مفهوم الشّعر المنثور عند أبي القاسم الشّابيّ من خلال أنموذج : صفحات دامية من حياة شاعر: محمّد صالح بن عمر

Chebbi-229x300

الشّاعر التّونسيّ الخالد أبو القاسم الشّابيّ

téléchargement

 

صفحاتٌ داميةٌ من حياةِ شاعرٍ

الشّاعر التّونسيّ الخالد أبو القاسم الشّابّي ( 1909 -1934)

(توزيع الأبيات للشّاعر التّونسيّ سوف عبيد)

 

تلكَ حياةٌ بعيدةٌ

تجلّتْ كالفجرِ

وتوارتْ كالحُلمِ

واِضمحلّتْ في ظلامِ القبورِ

تلكَ حياةٌ جميلةٌ

قد تهادتْ غيمةً ورديّةً في سماءِ الوجودِ

وتدفّقتْ نهرًا مترنّمًا بأحلامِ البحارِ

ثمّ سارتْ جدولاً صامتًا في أوديةِ الموتِ

تلكَ حياةٌ شعريّةٌ ساحرةٌ

قد حاكها الأمسُ من آصالِ الفردوسِ وأسحارِهِ

ووشّتْها أناملُ الدّهرِ بأزهارِ الرّبيعِ

تلكَ حياةٌ فتيّةٌ حالمةٌ

ما اِستحمّتْ في لُجّةِ اللّيالي والأيامِ

ونشرتْ غدائرَها الذّهبيّةَ فوقَ المياهِ

حتّى تخطّفتْها المنايا وسارتْ بها إلى مأواها البعيدِ

وهناكَ

في ظلماتِ الأبدِ الغامضِ الرّهيبِ

تتألمُ تلكَ الحياةُ الشقيّةُ، وتبكي وحدَها بينَ الصّخورِ

كنّا نسيرِ نحوَ الغابِ

وكانتْ غمائمُ الحقولِ تحدّثُنا عن الحُبِّ والحياةِ

وكانتْ تقنّعُ السّماءَ سحابةٌ رقيقةٌ ساجيةٌ

كأنّها قناعُ حوريّةٍ من بناتِ الأحلامِ

أو رداءُ ملكٍ من ملائكةِ الفردوسِ

وكانَ الغابُ يبدو في ضياءِ القمرِ كرؤيا نبيٍّ أو خيالِ شاعرٍ

وكانَ الحُبُّ يتهادى أمامَنا

ثَملاً بينَ المروجِ النّاعسةِ في سكونِ اللّيلِ

وعلى منكبيْه درعٌ قصيرٌ كضبابِ الصّباحِ

جميلٌ كغيومِ الرّبيعِ

ومن حواليْهِ بناتُ الرّبيعِ يتناغينَ بصوتٍ أعذبَ

من أغاني السّواقي بينَ الحقولِ

ولمّا اقتربنا من الغابِ سمعنا طائرًا

يغنّي أنشودةَ القمرِ

و سمعنا قيثارةَ الحبِّ تترنّمُ في جوارِهِ

و سمعنا صوتَكَ العذبَ الجميلَ يتغنّى بوحيِ الجمالِ

يا ابنةَ اللّيلِ، ويا ربّةَ الأحلامِ

ولمّا جلسنا في ظلالِ الزّيتونِ

وبينَ أشجارِ اللّوزِ المزهرةِ

كان الطّائرُ قد سكتَ

وكانتْ قيثارةُ الحبِّ تتأوّهُ في يديْكِ

يا ابنةَ اللّيلِ ويا ربّةَ الأحلامِ

وكانتْ أناشيدُ الغرامِ تنزلُ علينا من مكانٍ بعيدٍ

ولبثنا نصغي لأنشودةِ الحبِّ

حتّى توسّطَ البدرُ قبّةَ السّماءِ

واِختلجتْ كواكبُ اللّيلِ

وإذ ذاك شعَرتُ بالحبِّ يستجيشُ في قلبي

وبالحياةِ تتدفّقُ من شفتي

تلك كانتْ حياتي بالأمسِ

حينما كانت نفسي بخورًا يتضوّعُ في معبدِ الحُبِّ

ورحيقًا يُهرقُ تحتَ أقدامِ الجمالِ

وأنشودةً إلهيّة

تتغنّى في هيكلِ هذا الوجودِ

تلك كانت حياتي بالأمسِ

حينما تمايلتْ في قلبي رؤى الحبِّ الجميلِ

كما تتمايلُ غلائلُ الحُورِ

في ضياءِ القمرِ

واِصطففتْ في صدري أحلامُ الشّبابِ الأولى

كما تصطفقُ أمواجُ البحيرةِ المورّدةِ

