في سؤال تجربة محيي الدّين خريّف( 1932 – 2011 ) الشّعريّة: محمّد صالح بن عمر

 

يُعَدّ محيي الدّين خريف من أطول  الشّعراء التونسيين المعاصرين  مسيرة  و أغزرهم إنتاجا. فقد امتدّت مسيرته الشّعرية على اثنتين وستّين سنة  ، من سنة 1949 تاريخ صدور قصيدته الأولى – وقد جاءت بعنوان “باكورة  ”   –  بجريدة “الجهاد ” التّونسيّة إلى وفاته سنة 2011. أمّا مدوّنته فقد اشتملت على تسع عشرة مجموعة صدرت منها اثنتا عشرة (1) ولا تزال السبع الباقية  مخطوطةً (2) .

ومن البديهيّ أن يقصر بحث  مقتضب ذو طابع إجماليّ  كهذا عن الإحاطة بتفاصيل هذه المدوّنة ودقائقها التي تبقى مُحْوجة  إماّ إلى أطروحة جامعيّة وإمّا إلى ندوة علميّة . وقد كان لنا منذ أربع عشرة سنة وعلى وجه التّحديد في سنة 1998 شرفُ الإشراف على ندوة مختصرة عن  محيي الدّين خريف إنسانا وشاعرا التأمت بحضوره  في ” بيت الشّعر ” التّونسيّ وشارك فيها خمسة باحثين جامعيّين بمحاضرات  منهم العبد الفقير إلى ربّه وصدرت أشغالها في كتاب (3).

لذلك سنكتفي في هذه  المقاربة من باب الاضطرار إلى الوقوف على المقوّمات الكبرى لتجربة الشّاعر وأهمّ خصائص شعره الدّلاليّة والفنّيّة التي يمكن أن يؤلّف كلّ عنصر منها موضوعا لبحث مستقلّ .

ولنبدأ بوضع هذه التّجربة في إطارها التّاريخيّ .

1- منزلة محيي الدّين خريّف من الشّعر العربيّ الحديث والمعاصر في تونس :

لقد خطا محيي الدّين خريّف خطواته الشّعريّة  الأولى في السّنوات الأخيرة من عهد الحماية الفرنسيّة  .لذلك يعدّ عمليّا من شعراء الجيل الأوّل بعد الاستقلال .  فما هي التوجّهات العامّة لعطاء ذلك الجيل ؟  وما هي  الملامح المميّزة لمحاولات  شاعرنا في إطار ذلك العطاء الجماعيّ  ؟

لقد حدت شعراءَ ذلك الجيل روح تجديديّة قويّة  بحكم  صغر سنّهم   والنّخوة الجماعيّة  العارمة باستقلال  البلاد وإمساك  زعيم تحديثيّ جريء –  وهو الحبيب بورقيبة  (  1903- 2000 ) – بمقود سفينتها ، إلاّ أنّ التّجديد الذي أقدموا  عليه سار في اتّجاهين متباينين  :الأوّل تنزّل في إطار القديم  حرصا على تحقيق التّواصل بين الماضي والحاضر.  والآخر كان امتدادا للشّعر الشّبابيّ الذي ظهر قبيل الاستقلال فكان أكثر جرأة فاتّجه إلى الشّعر الحرّ الذي ازدهر وقتئذ بالمشرق العربيّ .

ويمكن تفسير ظهور الاتّجاه الأوّل بأنّ الشّعراء الإحيائيّين  من الجيل المخضرم – وكانوا أكبر سنّا وأقدم تجربة   وقد هيمنوا على المنابر الثّقافيّة بالبلاد –   فرضوا ضربا من الرّعاية المعنويّة  على شقّ من الشّعراء الشباّن ، إلاّ أنّ هؤلاء –  وقد تشبّعوا بروح أبي القاسم الشابّيّ (1909 – 1934 )  التّجديديّة – لم يخضعوا تماما  للوصاية بل طفقوا يبحثون عن مسالك مستحدثة داخل النّمط  التّقليديّ نفسه. و ذلك بالحفاظ على عمود الشّعر طبقا لمواصفاته الخليليّة لكن  مع التّجديد في مستوى الأغراض و الموضوعات . ويمكن أن نسمّي هذه النّزعة  الاتّجاه الكلاسيكيّ  الجديد  . وكان من أبرز ممثّليها جعفر ماجد ( 1940 – 2009 ) الذي تميّز بقدرة فائقة على تطويع عمود الشّعر  للتّعبير عن رؤية جديدة عمادها الصّورة المبتكرة مع إحكام الصّناعة العروضيّة و التقيّد بمعايير الفصاحة العربيّة الأصيلة وعبد العزيز قاسم  الذي لم يمنعه تمسّكه بالضّوابط  العروضيّة للقصيدة العربيّة القديمة من الخوض  في موضوعات تدور حول منزلة الإنسان في الكون وجمال الدّين حمدي  ( 1935 – 2000 ) الذي يكشف شعره  رغم التزامه بالعمود عن تجربة  عميقة  في مضمار الحياة ، إذ تفصح قصائده  عن رؤية سوداويةّ مقترنة بنغمة شكائيّة بكائيّة قوامها الأنين المستمرّ و التّبرّم بالحياة.

