للشّخوص إلى درجة أعلى منها وهي النّمذجة التي يتوقّف حذقها على توفّر تجربة عميقة في مضمار الحياة. وهو ما لم يكن ينقص البشير خريّف الذي تقلّب في مهن عدّة .فقد مارس صناعة الحلقوم وصناعة الشّاشية واشتغل بائعا للكسكروت وعصير اللّيمون برادس(قبل سنة 1937)ثمّ كاتبا لدى محامٍ (سنة 1938)ثمّ تاجرا في بيع الحرير بسوق الكبابجيّة بالعاصمة (في سنوات الحرب العالميّة الثّانية)ثمّ بائعا للتّوابل بحمّام الأنف ثمّ عاد إلى تجارة الحرير ثمّ عمل في سلك التّعليم الابتدائيّ بالسّند فأريانة فعين دراهم ففرانسفيل فمدرسة نهج النّفافطة بالعاصمة (8)،يضاف إلى كلّ ذلك اختلاطه بالأدباء وسائر أهل الثّقافة.

هذه الثّقافة الاجتماعيّة الثّريّة هي التي أعانت البشير خريّف على معرفة تركيبة الجتمع التّونسيّ وفهم عقليّة كلّ شريحة من شرائحه.وهو ما يفسّر حذقه أسلوب النّمذجة في تصويرالشّخوص.

ولمّا كنّا قد قارنّا أسلوبه من هذه النّاحية بأسلوب علي الدّوعاجي فليس ثمّة شكّ في أنّ ميل هذا الكاتب إلى التقاط الاستثنائيّ بدلا من النّموذجيّ كان نابعا من طبيعة شخصيّته البوهيميّة التي كانت تنأى به آليّا عن الامتثاليّة وتدفع به إلى التّمركز في هامش المجتمع .

2- العنصر الثّاني : الحرّيّة :

إنّ القضايا التي عالجها البشير خريّف في قصصه ورواياته تتنزّل في إطار تونسيّ خالص ،إذ استمدّها مباشرة من محيطه الاجتماعيّ .ففي قصّة “محفظة السّمار”،مثلا ،تدور الفكرة الرّئيسة حول تمزّق مناضلة سياسيّة تونسيّة أيّام الاستعمار بين أداء واجبها الوطنيّ والانسياق وراء ميولها العاطفيّة .وفي قصّة” النّقرة مسدودة” يعالج قضيّة اجتماعيّة ثقافيّة أثيرت في بداية الاستقلال. وهي أزمة المثقّف العصريّ داخل  مجتمع تقليديّ. وفي قصة “إفلاس أو حبّك ” يروي حكاية متعلّم تونسيّ تقليديّ أخفق في مواجهة تحدّيات العصر .وفي قصّة” رحلة الصّيف” يصوّر وضعيّة متردّية تتخبّط فيها أسرة نزحت من الجنوب الغربيّ التونسيّ إلى ضاحية الجبل الأحمر، فرارا من سياسة التّعاضد.

لذلك يصحّ وصف هذه القضايا ب”الواقعيّة”. لكنّ المتأمّل في أبعادها الدّلاليّة يكتشف أنّها على اختلافها، وارتباطها الوثيق بالواقع التّونسيّ تلتقي كلّها عند قيمة محوريّة كان الأستاذ توفيق بكّار أوّل من تنبّه إليها. وهي قيمة الحرّيّة(9)

ففي كلّ عمل من أعمال البشير خريّف السّرديّة تنهض الحرّيّة هدفا أوّل يناضل لأجله البطل  إمّا بمفرده وإمّا بمعونة بعض الشّخصيّات الثّانويّة .

ففي قصّة ” محفظة السّمار ” النّضال لأجل الحرّيّة السياسية .وفي قصّة ” النّقرة مسدودة” النّضال لأجل الحرّيّة الشّخصيّة .وفي قصّة” رحلة الصّيف” النّضال لأجل الحرّيّة الاقتصاديّة .وفي رواية الدّقلة في عراجينها النّضال لأجل الحّريّة الاجتماعيّة والحرّيّة السّلوكيّة .

ومثل هذا التّعلّق بقيمة الحرّيّة يلغي إمكان انتماء البشير خريّف إلى الاتّجاه الواقعيّ الاشتراكيّ الذي اشترط منظّره فلاديمير جدانوف( Andreï Jdanov 1896- 1948  )اعتناق المؤلّف مذهب الجدليّة الماديّة والانخراط في حزب الطبقة العاملة(10) .فعلى نقيض ما يتأسّس عليه هذا المذهب من  أفكار الاشّتراكية والصّراع الطّبقيّ والثّورة على البورجوازيّة يلوح البشير خريّف ليبيراليّا إلى أبعد الحدود في تصوّره للمجتمع والنّظام الاقتصاديّ .