بأشعّةِ الشّفق الجميلِ

تلك كانت حياتي بالأمسِ

حينما كان هذا القلبُ الخفوقُ

يتضوّعُ بعبقِ الحياةِ

ويتوهّجُ بنارِ الخلودِ

ويزخرُ بشتّى العواطفِ والأحلامِ

وحينما كانت نفسي تركعُ

في محاريبِ الغابِ الجميلِ

مرتّلةً صلاةَ الحُبِّ وأغاني الفصولِ

تلك كانتْ حياتي بالأمسِ

حينما طفحَ بقلبي خمرُ الحياةِ

وترنّمتْ في نفسي أغاني الوجودِ

وراقصتْ أحلامي عرائسُ الغاباتِ

تلك كانتْ حياتي بالأمسِ

وما شيّدَهُ الأمسُ في ضبابِ الفجرِ المرصّعِ بالنّجومِ

قد هدّمتْهُ الأهوالُ في أحشاءِ الكهوفِ العابسةِ

وأفنتْ بقايا غيلانِ الظّلامِ

تلك كانت حياتي بالأمسِ

أمّا اليومَ

فقد انكسرتْ بين فلوجِ الموتِ تلك الزّهرةُ السّماويّةُ الطّاهرةُ

التي كانت تحبّبُ لي البقاءَ في هذا العالمِ

وبقيتُ وحدي

بينَ الصّخورِ

أشبّبُ بالموتِ

وأتغزّلُ بأهواءِ القبورِ …

مجلة العالم الأدبي ، تونس ـ ماي ـ 1930

 

قراءة محمّد صالح بن عمر :

لعلّ الجانب الوحيد الذي لم ينل حظه حتّى الآن  من عناية النّقّاد والباحثين في أدب أبي القاسم الشّابّي مجموع نصوصه التي صُنّفت  ضمن ما عُرف في عصره ب” الشّعر المنثور ” (1 ) والتي كان ينوي إصدارها في كتاب  عنوانه  “صفحات دامية من حياة شاعر ” . و هو عنوان نصٍّ نشرته له مجلّة ” العالم الأدبيّ ” سنة 1930 (2) . ومن ثمّة يتعيّن في تقديرنا تدارك هذا الإهمال ،  بلفت انتباه المنشغلين بأدب الشّابّي  إلى أهمية هذا الجانب المهمل  والشّروع في  تدارسه ، لاسيّما أن عدد النّصوص  التي أنشأها في هذا الباب هو خمسة عشر نصّا ملأت مجموعة كاملة . وهذه  المجموعة أعدها للنّشر الشّاعر التّونسيّ سوف عبيد   وأصدرتها له مؤسّسة ” بيت الحكمة ” بمناسبة مئوية  الشّابّيّ (3) .

إن هذه النصوص  ينبغي، لا محالة ، تقليب النّظر فيها  على نحو يستوفي الكشف عن  جميع  مقوّماتها الفنّيّة و محاورها الدّلاليّة للوقوف على خصائصها النّوعيّة ، مع ربطها بأعمال الشّابيّ الأخرى الشّعريّة منها والنّثريّة  . لذلك نرى من الضروري أن نحاول الإجابة عن الأسئلة الأوليّة التي تثيرها نصوص هذه المجموعة   وفي مقدّمتها سؤال الجنس الذي تنتمي إليه ، خاصّة أنه ستظهر بعدها أشكال شعريّة أخرى أُطلقت عليها تسمياتٌ كثيرة  مختلفة لعلّ أبرزها قصيدة النّثر في المشرق العربيّ بدءا من خمسينات القرن الماضي و”غير العموديّ والحرّ ” و” القصيدة المضادّة ” و”الشّعر العَرْدارج ” و”اللّوحة الشعّريّة ” و”الكتابة الشّاملة ” في تونس  عند أدباء الطليعة في نهاية السّتّينات وبداية السّبعينات من القرن نفسه  .

للوقوف على جنس هذه النّصوص قد يكون من المفيد تفحّص أنموذج منها في حدّ ذاته على نحو مجهريّ.  ولعلّ أنسب طريقة لتصنيفه تفحّصه من وجهة نظر علم الخطاب .