أماّ الاتّجاه الشّبابيّ الآخر فقد اتّجه إلى الشّعر الحرّ ، مفضّلا إيّاه على العمود . وقد توزّعه اتّجاهان                        فرعيّان متباينان: الأوّل  اختار الخطّ النّضاليّ الملتزم . وكان من أهمّ رموزه الميداني بن صالح ( 1929 –2006 ) و أحمد القديدي  اللّذان اقتفيا في ذلك خطى  منوّر صمادح  ( 1932 – 1998 ). فأخذا  بمفهوم للشّعر مبسّط قوامه الوضوح لغاية الإبلاغ . فهجرا طبقا لذلك عمود الشّعر و غريب الألفاظ و المعقّد من المجاز، مفضّليْن عليه الشّعر الحرّ و اللّفظ الشّائع و الصّور البسيطة اليسيرة الفهم . و تفرّغا بكلّيتهما لمعالجة قضايا الكادحين و نقل همومهم وتطلّـعهم و تصوير نضالهم اليوميّ من أجل تحقيق الازدهار للوطن و التّغنيّ بالقيم الاشتراكيّة كالتّعاضد و التّعاون والرّوح الغيريّة و التّضحية في سبيل الآخرين . أماّ الاتّجاه الفرعيّ الآخر فقد غلب عليه  اللّون  الغنائيّ. وكان من أبرز ممثّليه زبيدة بشير ( 1938 – 2011 ) أوّل شاعرة تونسيّة يصدر لها ديوان –  و قد جاء  بعنوان حنين ( 1968 )  – وشاعرنا  محيي الدّين خريّف الذي تمتزج في شعره الغنائيّة الرومنطيقيّة بالتأمّل الفلسفيّ في منزلة الإنسان و استلهام الرّموز من التّراث العربي الإسلاميّ  مع نفس صوفيّ خفيف أحيانا .

فكيف تتجلّى هذه العناصر في شعره ؟ وما هي العلائق الرّابطة بينها ؟

2- المحتوى الدّلاليّ  لأعمال  محيي الدّين خريّف الشعرية وأبعاده :

تثير أعمال محيي الدّين خريّف  كأي أعمال شاعر أو كاتب كان إشكالا رئيسا من حيث قيمتها الإبداعيّة . وهو إلى أيّ حدّ يمكن عدّه صاحب تجربة  . ذلك أنّ التّجربة الشّعرية تقتضي توفّر شرطين لابد منهما  : أوّلهما أن تكون مجمل نصوص الشّاعر  نابعة من هموم قارّة كتجربة الخنساء  مع الرّثاء  وأبي نواس مع الخمر أو أبي العتاهية مع الزّهد و المتنبّي مع الفخر و بودلار مع الألم النّفسيّ و نزار قبّاني مع المرأة  وما إلى ذلك  . و الشّرط الآخر هو التميّز .والمقصود به أن بعدل  الشّاعر فيما يكتب عن المسالك المعبّدة فينشئ لنفسه  أسلوبا يُعرف به حتّى إن نشر بلا إمضاء .   أنجع منهج لتفحصها وتقليب النظر فيها هو  مقاربتها طبقا للمنهج التزامنيّ الاستنباطيّ  . وذلك بالنظر إليها مدوّنته  في ذاتها  باعتبارها كلاّ متكاملا دون الالتفات إلى التسلسل الزمني  لأجزائها  و بأن يُتَصوّر منوالٌ تحليليٌّ لها يكون مستوحى منها وقادرا على الكشف عن  بنيتها العميقة الكامنة تحت الأغراض والموضوعات التي تحتلّ عمليّا  موقع السّطح . وقد قمنا  سنة 1998 بمحاولة أوّلية  من هذا القبيل تركّزت على أنموذج واحد من مجاميع محيي الدّين خريّف هو مجموعة البدايات والنهايات (4) . وقد  أفضت بنا تلك المحاولة إلى الوقوف على  ما بدا لنا  أنّه يؤلّف تجربة شعريّة قائمة الذّات نابعة من خلفيّة صلبة ثابتة  متميّزة يصدر عنها الشّاعر. .وهذه الخلفيّة فيما يتراءى لنا نفسيّة بحتة .وهي تتركّز على ثلاث دعائم تقوم بينها علاقة سببيّة : الأولى كآبة متأصّلة والثّانية ألم ممضّ والثالثة حبّ تعويضيّ يتّخذ أشكالا متنوّعة .وقد أكّدت لنا هذه النّتيجة قراءتنا لبقيّة مجاميع الشّاعر المطبوعة على الرّغم من امتداد الفترة التي أنشأها فيها على أكثر من ستّة عقود. . فما هي هذه المقوّمات ؟ولنتفحّص كلّ مقوّم منها على حدة .