ويعدّ هذا الجانب الفكريّ في أدب البشير خريّف السّرديّ مظهرا من مظاهر التّفرّد ،مقارنة بالسّابقين له .ذلك أنّ محمود المسعدي أقام اتّجاهه على مبادئ الفعل والمداومة والثّبات دون الاكتراث بالفشل ،على حين لم يكن النّضال شاغلا من شواغل عليّ الدوعاجي الذي لم يشارك في الحركة الوطنيّة تماما مثل رفاقه من أدباء تحت السّور.

لكلّ  ذلك يمكن القول إنّ واقعيّة البشير خريّف لا تتعدّى المستوى السّطحيّ. وهو المستوى الحكائيّ حيث تتّخذ صيغتين متباينتين : إحداهما الأسلوب التّسجيليّ في نقل الأطر المكانيّة وبعض ما يدور فيها من أحداث والأخرى  أسلوب النّمذجة وقد اعتمده في اختيار الشّخوص.لكنّ تركيز هذا الكاتب عنايته على الحرّيّة مثلا أعلى يجعل من واقعيّته مجرّد أداة لطرق غرض  مجرّد أوسع ،فضلا عن كونه الجامع لسائر القيم الإنسانية  كالعدالة والكرامة والحقّ والنبل وما إليها ، تلك التي لا يتّصف بها إلاّ الإنسان الحرّ

3- العنصر الثّالث: توظيفُ الفكاهة وهتكُ المستور في السّرد والوصف :

3 – 1: توظيف  الفكاهة:

لئن اشترك البشير خريّف مع علىّ الدوعاجي في استخدام الفكاهة على نحو مكثّف في نصوصهما السّرديّة فإنّ حضورها عند الأوّل غالبا ما يجيء في تعاليق الرّواي  نحو قوله في وصف الأمّ ددّو، حماة عبد الله في قصّة”نزهة  رائقة “: “زانت هذا الوجهَ العتيق بحاجبين مدهونين بصباع أسود في غلظ البنصر يمتدّان أفقيّا من الصّدغ ملتصقين ووضعت دائرتين من اللّون الأحمر على وجنتيها وأضافت إلى كلّ هذا فما واسعا قصيرة لسانه غليظة شفتاه الاصطناعيّتان وبشرة لا تصلح إلاّ لعالم آثار أو لطاي أبار “(11).أمّا البشير خريّف فيستثمر الفكاهة ،فضلا عن ذلك، في بناء  القّصّة .فيتّخذ منها أحيانا نواة دلاليّة تأسيسيّة ، كما قد يستخدمها في مراحل القصّة الثلاث : العرض والعقدة والانفراج .

فمن القصص التي بناها على مُلَحٍ أو طُرَفٍ قصّة”خليفة الأقرع” التي  تتأزّم فيها حالة البطل النّفسيّة ،لا بسبب مرضه  – وهو القرَع  – بل لأنّ شفاءه منه سيحرمه من الاختلاط بنساء الحيّ المسموح له به للاعتقاد السّائد في الأوساط الشّعبيّة سابقا أنّ القرع من علامات فقدان الرّجولة و قصّة” رحلة الصّيف”التي  تتأسّس الحكاية فيها على صورة فكاهيّة هي صورة الرّيفيّ النّازح الذي يتعامل بسذاجة فائقة مع المحيط الحضريّ  و  قصّة” النّقرة مسدودة”التي أساسها موقفٌ مضحك هو إمعان مضيِّف في التّضييق على شخصٍ استضافه وهو يظن أنّه في تسلّطه عليه تفانيا في خدمته والسهر على راحته.

أمّا العرض الذي عادة ما يشتمل على تقديم الشّخصيّة الرّئيسة والإطارين المكانيّ والزّمانيّ وانطلاق العقدة فيضمّنه البشير خريّف أحيانا موقفا فكاهيّا  كما في قصّة” رحلة الصّيف” التي تنطلق بخروج  البطل مسعود بن خليفة الأعتر من كوخه بالجبل الأحمر إلى شاطئ رادس وهو يحمل على متن عربته اليدويّة أمّه وزوجته وأولاده ودجاجة أمّه وفراخها  ووراءهم كلبهم مربوط بحبل إلى العربة.

