بينَ بينَ: شعر: محمّد مراد أباظة – شاعر سوريّ مقيم بأبخازيا

محمّد مراد أباظة

 

لستُ متشائماً يا صديقي

إلى حدِّ الاستقالةِ

من حيّزِ أملٍ ضيّقٍ تحشرُنا فيه غريزةُ الحياةِ.

لستُ متفائلاً

إلى حدِّ الثّقةِ العمياءِ

بغدٍ مغلَّفٍ بسخامِ النّوايا

وغموضِ التّوقّعاتِ

أنا بينَ بينَ

أُراوِحُ بين الأسودِ والأبيضِ

معترفاً بأنّني أتعثَّرُ أحياناً

بألغامِ الرّماديِّ.

 

لستُ متفائلاً جداً يا صديقي

كالكثيرينَ من حولي

أمارسُ يومي بحكمِ الضّرورةِ

أتحرّكُ كآلةٍ تعملُ بضجيجٍ مكبوتٍ

مشوَّشاً بأحلامٍ فاقدةِ الصّلاحيةِ

وهذيانٍ يشاغبُ على حافةِ الجنونِ.

يرهقُني السّهرُ في شرفةِ العقلِ

والاستيقاظُ على اختناقِ النّافذةِ

بالأناشيدِ الهابطةِ

وتقلقُني ذاكرةُ البابِ المفقودةُ

والعيشُ تحتِ العنايةِ المشدّدةِ.

نهاراً يشطّبُني اليومَ من لائحةِ أنصارِهِ

ليلاً يكتبُني في قائمةِ الخارجينَ عليه

ويفرضُ ضرائبَهُ باستمرارٍ

على الضّحكاتِ التي أختلسُها من جعبتِهِ

أو يستعيدُها عنوةً

يسخرُ منّي إذا ما ارتديتُ هويّةَ غيمةٍ

ويحسدُني إن استضفتُ قمراً

أو عشقتُ نجمةً.

ومتأرجحاً كلاعبِ سيركٍ مبتدئٍ

أحاولُ التّوازنَ على الأعصابِ المشدودةْ

بينَ ثلاثِ هزائمَ وشبحِ انهيارٍ

والاتزانَ قبالةَ مرايا محدَّبةٍ ،مقعّرةٍ

والتّماسكَ خلالَ لهاثِ الرّوحِ بينَ وطنينِ

أنا المسافرُ الذي ضيَّعتْهُ الدّروبُ في فوضى العاصفةِ

يهمسُ لي درويشٌ:

لستَ هنا، ولستَ هناكَ

إنّكَ بينَ بينَ.

لستُ متفائلاً جداً يا صديقي

أكتئبُ لانكسارِ قلبٍ في مقتبلِ العشقِ

واحتراقِ شجيرةٍ قبلَ الرّقصِ على معزوفةِ ريحٍ

وذبولِ صبيةٍ في ظلِّ شجرةِ العائلةِ ووصايا القبيلةِ.

أقضمُ قلبي لدى انطفاءِ ضحكةِ طفلٍ قبلَ الأوانِ

أرثي لكلِّ عجوزٍ ينبشُ في صندوقِهِ العتيقِ

باحثاً عن أيِّ مبرّرٍ يربطُهُ بفُتاتِ يومِهِ

تخنقُني مرارةُ غصّةٍ

حينَ أتذكّرُ أنّني شخصيّةٌ بقناعٍ ضاحكِ

في مسرحيّةٍ هزليّةٍ

دوري فيها لا يتعدّى البكاءَ خلفَ القناعِ

والموتَ قهراً في نهايةِ العرضِ.

***

لستُ متشائماً جداً يا صديقي

فمازالتِ الحياةُ قادرةً على إغرائي

أنا المتحفِّزُ دائماً على أهبةِ الدّهشةِ.

ومازالتْ أناملُ شوبانَ

تنسجُ لي أجنحةً من هديلٍ

وتنثرُ في ليلِ غرفتي نجوماً معطَّرةً.

وفيروزُ مستمرّةً في هدهدةِ الطّفلِ في داخلي

ورفوِ بعضِ جراحِهِ القديمةِ

فيعودُ عاشقاً صغيراً يداعبُ شقائقَ النّعمانِ

يغازلُ النّرجسَ البرّيَّ

يطاردُ عصافيرَ التّينِ

ويسابقُ الفراشاتِ في مروجِ الجولانِ.

ومونيه يزيِّنُ جدرانَ صحوي

يزرعُ زنابقَهُ المائيّةَ على طاولتي

وأتجوّلُ مع أراغون في عيني إلزَا.

أتلو قصائدَ تمسُّ الرّوحَ

أستحمُّ في جداولِ أغنياتِ نبيّةِ

تمنحُ ذاكرتي حصانةً خضراءَ

ضدَّ أوبئةِ الزّمنِ.

وأقهقهُ.. أقهقهُ.. أقهقهُ ملءَ الرّئتينِ للنّكتةِ الذّكيّةِ

يرويها صديقٌ لي ببراعةٍ.

أحلمُ، كأمثالي، بعالمٍ ناصعٍ

يغسلُهُ مطرُ اللّحظاتِ المضيئةِ

لا يخنقُ شمسَه دخانُ الحرائقِ

ولا يغتالُ الجفافُ ربيعَهُ المشتهى

ولا يعتقلُ الخوفُ أمنَ صغارِهِ.

ما زلتُ أدخِّنُ بتشفٍّ

بالرّغمِ من إرشاداتِ الطّبيبِ الأبويّةِ

ونصائحِ أصحابي الطّيّبينِ

وشرايينِ القلبِ الثّلاثةِ المرقَّعةْ

والانكسارتِ المتتاليةِ

وأشخبرُ على شغافِ القلبِ

رسائلَ منّي إليَّ

أقرؤُها قبل وصولِها.

***

لستُ متشائماً جداً يا صديقي

لستُ متفائلاً جداً يا صديقي

أنا بينَ بينَ

كالعادةِ

أنا بينَ بينَ.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*