2 -1:المقوّم الأوّل لتجربة محيي الدّين خريّف الشّعريّة : الكآبة :

يلوح لقارئ شعر محيي الدّين خريّف أنّ الكآبة هي أبرز خصيصة نفسيةّ في شخصيّة  الذّات الشّاعرة .وهو ما جعلها المحور الأوّل المباشر الذي تدور حوله  قصائده مهما كان الغرض الذي يطرقه ويكون تجلّيها  فيها إمّا ظاهرا معلنا وإما  خفيّا ضمنيّا . وهي ليس حزنا عاديّا عارضا بل شعور مكين ثابت منغرس في أعماق الشّاعر  ، سار في رؤيته للأشياء .

وفي هذا يقول :

حزنُ النّهار طويلّ ولكنّني لا أراه

( البدايات والنهايات ص 11 )

سألتْني وقد كَذَبَ الرّعدُ يومي الأخيرْ

كيف تَرى ؟

فأجبتُ سَلِي الحُزنَ فهو يَعْرِفُ عنّي الكثيرْ

( نبيذ الكرخ ص 74 )

ويقول :

 شاطئٌ مغلق

وشواطئُ تمتدّ عبر التّلال الحزينهْ

نُقِشت في سراديبها الدّعواتُ اللّعينهْ

( نفسه ص 26 )

ويقول :

أبى أن أحدّثَهُ وهو أقربُ من مدِّ بحرٍ تناوحَ

قرب الشواطئ يسألني وهو ينثرني

كرمالِ الشّتاء الحزينهْ

( نفسه ص 22 )

صار سِياّنِ إذا جاء

و إن غاب لأنّي

صرتُ مفتونا بحُزني

أصطفيه وأغنيه وأرتاح لقربه

وأراه عندما جاد بحُبّه

أنّه الأوفى إذا غابَ الفرحْ

فسواءٌ بعده من جاء

أو من نزحْ

( نبيذ الكرخ ص 52 )

وهذا الانعكاس لحزن الشّاعر على المحيط الخارجيّ هو من الأساليب  القارّة في

شعره .وقد يقترن  هذا الحزن بالإحباط كما في قوله :

توالدَ عن ضجرِ الوردِ حزنُ المساءْ

وأظلم في بلدِ الحبّ لونُ السّماءْ

( نفسه ص 48 )

ومن أدقّ المقاطع تعبيرا عن حزن الشّاعر تلك التي رسم فيها  صورا

جنائزيّة أو شبه جنائزيّة سواء أكان هو محورا  لها أم لم يكن .

فمما جاء في المعنى الأوّل قوله :

عندما شيّعوني

هَمَى بالأغاني المطر

وقاد خطاي الشّجر

خطو ة، خطو ة

وبنيتُ من  الدّمع صرحا صرحا مُمَرّدْ

وطوّرتُ معنى المطرْ

( نفسه ص 25 )

ومماّ قاله في المعنى الثاّني :

هي قرعُ النّواقيس أعرفه في صباح المدنْ

هي نوحُ الحمائم  يسكبُ لحن الشّجنْ

( نفسه ص 31 )

ومن أكثر صور الحزن تردّدا في شعره صور الرّحيل والعزلة والانتظار

والبكاء .وهي تتردّد تارة متفاصلة  وطورا  متداخلة، جميعها أو بعضها.