وكذلك شأن مرحلة التّأزّم التي تجيء في بعض قصص هذا الكاتب  مشتملة على موقف فكاهيّ كما في قصّة “خليفة الأقرع”‘ حيث يبلغ التّأزّم ذروته في المواجهة الحادّة  التي جمعت بين البطل خليفة والدّقاز المغربيّ وتبادلا فيها تهما خطرة  يعلم القارئ  منها أنّ الأقرع خاض مغامرات جنسيّة مع بعض نساء الحيّ في غفلة من الرّجال ،مستغلاّ اعتقادهم الخاطئ أنّ قرعه علامة على عدم رجولته.

ومثل ذلك في خواتم القصص حيث ينتهي بعضها بموقف مضحك، كما في قصّة “النّقرة مسدودة ” التي يمنع فيها المضيّف عبد الكريم ضيفه من التّوجه إلى “بيت الرّاحة” بحجّة أنّ”النّقرة مسدودة”، ملتمسا منه الانتظار إلى صبيحة الغد ريثما يأتي بخنادقيّ لتسريحها .

ولئن اشترك البشير خريّف مع الدّوعاجي أيضا في السّرد بروح مرحة فانّ هدفيهما من استخدامه مختلفان .ففكاهة الدوعاجي هي، في المقام الأول، سخريةٌ صادرة عن  شخصيّة بوهيميّة من امتثاليّة المجتمع الذي تعيش فيه.أمّا فكاهة البشير خريّف فهي تنطوي على نقد اجتماعيّ وسياسيّ لاذع صادر عن مثقّف يحمل فكرا ليبيراليّا صلبا والمثل الأعلى الذي يتجسّم فيه ذلك الفكر هو الأنظمة السّائدة في الغرب المتقدّم  وخاصة منها النّظام الفرنسيّ والنّظام البريطانيّ ،مع الإشارة إلى أنّه كان من أنصار الزّعيم التّركي كمال أتاتورك.

3 – 2: شحن السّياق الحكائيّ بالعدول الحيّ :

إنّ نصوص البشير خريّف مزروعة ومضات.حتّى لكأنّ صاحبها شاعر ظلّ طريقه إلى  القريض فحطّ رحاله، خطأ، في عالم السّرد.

ففي روايته الدّقلة في عراجينها وقدات ذهنيّة في غاية الإشراق قد وظّف معظمها في النّقد الاجتماعيّ .من ذلك قوله : “وقف صبيّ ينظر إلى الحلاّق بعين واحدة ، لأنّ الأخرى مشغولة بالذّبّان “(12).فحين يصل القارئ إلى عبارة” بعين واحدة ” يذهب في ظنّه أن الصّبيّ أعور.لكنّه سرعان ما يعدل عن هذا التّصوّر  حين يكتشف أنّ المقصود هو نقد حالة القذارة التي عليها الدّكان ويدرك أنّ العيب ليس في النّاظر بل في المنظور إليه. وقوله : ” عُمير يصيح وينبّه وهو يقود مظاهرة عمّاليّة ضدّ إدارة شركة الفسفاط :

  • ماتنهبوش، ما تنهبوش ، الفساد لا ، الفساد لا .

فلم يسمع منه أحد .فاغتاظ لهذا العصيان والتقط سراجا كهربائيّا صغيرا وحشاه في جيبه”(13).

تقوم هذه اللّقطة على مخالفة القول للفعل. وهي تنطوي على مغزى عميق هو ضعف النّفس البشريّة إزاء جاذبيّة متاع الدّنيا حتّى في المواقف التي توجب التّماسك وضبط النّفس .

وقوله : ” تخيّلت العطراء أنّها تغسل بصرها وهي تنظر إلى الشّابّ الوسيم”(14).

فقد نشأت الومضة في هذا المثال عن مقابلة ضمنيّة هي أنّ بصر العطراء كان ملوّثا من جرّاء النّظر إلى زوجها الحفناوي الذي لا تحبّه .فإذا هي تغسله بالتّمعّن في وجه الشّاب الوسيم الذي جلس إلى جانبها في القطار.وفكرة “غسل البصر”  ، في ما نظّن، من ابتكار البشير خريفّ.

وقوله : “اكتشف المكّي أن الخضراء نمشة كأنّ من رش حفنة من جلجلان .ولم ينل ذلك من إعجابه بجمالها .وهل النّمش عيب؟ ذلك جزية الحقيقة عن الخيال”(15).

تكمن الومضة في الجملة الأخيرة : ” ذلك جزية الحقيقة عن الخيال”.والمقصود أنّ المكّي كان يترصّد امرأة من بعيد فنسج خياله صورة لوجهها مثاليّة .لكنه حين اقترب منها اكتشف أنّها نمشة .فأذعن للواقع بدفع ضريبة عن خياله الجامح .والطّرافة هنا تكمن في استعارة لفظ من حقل الجباية وإقحامه في حقل العشق.

