لحظةُ فَتْحِ الحصّالةِ : شعر : مازن أكثم سليمان – دمشق – سورية

مازن أكثم سليمان

 

كُنّا صِغاراً

نُجَفِّفُ بُقَعَ المَلَلِ عن ثوبِ الأرضِ

ونُدحرِجُ الغابةَ في بَراميلَ شفّافةٍ.

 

علَّقْنا عجَلاتِ السَّيّاراتِ التّالِفةِ

أساوِرَ في رُسْغِ اللَّعِبِِ

وكانَتْ أضيَقُ الأمكنةِ

-حيثُ تُحشَرُ السَّماءُ مُتملمِلةً-

ساحاتٍ

بِقُدرةِ قُلوبِنا على تحريرِ الألوهةِ من مَعارِفِها.

 

نمْنا ذاتَ عيدٍ بُرتقاليٍّ

والمُوسيقى شرشَفُ أحلامِنا.

المَلابِسُ الجديدةُ

تمشَّتْ طوالَ اللَّيلِ في خيالِنا،

والمُفرقعاتُ

عبَّدَتْ طريقَ الوجودِ إلى الطَّرَبِ.

 

نمْنا أقلَّ من رفَّةِ وردةٍ على رحيقِها الوادِعِ

لاحَقْنا الدُّمى وهيَ تهجُرُنا

-راكضينَ في مَوجاتِ بُكائِنا الحِنطيِّ-  :

[قبلَ صُعودِكِ أيَّتُها الملائِكَةُ

اترُكي لنا صُكوكَ البَراءةِ تحتَ الوَسائِدِ]

 

…كُنّا صِغاراً

بأيّامٍ لبَنيّةٍ ترقُصُ

بمَعابِدَ لا هَياكِلَ لها

ولم نُصدِّقْ ما رأيْناهُ عقبَ ذلكَ

نوافِذُ تخلَعُ نُجومَها

كي تتزيَّا بالرَّمادِ

والنُّزهةُ المَوعودةُ

يُرافِقُها الصَّمتُ إلى ماضيها

ونحنُ مَتروكونَ هُناكَ،

في مُنتصَفِ الطَّريقِ المُكتظِّ بالسَّيّاراتِ المُسرِعةِ

نتحاوَرُ معَ العالَمِ

بانهِماكِ طفلٍ ما زالَ يلعَبُ:

[المَرايا دوَّنَتْ نُمُوَّ الأنيابِ يوماً إثْرَ يومٍ

ودفترُ المُذكَّراتِ

أتلَفَ نفسَهُ بنفسِهِ

كرِسالةٍ إلكترونيّةٍ مُشفَّرةٍ ]

كُنّا صِغاراً

لكنَّنا لم نستسلِمْ

لأنَّ لنا مَزايا الحجَلِ فوقَ ينبوعٍ أخضَرَ

وبذكاءِ لاعبينَ مَهَرةٍ

لم نُنْهِ اللُّعبةَ في الوقتِ المُخصَّصِ للطُّفولةِ

إنَّما استيقظنا، وقد أشمَسَتْ في مَلاهينا

لنُجدِّدَ الطّاقةَ في مُهجَةِ كُلِّ مَلّاحٍ

ونتساءَلَ عمّا سنجِدُهُ في الحصّالةِ القديمةِ:

[اقتَرَبَ مَوعِدُ فَتْحِ الحصّالةِ؛ ليسَ الاحتفالُ وحدَهُ، إنَّما عُلُوُّ الحاراتِ كانتسابِ السُّطوحِ إلى جيلِ الغُيومِ. مُبادَرةٌ أُخرى تُرمَى كالطُّعْمِ في ياقةِ السَّرابِ، وندنو أكثَرَ من أصابِعِنا وعُيونِنا وقُلوبِنا..]

[حصّالةٌ تنكَأُ جِراحَنا كبُوقِ إسرافيلَ يومَ الحِسابِ. حصّالةٌ فاضَ منها الوقتُ كالدَّمِ المَهدورِ في دورةٍ خارِجَ الأوردةِ. الدّمُ نفسُهُ الذي التجَأَ إليها بعبقريّةِ طفلٍ يحبو نحوَ حِضْنِ أُمِّهِ..]