فمن أجود صور الرّحيل قوله :

لا الهوى سارٍ ولا القمرُ المسافرُ راجعْ

إنّي ليحزنني ذهابُكَ دون عودهْ

وأنا هنا شيخ يطارحُ بالهوى الماضي

ويأكل في ظلام الليل سُهْدَهْ

( نفسه ص 50 )

و قو له :

أيمضي ولم تشربِ الكرمةُ العاليهْ ؟

أيمضي ولماّ يزلْ في الشّفاهِ حديثٌ

تردّده الساقيهْ ؟

أيمضي ويغفو التّرابُ على ضمّةٍ حانيهْ ؟

أيمضي  إلى حيث لا بسماتٌ ولا ضِحكةٌ صافيهْ ؟

( نفسه ص 47 )

ومن أشدّ صور الغربة إيحاءً  قوله :

سلّمْ إن جئتَ ترافقني فالغربةُ بحرٌ

وأنا الفلاّح دليلُ الفتحِ

( نفسه ص 34 )

وقوله :

سرقتَ منّي بسمتي يا جريدُ      وكلّ أفراحي وأنغامي

وعشتُ من بعدك لحناً شريدْ    يسهرُ في فكري وأحلامي

( رباعيات ص 23 )

ومن أنصع  صور الانتظار قوله :

ومن كان مثلي حليفَ انتظارْ

سيبقى مدى الدّهر يبكي الدّيارْ

( نفسه ص 50 )

و مما قاله في تصوير  البكاء نقتطف هذين المقطعين :  الأوّل :

لا الهوى سارٍ ولا القمرُ المسافرُ راجعْ

أهي المساكنُ أم بكاءُ الأمِّ تطرّزُ بالدّموع

مفارشَ الطفلِ الذي لا يعرف البسماتِ من عهد الطفولهْ

( نفسه ص 50 )

والآخر قوله  :

زرتَنا والليلُ يأتينا بنقلِ المائدهْ

والسّماءُ تُوعدُنا بالدمعِ

كلٌّ حسب ما في قلبه ص حزنٍ باكٍ

و إن كان البكا عرشَكَ والأحزانُ خمركْ

( نفسه ص 67 )

ومن أطرف ما صرّح به محيي الدّين خريّف  في شأن الأسباب الكامنة وراء نبرة الكآبة الغالبة على شعره  أن جَدَّته كانت من النّادبات البارزات في قريته . فكان  يستنجد بها أصحابُ المآتم  لتقود طواقم الناّئحات . وهو ما كان له – وهو طفل صغير –  عميق الأثر في نفسه . وهذا التّفسير من الصّعب علينا الأخذ به  لتعليل وجود  مثل هذه الكآبة الحادّة  الملحاح التي تلازم مزاجه   . ولعلّ الأقرب إلى المعقول أنّها  حالة ولاديّة .وهو ما جعلها جزءا لا يتجزّأ من  كيانه النّفسيّ  ومن مزاجه .

وعلى الرّغم من أنّنا لا نجاري علماء تحليل النّفس في التّفاسير التي علّلرا بها الكثير من الأمراض النّفسيّة فإنّنا نسوق هنا على سبيل الإشارة تفسير بعضهم  لهذا النّوع من الكآبة . وهو أنّ المولود الجديد حين ينزل من بطن أمّه يصطدم بعالم غريب مليء صعابا وأشواكا فيظلّ يحنّ  على نحو لا واع إلى  الرّحم حيث كان ينعم بالدّفء والسّكينة  والاطمئنان  . وهذا الحنين في تقديرهم  يرافق بعض الأشخاص طيلة حياتهم .

2-2:المقوّم الثاني : الألم :

مهما يكن نصيب هذا التّفسير للكآبة من الصحّة فإنّ شاعرنا  في معظم قصائده يتحرّك في فضاء مزروع ألغاما ، مليء أشواكا  وموانع، محفوفا بالمزالق والمهـاوي  .ولقد تردّد ذكر هذا الفضاء مرّات وتنوّعت صوره شديد التنوّع  .من  ذلك قول الشّاعر:

ولكن فمن أين للصّخرة المستحيلة

بأن تتدحرج وهي- كما قد علمتم- ثقيلهْ ؟

( نفسه ص 52 )

وقوله :

بيننا حائطان من الماء والرعب

ينزلُ ثمّ  جدارٌ

ليطلعّ بعدُ جدارٌ

( نفسه ص 79 )

وقوله :

سأقول

وإن كان قولي تحاصره الطيرْ

تمنع عنه السّفرْ

( نفسه ص 18 )

لكنّ هذا المحيط لا يكتفي بالاعتراض والعرقلة بل يمارس على الذّات الشّاعرة

ألوانا شتّى من العدوان و التّعذيب مثخِنا إيّاها  بالجراح مستمرئا آلامها . ومن صور هذا الإيذاء الصّارخ ما جاء في قول الشّاعر :

فاسكبِ العشقَ واسقِهِ

في ردهات البيوت القديمهْ

إنّهم ذبحوه ككبش الفداءِ

وحادوا به في الظّلام عن الطّرق المستقيمهّ

( نفسه ص 71 )

وقوله :

