المدينةُ لغزٌ :شعر: محمّد عمّار شعابنيّة – المتلوّي – تونس

محمّد عمّار شعابنيّة

 

المدينةُ لُغْزٌ يحَيّرُ حاضرَنا

 تتلوّى شوارعُها كالأفاعي

وتَقْعى على المشهدِ المتكرّرِ

حاراتُها كالكلابْ

 لكأنّ الخرابْ

ثدْيُ أُمٍّ عقيمْ

والذي لا يعارضُ صدْقَ الجوابْ

 أنّها عندما أخصبَتْ

تحتها الأرضُ واعشوْشبتْ

 لم توَدّعْ ضَناها وإملاقَها

والعجيب العجابْ

أنها لا تكافئ بالحبِّ عشّاقَها

 

 تعليق : محمّد صالح بن عمر

محمّد عمّار شعابنيّة ، هذا الشّاعر الذي أتابع مسيرته منذ بداية السّبعينات هو اليوم من أكثر الأصوات الشّعريّة التّونسيّة إقناعا و أشدّهم  جلبا للاحترام. فبعد أن خطا خطواته الأولى في صلب  المجموعة التي سُمّيت ب ” شعراء المناجم ” قد اكتسب شعره ، في بحر التّسعينات، مع حفاظه على أغراضه النّضاليّة الأصليّة،  بعدين جديدين : الأوّل  جماليّ بمنح الأولويّة للخطاب القائم على الإيحاء بدلا من الخطاب الإيديولوجيّ الجافّ  المباشر الموجّه إلى توعية الجماهير وبثّ الحماسة فيها  والبعد الثّاني هو الكونيّة والإنسانيّة .

 وهذه القصيدة تنتمي إلى سلسلة  خصّصها ل” الثًورة التونسيّة” . وهي، في الحقيقة،   تحرّك  شبابيّ تلقائيّ ضخم  اندلع في ديسمبر / كانون الثاني 2011  ونفّذه  جمع غفير  من العاطلين والمهمّشين ،لا قيادة لهم ولا برنامج. احتجاجا على البؤس و  الإقصاء  وللمطالبة بالشّغل والكرامة. ثم اتّسع مداه . فامتدّ إلى عدّة بلدان عربيّة أخرى . وكان من نتائجه انهيار الاقتصاد وسقوط آلاف الضّحايا في كلّ بلد وصل إليه ،  دون أن تلمس شعوب تلك البلدان أدنى تحسّن في أوضاعها أو أن تلمح بوادر أيّام أفضل  في الأفق. ولمّا كان  الشّاعر في البداية قد رأى في  ذلك التحرّك  ثورة شعبيّة ترمي إلى إقامة الدّولة الاشتراكيّة ( وفي الوقت نفسه رأى  فيه الإسلاميّون ثورة دينيّة لأجل إقامة الخلافة واللّيبراليّون تحرّكا هدفه إرساء نظام ديمقراطيّ طبقا للمنوال الرّأسماليّ الغربيّ   )  لم  يلبث منذ سنة  2012 أن أصيب بخيبة أمله  فيه ، أمام غياب أيّ برنامج لتنمية الجهات المحرومة  وارتفاع معدّل البطالة وتهميش الكتّاب والفنّانين واستفحال ظاهرة الإرهاب وتفاقم التّهريب وتغوّل الاقتصاد الموازي .فكان أن ازداد الغنيّ غنى والفقير فقرا .ومن هذه الخيبة التي تألّفت منها هنا نواة  النّصّ الدّلاليّة ولّد الشّاعر رمزا استعاريّا مركزيّا  – وهو رمز المدينة ( تونس)  – التي أضاعت فرصة تاريخيّة  لا تعوّض (عندما أخصبتْ  تحتها الأرض واعشوْشبتْ  لم توَدّعْ ضَناها وإملاقَها) لترتقي إلى مصفّ المدينة الفاضلة التي يتوفّر  فيها الازدهار والرّخاء  ويتمتّع  الإنسان في رحابها بالحرّيّة والمساواة والعدالة .بل أكثر من ذلك هي لا تتورّع حتّى عن نكران  جميل أحبّائها (والعجيب العجابْ أنها لا تكافئ بالحب عشّاقَها) . وها هي فجأة تغرقهم  في حالة من الخوف على المصير والرّعب ممّا قد يحلّ بهم في أيّ لحظة (المدينة لُغْزٌ يحَيّر حاضرَنا  ) .

أسلوبيّا قد مكّن بناء القصيدة على الصّورة المركزيّة للمدينة من إغناء نسيج النّصّ بعدّة صور فرعيّة تنتمي إلى حقول أخرى مختلفة  (تتلوّى شوارعها كالأفاعي – تَقْعى على المشهد المتكرّر  حاراتُها كالكلابْ  – لكأنّ الخرابْ  ثدْيُ أُمٍّ عقيمْ) .

وفي الختام إذا كان محمّد عمّار شعابنيّة قد فاز سنة 2011 بجائزة أفضل قصيدة عن “الثّورة”  فها هو يكتب اليوم قصائد من أفضل ما كُتب في رثائها . 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*