فمن هذه النّاحية يمكن القول إنّه جاء برمّته في قالب خطاب سرديّ يتخلّله ككلّ خطاب من هذا القبيل خطاب وصفيّ  وقد صدر عن راو  ٍيتماهى مع الشّخصيّة المحوريّة المشار إليها في العنوان بصفة ” شاعر” ويروي الأحداث من بداية النّصّ إلى الأسطر الأخيرة منه  بلسان المتكلّم الجمع  ثمّ إلى آخر النّصّ بلسانه الفرديّ. وهذان المعطيان  قد يرجّحان كونه  نصّا ترجذاتيّا .

أما المادة الحدثية التي رواها فتغطي حياته من بدايتها إلى زمن إنشاء النص . وقد قسمها إلى قسمين : الأول ما مضى منها وقد عبر عنه في ستة مواضع متفرقة  بقوله  ” تلك كانت حياتي بالأمس “(3) والآخر ما هو جار منها في  زمن التلفظ . وقد جاء حديثه عنه في سياقين محدودين  أحدهما في وسط النص والثاني في آخره .

أمّا مكانيّا  فلم ترد في الربع  الأوّل من النّصّ  أي إشارة إلى موضع محدّد تدور فيه أحداث الحياة المرويّة   ثمّ  في معظم ما  تبقى منه أضحت الوقائع تجري في إطار مكانيّ واضح أشير إليه بصريح اللّفظ هو الغاب . و في الأسطر الأخيرة  انتقل  الرّاوي إلى  إطار مكانيّ ثالث  مفرط الضّيق لا يفهم إن كان جزءا من الإطار السّابق أي الغاب أم لا  وهو ” بين الصّخور “(4) . و لا غرابة في مثل هذا التّعدّد للأمكنة في نصّ سرديّ قصير إذا نظرنا إلى  اتّساع الحدث المرويّ وهو حياة بأكملها.

وهذا المعطى نفسه –  وهو كون النّصّ خُصّص لسرد أطوارا لحياة  السّالفة التي عاشها الرّاوي البطل وكون هذه الحياة  لا تزال جارية – قد أثّر تأثيرا  بالغا في المخطّط السّرديّ . فإذا الحكاية لم يبق من مراحلها  إلاّ الوضع الأوّليّ  وتدخّل القوّة المحوّلة  وانطلاق ديناميكيّة الأحداث . وبذلك اختفى الوضع الرّابع وهو تدخّل القوّة المعيدة للتوازن والوضع الختاميّ  . وهذا أمر بديهيّ في ترجمة ذاتيّة يكتبها صاحبها وهو في سنّ الشّباب  وعمر الشّابيّ عند نشره لهذا النّصّ هو إحدى وثلاثون سنة .

وأمّا مخطّط الأفعال فهو تامّ الشّروط . فالمفعول الذي ينشده الفاعل –  وهو الرّاوي البطل – هو أقصى درجات  الانتشاء  المتوّلد عن الرّاحة النّفسيّة والصّفاء الذّهنيّ في كنف التّناغم التّام مع الطّبيعة  والاتصال الروحي بالعالم العلوي . لكن إذا كانت حساسيته هي العنصر المساعد له على  إدراك مأربه في المرحلة المنقضية من حياته  فإنّ تدخّل  عنصر مضادّ مباغت قد قلب حياته رأسا على عقب فحولها من السّعادة إلى الشّقاء .

وأمّا عمليّة السّرد فقد خضعت بحكم كون الرّاوي هو البطل للرّؤية المصاحبة  أو التّبئير الدّاخليّ ، كما تحكم فيها طول الفترة التي تغطيها الأحداث  فغلب عليها النّسق السّريع  لضرورة تقديم صورة شموليّة للحياة المرويّة برمّتها. ولعلّ  ما  يلفت الانتباه في هذا الباب أنّ الراوي لم ينقل الأحداث طبقا للتّسلسل الزّمنيّ الطّبيعيّ بل أقحم جزءا من المرحلة الثّانية وهي مرحلة الشّقاء في المرحلة الأولى .

وأمّا اللّغة  فقد أثّرت فيها شخصيّة الرّاوي باعتباره شاعرا  فتكثّف فيها الشّعريّ وهو الثّالوث المتألّف من  الإيقاع والعدول والإيحاء . وهذا المظهر هو الذي سنخصّص له القسم الثّاني من هذا البحث . لكن في حدود هذا القسم يمكننا القول بكلّ ثقة إنّ هذا النّصّ نصّ سرديّ كتامل الشّروط . ولئن كان يمتنع تصنيفه ضمن القصّة القصيرة لاتّساع الحدث المرويّ فيه وغياب الخاتمة المفاجئة  فإنّه ربّما كان  نوعا من الكتابة السّرديّة مخصوصا  يتجسّد في ضرب من التّلخيص لترجمة ذاتيّة .