إن ضمّدَ دهرُكَ جُرْحاً   يعودُ ليظهرَ جرْحٌ

( مدن معبد ص 8 )

وقوله :

والجُرْحُ تفاقمَ حتّى صارَ مع الأيّامِ جُروحٌ

( مدن معبد ص 12 )

وقوله :

واركضْ كالكوكب في زمنٍ

قد جاء ليميتَ فينا الحبّ

(نفسه ص ص 16 – 17 )

وقوله :

مرّت طلائعك الهزيلهْ

وهي تجلدني بذنبي

تتبعثرُ  الكلماتُ في حلقي

وأهوي  كالطّليح

ريح تجاذبني لتسلّمني لريحْ

( نفسه ص 81 )

هذا العدوان المستمرّ الذي تتعرّض إليه الذّات الشّاعرة  قد ولّد فيها ضربا من الشّعور المازوشيّ. فإذا هي  ممزّقة بين شعورين متناقضين : ألم ولذّة .

يقول :

و إنّي في النّار إبراهيم

كما يرى في  ألمه مصدرا أساسا للإلهام الفنيّ  :

وتُمسي جراحي الصّغيرةُ

بعد اخضرار الشّموس قصيدهْ

( نفسه ص 32 )

بل تضحيةً يتحمّلها عن طيب  خاطر من أجل إسعاد الآخرين :

شحّتْ مصابيح اللّيالي السّودِ

في كفّ المسيحْ

ضاع  السّنا فيها وضاعت

جَرِّبْ دمي إن كان واصطبحْ لعلّ

خيوطُ فجرك تستحيلُ إلى قرنفلة

تَمْسَحُ بالشّذى وجه اليتامى

(نفسه ص 81 )

وهكذا فإنّ  الألم الذي نتج ، في الأصل، عن فعل عدوانيّ مورس على الذّات الشّاعرة يتحوّل إلى مصدر للإبداع . وهنا يلامس محيي الدّين خريّف أعمق أعماق الذّات المبدعة التي مهما تعدّدت صيغُ تعبيرها الفنّيّ  وتنوّعت  فإنّ وجودها يبقى  مرتهنا بمدى توفّر خصيصتين:  الأولى هي العمق الطبيعيّ الخالص الضّروريّ للاتّحاد مع الخالق والكون والآخر واستكناه حقائق الأشياء والأخرى  هي الألم الحارق الممضّ . وسنعود بما يلزم من التوسّع إلى الحديث عن هذا الحبّ .

ومن  ثمّة  فلا غرابة  إذا اقترنت صورة الألم  لدى الشّاعر بما هو جميل أخاّذ كما في قوله :

أ في  زروق البُعد يعبرُ طيفُ الألم

جميلا كما قيل  عن كلّ شيء  جميل

( نفسه ص 29 )

لكنّها تقترن في الآن نفسه بالحيرة الوجوديّة التي تتجلّى في إحساسه بضياع كيانه .

وفي هذا يقول :

أنا صَدَفُ البحر ضاعت لآليه

( نفسه ص 25 )

وبتحوّل كيانه  إلى متاهة  :

المتاهة أسكنتها جِسدي

ومشيتً بها في الخليج العميقْ

( نفسه ص 78 )

وهدا الصّراع الداّخليّ يوازيه صراع في المحيط الخارجيّ :

أنا عبدها القرويّ يرى الماء في داخل الكأسِ

مرآةَ وجهٍ يفتّش عن نفسه ويضيع وراء الملايين

( نفسه ص 40 )

وفي المعنى نفسه يقول :

عطشان أنا رغمَ وجودِ الماءْ

( مدن معبد ص 23 )

ويتفاقم هذا الشّعور السّلبيّ إلى حدّ أن يختلّ وعيُ الذّات بالزّمن وتفقد قدرتها على تحديد موقعها من الوجود وعلى التحكّم في تحرّكها داخله فتسلّم  بخضوعها للقضاء والقدر.

وفي هذا يقول الشّاعر :

ليس تدري الطّيورُ على أيّ أرض ستنزلُ

ليس تدري متى هي جاءت

وفي أيّ حين ترحلُ

( نفسه ص 14 )

وهذا التّسليم يقودها إلى الاستسلام مقتنعة بأنّها كالرّيشة في  مهبّ ا لرّياح .