[حصّالةٌ لنشتريَ بمَخزونِها البَديعِ الإرادةَ التي فقَدَها كُلُّ حُلْمٍ، لنُبوِّبَ كُلَّ ما تجمَّعَ فيها من جَميلٍ وقاسٍ، من قذِرٍ ورقيقٍ، حينما ننظُرُ في شِقِّ شفتَيْها فنُبْصِرُ: كماناً ساهِراً، كراهيّةً صفراءَ، درّاجاتٍ يخدُشُها الهَواءُ، أصفاداً وسَلاسِلَ، قطاراً كهربائيّاً للمُهمّاتِ الرَّحيقيّةِ، أدواتِ تعذيبٍ، أجراسَ حُبٍّ ماكِرٍ، أفرانَ غازٍ صاهِرةٍ، رحلاتٍ مَدرسيّةٍ تعُجُّ بالتَّرَقُّبِ العاطفيِّ، سُبُّورةً خاليةَ الرُّوحِ، صَباحاً رائِقاً على شرشَفٍ مُوسيقيٍّ، عِمْلةً من فئةِ الألف قتيلٍ، حُمُّصاً مَدقوقاً معَ ملحِ اللَّيمونِ، صفعاتٍ بارِزةً في قَبْوِ الجُرذانِ السَّجينةِ، مَدارَ خُبزٍ حولَ قطعةِ الجبنةِ اليتيمةِ، ونَزْعاً نهائيّاً لقُشورِ الفاكِهةِ المَضْمومةِ كأكفانٍ على عُرْيٍ هوَ انثناءُ الحقيقةِ..]

 

… في الأمتارِ الأخيرةِ

تتكثَّفُ الأقاحي

تضَعُ الرّيحُ ثِقلَها

في العُيونِ المُنصِتَةِ إلى أهدابِها وهيَ تفرُّ منها

وتكونُ شَهادةُ السُّنونو في مَحاكِمِ النَّسيمِ

بمَنزلَةِ وِسامٍ على صَدْرِ الحياةِ التي تختنِقُ رُويداً رُويداً.

 

في الأمتارِ الأخيرةِ

تتطلَّبُ القصصُ حبْكةً مَسبوكةً كاللَّهِ في مُنمنماتِهِ

بِمُشْمُشٍ يُمهِّدُ أناشيدَ الباعةِ الجَوّالينَ

وحِبْرٍ يَخونُ أحلافَ العَناوينِ القديمةِ

بنُهودٍ تُحَرِّضُ الاختناقاتِ المُروريّة في صُوفِ الكنزاتِ

وريشٍ يُنفَضُ عن ثوبِ الطّائِرِ الوَثّابِ.

 

في آخِرِ سنتيمتراتٍ

من آخِرِ آخِرِ المِتْرِ الأخيرِ

تَصيرُ الحرَكَةُ مَرِنَةً وسَلِسةً كالمُداعَبةِ

وقبلَ أنْ يبلُغَ الغاضِبونَ

ذاكَ الرّابِضَ كحارِسِ الموتِ فوقَ الهِضابِ

يتهاوى وحدهُ، ووحدهُ تتهاوى فيهِ الأوهامُ

بقُوَّةِ المُنكشِفِ أخيراً على النَّهارِ.

ليسَ في لحظاتِ الرَّحيلِ فقطْ

لكنْ أيضاً في لحظاتِ الولادةِ

تمُرُّ مَحطّاتُ العُمْرِ أمامَ العينيْنِ

ما عَبَرَ يومَ كُنّا صِغاراً

وما سيعبرُ يومَ ما زلنا صِغاراً

كفِلْمٍ لنْ يكفَّ عن حَصْدِ الجَوائِزِ

برصيدٍ مَفتوحٍ على شَراهَةِ المَدِّ والجَزْرِ

وأمامَ كُلِّ مُتلَقِّفٍ قادِمٍ للهَدايا

حيثُ الالتباسُ المُذهِلُ

يَنفي أنَّهُ قد شُبِّهَ لأحدِهِم:

[الحصّالةُ هيكَلُ سَفينةٍ مُبحِرةٍ،

والقِطَعُ النَّقديّة ألواحُ تَزَلُّجٍ حُرٍّ على الماءِ].

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*