لكنّ الحضور المكثّف لمقوّمات الشّعريّ يدعونا مع ذلك إلى التوقّف عند كلّ مقوم منها لأنّ مثل هذه الكثافة من خصائص النص الشعري . فهل يكون لونا من ألوان الكتابة الشعرية  غير الخاضعة للأوزان رغم طابعه السّرديّ ؟ وإذا كان ذلك كذلك  فما هو هذا اللّون ؟

للإجابة عن هذا السّؤال نبدأ بوصف بنية النّصّ  الإيقاعيّة  ،  بحثا عمّا قد يتوفّر فيه  على هذا  الصّعيد من خصوصيات تميّز فعلا الشّكل الذي ينتمي إليه   عن الأشكال الشّعريّة الأخرى الخارجة عن الوزن الخليليّ . وإلاّ فإنّه ينتمي إلى أحدها . فلا يكون ثمّة داع عندئذ إلى وسمه  بهذه التّسمية التي تبدو في صيغتها العربيّة على الأقل تسمية فضفاضة .

ولعلّ من أهمّ  الأدوات المحقّقة للإيقاع غير العروضيّ  التّناسب التّركيبيّ . فهذه الأداة قد استعملت على نحو مكثّف جدّا  في هذا النّصّ . وذلك في مستويين  : مستوى الجمل ومستوى التّراكيب الجزئيّة . ففي المستوى الأوّل يتألّف النّصّ من  إحدى وعشرين جملة تامّة  وزّعت وحدات كلّ جملة منها في شكل مقطع شعريّ من قصيدة تفعيلة  . وإذا تتبّعنا نسق تتالي هذه الجمل  لفتنا  تناسب تركيبيّ بين مجوعات متلاحقة منها . وذلك على النّحو التّاليّ :

1- مجموعة أولى تتألّف من ثلاث جمل اسميّة مصدّرة بهذه العبارة نفسها ” تلك حياة ”  تليها صفة أو أكثر على هيئة مفردة والباقي في شكل مركّبات إسناديّة فعليّة . وهذه هي  الجملة الأولى التي افتتح بها النّصّ و قيست عليها الجملتان اللّاحقتان لها (5) :

تلكَ حياةٌ بعيدةٌ تجلّتْ كالفجرِ وتوارتْ كالحلمِ واضمحلّتْ في ظلامِ القبورِ

أمّا التّاليتان لها فتبدآن على النّحو التّالي  : الثّانية  ب ” تلكَ حياةٌ جميلةٌ “(6) والثّالثة ب ” تلكَ حياةٌ شعريّةٌ ساحرةٌ ” (7).

2- مجموعة ثانية تتكوّن من خمس  جمل اسميّة  دخل على كلّ منها  النّاسخ الفعليّ ” كان” أُولاَها :” كنَّا نسيرُ نحوَ الغابِِ ” (8)  والثّانية  تبدأ ب” كانتْ غمائم ” (9  ) والثّالثة ب ” كانتْ تقنعُ ” (  10) والرّابعة ب  ” “كانَ الغابُ “(11) والخامسة ب” كانَ الحبُّ ” ( 12) .

3- مجموعة ثالثة تتكوّن من  جملتين مصدّرتين بالظّرف ” لمّا ” أولاها تبدأ ب ” ب ” ولمّا اقتربْنَا ” (13) والثّانية ب” ولمّا جلسنَا “(14) .

4- مجموعة رابعة تتألّف من ستّ جمل اسميّة بدئت كلّها ب ” تلكَ كانتْ “(15).

هذه البنية الإيقاعيّة العامّة للنّصّ تعزّزها بنى إيقاعيّة  فرعيّة داخل كلّ مجموعة متولّدة عن التّناسب بين مركّبات جزئيّة . وهي كثيرة جدّا . لذا نكتفي  باقتطاف أمثلة منها  نحو التّناظر الذي ورد داخل المجموعة الأولى  بين هذين المركّبين الإسناديّين الفعليّين :

تجلّتْ كالفجرِ

وتوارتْ كالحلمِ

و بين المركّبات الإسناديّة الفعليّة المتتالية  الثّلاثة التي هذه أوائلها :

قد تهادتْ غيمةً ورديّةً …

وتدفّقتْ نهرًا مترنِّمًا….