يقول الشاّعر :

فإماّ سأَسْكُنً دورَتَكً الآتيهْ

وإمّا سيًسلّمني الّليلُ لليلٍ

والبحرُ للبحرِ والنّهرُ للساقيهْ

( نفسه ص 25 )

وليس ثمّة شكّ في  أنّ اجتماع مثل هذه الكآبة المتأصّلة  وهذا الألم النّفسيّ المكين و ما يقترن بهما من شعور دائم  بالإحباط والحيرة الوجوديّة لمن الدّلائل القويّة على وجود  قطيعة بين الذاّت ّ الشّاعرة والكون . وهذه القطيعة  على حدّ رأي جورج لوكاتش ( )  هي العلامة الأولى للمأساة . وهو ما يجعلنا نصنّف شعر محيي الدّين خريّف  من هذه الناحية في خانة الشّعر المأسويّ .

وبطبيعة الحال فإنّ كلّ ذات  تجد نفسها في قطيعة مع الكون تسعى  لا شعورياّ إلى التّخفيف من حدّة الضّغوط المسلّطة عليها باستخدام وسائل مختلفة ..والوسيلة التي وجدتها الذّات الشاّعرة هنا  الأنسب إلى حالها هي الحبّ .  فكان المقومّ الثاّلث من مقوماّت تجربة الشّاعر .

2 -3: المقوّم الثّالث : الحبّ :

يلوح لنا الحبّ إذن في شعر محيي الدّين خريّف حلاّ تعويضيّا أي ملاذا تلجأ إليه الذّات الشّاعرة كلّما بلغ الألم النّفسيّ ذروته  . لكنّنا إذا تتبّعنا صيغ التّعبير عنه وجدناه يتّخذ أشكالا شتّى .وقد مررنا فيما سبق  بأحدها  وهو الحبّ  المَرَضيّ المازوشيّ  المقترن بالألم . و من هذه الأشكال أيضا الحبّ الجنسيّ السليم تجاه المرأة كما في قوله :

عجبا من عشيق

يُعَذَّبُ  من قَبْلِ  أن يلتقيَ بعشيقتهْ

(نفسه ص 65 )

أو قوله :

عندما يحرقُ الحبّ  قلبين

يبدأ في داخلي زمنُ العشقِ

( نفسه ص 46 )

أو قوله :

وأنا مازلت هناك ابنَ زيدونٍ

يفتّشُ عن ولاّدةَ في بهو النّادي

( نفسه ص 21 )

وفي سياقات أخرى يجيء بالمفهوم الأوسع والأعمّ  لكلمة ” حبّ ”  كما في قوله :

وَدِدْتُ بأنّ الحُبَّ يُجْمَعُ كلُّهُ

فيُقْذَفُ في قلبي وينغلقُ الصّدرُ

فلا ينقضي ما في فؤادي من الهوى

ومن فرحي بالحُبّ أو ينقضي الدّهرُ

( نبيذ الكرخ ص 31 )

وقوله :

إذا وجدتُ لهيبَ الحُبّ في كبدي

ذهبتُ نحو سقاءِ الماءِ أبتردُ

هَبْني ابتردتُ ببرْدِ الماءِ ظاهرهِ

فمن لنارٍ على الأحشاءِ تتّقدُ

( نبيذ الكرخ ص 28 )

وقد يُخصّص  للوطن مثلما هو الشّأن في قوله :

 إنّي رجلٌ يعشَقُ  الغيمَ في الصّيفِ

لو كنت أمسكتُه بيدي

لذهبتُ به وغمرتُ سماءَ بلادي

( نفسه ص 59 )

وقوله :

ومن لي بتونسَ ؟

وهي البِشاراتِ والحُبّ والانتماءْ

دخلتُ إليها وما كنتُ أعرفُ للحُبّ طعما

وخاطبتُ أسوارَها

وأنا أنتقي من كلامي سِقاطَ الأحاديثِ

ينبُشُ في البعدِ أغوارها

جمالكِ أخضرُ وحبّي ما زال أخضرْ

وشعري في العنقِ المُشْرَئبّةِ جَوْهَرْ

( نبيذ الكرخ ص 78 )

وللفقراء داخل الوطن :

أحببتُ به ( أي الوطن) الشّمسَ

تنسُجُ للبسطاءِ معاطفَ

وتُلبسُهمْ في الشّتاء ملاحفَ

(نفسه ص 39 )

كما يشمل الحرفَ :

من عَشِقَ الحرفَ ليس يبالي الغرقْ

( نفسه ص 50 )

ومن جهة أخرى هو أداة للمعرفة وسبيل إلى الحقيقة بها يحاول الشاّعر استعادة لحظة بداية الخلق كما في قوله :

تعلّمُكَ الكلماتُ بانْ تعشقَ الأقحوانْ

وتركَبَ متنَ البُراقِ

وتمضيَ إلى حيث  كان الزمانْ

صغيرا صغيرا صغيرا

ومن كَفِّه ينبعُ الأرجوانْ

هنالك تجلسُ في ظلّ صخرةِ آدمَ

وتخصِفُ من ورقٍ ما يزال عشببْ

وتسمعُ أطيارَها تتناجى

على غصنٍ ما يزال رطيبْ

( نفسه ص 60 )

وإذا كانت كلّ السّبل  التي تُسلك لبلوغ الحقيقة  السّرمديّة  يمكنُ أن تفضيَ إلى أبواب مغلقة

فإنّ سبيل الحبّ لا تُخطئ الهدفَ أبدا .