هذه الأمثلة التي ليست سوى غيض من فيض  تقيم الدّليل على أنّ فنّ الحكي عند البشير خريّف ليس مجرّد مهارة تقنيّة وإنّما هو فعل إبداعيّ صادر عن ملكة حقيقيّة  تظهر بصماتها في سياق النّص  لا في بنيته العامّة فقط .ولا شّك في أنّ هذه الملكة قد تعزّزت لدى هذا الكاتب بحصيلة ثريّة من الملاحظات النّابعة من تجربته الواسعة في الحياة .فأفرزت عنده رؤية ثاقبة تنفذ مباشرة إلى  دواخل الأشياء فتميط اللّثام عن العلائق الخفيّة القائمة بينها ، متسامية عن السّطحيّ والمبتذل ، منجذبة نحو العميق والطّريف.

الخاتمة :

تكشف مدوّنة البشير خريّف السّرديّة للمتأمّل من النّاحية الأغراضيّة عن ذات تحمل فكرا متماسكا صلبا هو الفكر اللّيبيراليّ وتتّخذ الأنموذج الغربيّ المتولّد عن هذا الفكر بديلا  عن السّائد في واقعها التّونسيّ .وهو ما يجعلها ذاتا ملتازمة مناضلة  .وفي هذا يفترق صاحب هذه المدّونة عن  مجايله  علي الدّوعاجي الذي تلوح الذّات المنشئة للخطاب في نصوصه السّرديّة ذاتا بوهيميّة  قابعة في هامش المجتمع ومنه توجّه سهام سخريتها إلى النّواميس والعادات والتّقاليد المترسّخة فيه وكلّ ما يجسّد في نظرها الامتثاليّة ، كما يفترق عن مجايله الآخر محمود المسعديّ الذي وإن كانت منطلقات كتاباته  وأبعادها نضاليّة أيضا  فإنّ الفكر الذي تصدر عنه فكر فلسفيّ مجرّد .

أمّا أسلوبيّا فالبشير خريّف على طرف نقيض مع محمود المسعديّ اختارالكتابة باللّغة العربيّة الصّفويّة ونزّل أدبه شكلا في إطار تراثيّ عربي قديم ، كما أنّه و إن اشترك في اللّون الواقعيّ مع علي الدّوعاجي فقد اختلف عنه باستخدام النّمذجة بدلا من تصوير المفارق وباستعمال الدارجة في الحوار.

لكلّ هذا يلوح لي أنّ البشير خريّف قد استطاع أن ينحت لنفسه اتّجاها خاصّا في الكتابة السّرديّة أغراضا وأسلوبا. وهو ما يحتاج ، في تقديري، الى المزيد من الإثبات.

الهوامش :

1- قصص ” رحلة الصّيف” و”خليفة الأقرع”و”النّقرة مسدودة” و”محفظة السّمار”و”المروّض والثّور”  وردت ضمن مجموعة  مشموم الفلّ للبشير خريّف ،الدار ّ للنّشر 1971.

2- البشير خريّف، الدّقلة في عراجينها، تونس 1969.

3- البشير خريّف،حبّك درباني،طبع الشّركة التّونسيّة لفنون الرّسم،على نفقة المؤلف، تونس 1980.

4- البشير خريّف، برق اللّيل،الدّار التّونسيّة للنّشر، تونس1961

5- على الدوعاجي :”القصة في الأدب العربي الحديث”، مجلّة”ّ الثّريّا”، السّنة 3، العدد 5، ماي 1946 تونس ص 215

6- قصص ” “أحلام حدّي”و”موت العم باخير” و” المصباح المظلم” وردت في مجموعة سهرت منه الليالي لعلي الدّوعاجي، دار سيراس للنشر، تونس 2005.

7- المصدر نفسه ص 57

8- انظر : العدد الخاص بالبشير خريف، مجلة”الفكر” التّونسيّة، جانفي 1984 ص 63

9- انظر : توفيق بكّار ،”معنى الحرّيّة في أدب البشير خريّف”، مجلّة “الفكر”التّونسيّة ، ماي 1982 .

10- وليمز ( ريموند ) ، الواقعية والرواية المعاصرة ” ، تعريب : عبد الواحد محمد ، مجلة ” الأقلام ” عدد 11 ، بغداد أوت 1980 ص ص 206 – 207

11- انظر : علي الدّوعاجي ،”سهرتُ منه اللّيالي” ص71

12- البشير خريّف، الدّقلة في عراجينها ص 153

13- المصدر نفسه ص 318

14- المصدر نفسه ص 399

15- المصدر نفسه ص 229

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*