ثمّ سارتْ جدولاً صامتًا..

و بين هذين المركّبين الإسناديّين الفعليّين :

ما استحمَّتْ…

ونشرتْ…

وفي صلب  المجموعة الثّانية بين هذين المركّبين الإضافيّين:

قناعُ حوريّةٍ من بناتِ الأحلامِ

رداءُ ملَكٍ من ملائكةِ الفردوسِ

وبين النّعتين المتعدّدين التّاليين :

قصيرٌ كضبابِ الصّباحِ

جميلٌ كغيومِ الرّبيعِ

وفي المجموعة الثّالثة بين هذه المركّبات الإسناديّة الفعليّة الثّلاثة :

سمعْنَا طائرًا يغنّي…

وسمعْنَا قيثارةَ الحبِّ تترنّمُ ..

وسمعْنَا صوتَك العذبَ  الجميلَ يتغنَّى

وضمن المجموعة الرّابعة بين هذين المركّبين بالجرّ :

 بالحبِّ يستجيشُ في قلبي

بالحياةِ تتدفّقُ من شفتي

ولم يقتصر صاحب النّصّ في توقيع خطابه على  هندسة  بنيته العامّة أي الفقرات التي صاغها ، كما بيّنّا ، في قالب جمل تامّة  و البنى الدّاخليّة للجمل . بل عزّز ذلك بوسائل إيقاعيّة أخرى إضافيّة  ثلاث هي :

1- الرّويّ المعكوس وهو ابتداء جمل أو مركّبات متتالية إسناديّة بحرف  معيّن .  فعشرون بين جمل ومركّبات إسناديّة  تبدأ بحرف الواو و عشرة بالتّاء وخمسة بالحاء . بل إنّ التّاء وردت في كلمة تكرّرت عشر مرّات في أوائل الجمل وهي اسم الإشارة ” تلك “والحاء في بداية لفظ تردّد خمس مرّات هو الظّرف ” حينما ” . وفي ذلك تقويةٌ للجرس الإيقاعيّ في أذن السّامع .

2- تصدير جمل أو مركّبات إسناديّة متلاحقة بأفعال مزيدة تبدأ بحرف التّاء   . وهي : – تجلّتْ – توارتْ –  تهادتْ – تدفّقتْ – سارتْ –  تتألّمُ –  تتغنّى – ترنّمتْ .

3- إنهاء عدد كثير من الجمل والمركّبات إسناديّة  بألفاظ ذات وزن واحد . وقد تجسّد ذلك في وزنين أساسيّين هما : فُعُول ( بضم الفاء ) وفَعيل . وذلك كالآتي :

فُعُول : وُجُود ( 3 مرّات ) – صُخور( مرّتان ) – قُبور ( مرّتان )- خُلود – فُصول – نُجوم .

فَعيل : جَميل ( 3 مرات ) – بَعيد ( 2 ) – رَهيب .

لكلّ هذا يمكننا القول إنّ  النّصّ موقّع توقيعا صوتيّا عاليا  على الرّغم من وروده على غير بحور الخليل  و من كونه غير  خاضع لقواعد التّقفية  المتّبعة في قصيدة الشّطرين والقصيدة العموديّة .

وإذا كان هذا النّصّ مستجيبا للشّرط الأوّل الذي به يكون الكلام شعرا وهو الإيقاع فهل يتوفّر فيه الشّرط الثّاني وهو الصّورة المكثّفة  ؟ للإجابة عن هذا السّؤال  يتعيّن فحصه  بلاغيّا .

لنتأمّلْ أوّلا أنواع الصّور و عدد كلّ نوع  منها ثمّ لننظر في مدى وجود علاقة بين الصّور المستخدمة ومخيال الشّاعر الذي سبق لنا أن حاولنا الوقوف على مكوّناته وخصائصه في دراسة سابقة  ( 16).