يقول الشاّعر في هذا  :

وبدّلْ وجهكَ في رَكْبِهم ألفَ مرّة وما غاب يوما عن العاشقينْ

( نفسه ص 8 )

حمدًا له حمدا لآلائِهِ       لنعمتِهِ أَرْبَتْ عن الحدِّ

يَغْمُرُني يَمْلؤُني فَيْضُهُ    بالحظّ والإقبالِ والسّعْدِ

فَلِيَ هوىً ليس له آخرُ   يصلني بالعالَمِ الفَرْدِ

( مدن معبد ص 5)

إنّه  إذن  حبّ  صوفيّ  مصدره أعمقُ أعماقِ  الروحِ يقوم لدى الشّاعر بديلا عن العقل المكبّل بأصفاد المنطق . وهو، في الآن نفسه، بمنزلة النّور الذي يفيض على الكون بأسره ، هاتكا سُجُفَ الظّلام وناثرا بذور الخير حيثما حلّ .

وقد تراءى للشّاعر أنّه بفضّل هذا الحبّ  الذي يحمله في كيانه يتنزّل  من زُمرة المحبّين في منزلة القُطب الذي عليه المدار، كأنّه  القائد أو الإمام . وفي ذلك يقول :

والمحبّون كنتُ أنا قطبَهم

حين ضمّهمُ اللّيلُ في صدره

ومشوا في الظّلام يدبّون بحثا

عن المستحيل وراء الحدود التي تعشَقُ الاخضرارْ

وتموتُ وتحيا إذا ما رأت كاسَ وجدٍ تُدَارْ

( نفسه ص 12 )

3- الخصائص الإنشائيّة لشعر محيي الدّين خريّف :

يتضح لنا   إذن أنّ  المستوى الأكثر إفادة في شعر محيى الدّين خرّيف هو المستوى النّفسيّ . وفيه تنكشف الذّات المنشئة للخطاب عن باطن تصطرع داخله قوّتان  شعوريّتان إحداهما إيجابيّة تتولّد باستمرار، في الدّاخل وهي الحبّ والأخرى سلبيّة وافدة على نحو مكثّف من  الخارج . وهي الألم. وقد نشأ عن التّصادم المستمرّ بين هاتين القوّتين شيوع إحساس بالكآبة  فى عالم الشّاعر يسري في رؤيته فيغمر كلّ ما تقع عليه من كائنات حيّة أو جامدة .

وهذا العالم الذي يحتضن صراعا نفسياّ دائما  هو بمنزلة البركان  الذي تحتدم في داخله الحمم . فيقذفُ  بالواحدة منها تلو الأخرى . وهو ما يجعل النصّ الشّعريّ من نصوصه  مادّة خاما لا تخضع  لبنية متّسقة ولا تخضع  لقالب من القوالب المتعارفة .

ومن ثمّة فإنّ السمة  الغالبة على النّصوص الشعرية عند محيي الدّين خريّف هي الانسياب  المتولّد عن الدّفق العاطفيّ المتواصل . وهو ما أدّى إلى غياب الهيكلة الدّاخليّة الدّقيقة . فهي أشبه ما يكون بنفثاتٍ ذاتِ تضاريسَ مُحدّبة وخطوط منكسرة متفاوتة الهيئات والأحجام لا يتحكّم في تشكيلها إلاّ إحساسُ الشّاعرِ الصّاعدُ ،  النّازلُ على نحو مضطرب اضطراب نبضات قلب مكلوم .

فإذا كان الشّاعر التّقليديّ ينطلق من قالب ترسّخت مواصفاته واستقرّت مقاساته على مرّ القرون فيصبّ فيه الأفكار والمشاعر بمقتضى عملية إيداع لا تتطلّب إلاّ تحقيق  الملاءمة بين الحاوي والمحتوى، وإذا كان الشاّعر المُحْدَثُ تنبع القصيدةُ لديه من ومضة عابرة  غالبا مّا تكون جديدة ثمّ يقبل عليها بفكره الثّاقب وخياله الخلاّق فيولّد منها الصّورة تلو الأخرى  إلى أن يكتمل  النصّ اكتمال البناء السّحريّ الذي يعلو فجأة في طُرْفَة عين  بعد أن كان في طي
العدم فإنّ محي الدّين خريّف لا ينطلق في نصوصه من قالب ولا من نواة دلاليّة تأسيسيّة . وهو ما يجعل النصّ الواحد بلا بداية ولا نهاية ولا أقسام محدّدة وبلا هيكل متماسكة أجزاؤه مترابطة وحداته. ويُعزى هذا الشّكل الفاقد للشّكل ،   كما قلنا ، إلى أنّ المستوى الأبرز في شعر محيي الدّين خريّف إنّما هو المستوى النّفسيّ الذي يتّسم  بهيمنة كلّيّة للشّعور أدّت إلى تقليص دور المفكّرة وحتّى المخيّلة واختزال آثارهما في بصمات خفيفة لا تكاد تُلمحُ .

وهكذا فإنّ  الذّات المنشئة للخطاب في شعر  محيي الدّين خريّف تتبدّى ذاتا عاطفيّة، في المقام الأوّل، تعامل المحيط الخارجيّ بمنطق الشّعور الخالص لا بمنطق العقل . وهو ما يلوح في غياب التّخطيط والهندسة والإستراتيجيا مقابل الانسياق وراء الإحساس و الانغماس  في الحلم .إنّنا إزاء كيان عاطفيّ متضخّم لا ينقطع نشاطه ولا يتوقّف إشعاعه العاطفيّ على  ما حوله بضروب من  الكتل الشّعوريّة أشبه ما يكون  بشُهُب مؤتلفة في فضاء حالك .

فطغيان  العاطفة والحلم جعل المستوى النفسيّ هو الأشدّ إفادة . وقد تعاضدت تانك الملكتان  على إلغاء دور المفكّرة و على التحرّر من ربقة المنطق  العامّ .وهو ما ينفي عن الذّات المنشئة للخطاب صفة الذّات المفكّرة ويختزل ماهيتها في مزيج من العاطفة – وهي ملكة  نفسيّة خالصة – والحلم – وهو ملكة نفسيّة ذهنيّة .

وقد انعكس هذا المستوى النّفسيّ على المستوى الإنشائيّ في النصّ الشّعريّ . فإذا هو في الأغلب الأعمّ بلا مقدّمة ولا خاتمة حقيقيّتين وبلا نواة دلاليّة تأسيسيّة  مركزيّة ينبع منها . حتّى لكأنّ محيي الدّين خريّف كتب طيلة حياته قصيدة واحدة على مراحل متباعدة وعلى نحو متقطّع تتحكّم فيه حالة الشّاعر النّفسيّة .

كلّ هذا يبيّن لنا أنّ هذا الشّاعر صاحب تجربة شعريّة قائمة الذّات  تستمدّ خصبوصيّتها  من طبيعة بنيته النّفسيّة وطاقته  الانفعاليّة لا من قدرات تخيّلية يتمتّع بها  . إنّه شاعر القلب بلا منازع .

الهوامش :

1- مجموعات محيي الدين خريف المطبوعة هي التالية :
– كلمات الغرباء  ، الدار التونسية للنشر ، تونس 1970

– حامل المصابيح  ، دار ابن عبد الله  للنشر ، تونس 1974

– السجن داخل الكلمات ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1977

– مدن معبد ، دار ابن عبد الله ، تونس 1980

– الفصول ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد  1981

– الرباعيات  ، الدار التونسية للنشر : تونس 1985

– طلع النخيل ، الشركة التونسية للتوزيع ،  تونس 1987

– البدايات والنهايات ، دار بو سلامة للنشر : تونس 1987

– سباعيات ،  دار سحر للنشر ، تونس 1996

ـ نبيذ الكرخ ،  الأطلسية للنشر ، تونس

– الفصول، تونس 1980

– نبع العطاش،نشر مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين، الكويت 2012

2- ذكر الشاعر هذه المجموعات في محاورات أجريت معه وهي بالعناوين التالية : أسماء الله الحسنى – نفحات الإيمان – خوفا من عيون الأمير – أوليات – ريش الأيام – كن سعيدا لأنهم نسوك – عراقيات.

3- انظر : محيي الدين خريف إنسانا وشاعرا ، أعمال ” بيت الشعر ” ، تونس 1998

4- انظر : محيي الدّين خريّف ، البدايات والنهايات ، دار بوسلامة للنشر ، تونس 1987. أما دراستنا لها فقد صدرت ضمن الكتاب الجماعي محيي الدين خريف إنسانا وشاعرا ص ص 71 –  83

تعليق واحد

  1. ابيات جميلة جدا. الله يرحمه ويحسن اليه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*