لقد كشف لنا الإحصاء عن وجود ثمان وخمسين صورة شعريّة في هذا النّصّ  تتوزّع  إلى : خمسين استعارة و ثمانية تشابيه . وهذا العدد مرتفع جدّا إذا  أخذنا في الاعتبار عدد الجمل التي يتألّف منها النّصّ – وهو كما أسلفنا  إحدى وعشرون  جملة –   لأنّ معدل عدد الصّور في الجملة الواحدة  يكون  2.07

والنّتيجة اللاّفتة الثّانية التي  يرشدنا إليها هذا الإحصاء هي  الغلبة شبه المطلقة للاستعارات مقارنة بالتّشابيه. والاستعارة مثلما هو معلوم أوغل في التّجريد من التّشبيه لأنّها في الأصل تشبيه حذف منه المشبّه أو المشبّه به  . وهو ما يجعل درجة الشّعريّة فيها أعلى من درجتها فيه . ولا شكّ في أنّ مثل هذا التّكثيف لا يقدر عليه إلاّ خيال شاعر ، لأنّ غير الشّاعر تكون رؤيته منجذبة نحو الواقعيّ المحسوس  أو المجرّد العقليّ المنطقيّ ولا يلجأ إلى المجاز إلا عند الضّرورة .

ولنتوقّف عند أمثلة من هذه الصّور .  فمن الاستعارات  قول منشئ النّصّ (  17) :

 تلكَ حياةٌ شعريّةٌ ساحرةٌ

قد حاكها الأمسُ من آصالِ الفردوسِ وأشجارِهِ

 ووشّتْها أناملُ الدّهرِ بأزهارِ الرّبيعِ

فالأمس شُبِّه بالإنسان  الحائك  مع حذف المشبّه به وذكر أحد لوازمه وهو الحِياكة  . والحياة شُبِّهت باللّباس مع حذف المشبّه به أيضا وبقاء أحد لوازمه وهو كونه يُحاك .  وشُبّهت المادّة التي يصنع منها اللّباس وهي الصّوف أو القطن وما شابههما بعنصر مجرّد هو آصال الفردوس و أشجاره   مع حذف المشبّه والتّصريح بالمشبّه به  . والأصيل الذي هو مشهد زمنيّ   أرضيّ  استعير لمكان وجوده أي الأرض مكان علويّ وهو الفردوس ،.مع حذف المشبّه والتّصريح بالمشبّه به . وبذلك جمع الشّاعر في جملة واحدة استعارتين مكنيّتن و وأُخريَيْن تصريحيّتين .

ومن الاستعارات أيضا  قوله (  18)  :

تلكَ حياةٌ فتيّةٌ حالمةٌ

ما استحمّتْ في لُجّةِ اللّيالي والأيّامِ

ونشرتْ غدائرَها الذّهبيّةَ فوقَ المياهِ

 حتّى تخطّفتْها المنايا وسارتْ بها إلى مأواها البعيدِ

لقد شُّبهت الحياة هنا بالفتاة مع حذف المشبّه به وذكر لازميْن من لوازمه في تركيبين متباينين  هما الاستحمام  والغدائر  . وشُبّهت اللّيالي و الأيّام بالبحر مع حذف المشبّه به وبقاء  أحد لوازمه وهو اللّجة  . وشُبِّهت المنايا بالوحش أو الإنسان المجرم   أو الطّائر الكاسر مع حذف المشبّه به و الاحتفاظ بأحد لوازمه وهو الاختطاف ، فضلا عن تشبيه لون الغدائر بلون الذّهب وهو تشبيه شائع قليل الإشراق . وهكذا نرى أنّ صاحب النّصّ استخدم ثلاث استعارات في جملة واحدة . وهي كلّها مكنيّة . وفي ذلك دليل على ميله إلى تكثيف الصّور وتجميعها داخل الملافيظ الصّغيرة وهي  الجمل وأجزاء الجمل . وهذا من أخصّ  خصائص الشّعر .

على أنّه لمّا كان هذا النّصّ لشاعر حظي بعدد مرتفع جدّا من الدّراسات  كشفت في مجموعها عن  مقوّمات تجربته الشّعريّة  وأبانت عن مكوّنات مخياله فإذا كان هذا النّصّ نصّا شعريّا  فإنّه لا يمكن إلاّ أن ينصهر في صلب تلك التّجربة  وذلك المخيال  لا أن يتنافر معهما . وذلك أنّ الشّاعر الواحد ذا التّجربة العميقة الصّلبة  إذا كتب في العموديّ والحرّ مثلا أو في الحرّ و قصيدة النّثر فإنّ جوهر تجربته يبقى هو نفسه  ولا يكون التّغيير إلاّ في الحلية الخارجيّة .

لعلّ من أنجع المفاتيح لولوج مخيال الشّاعر هو دراسة معجمه  في علاقته  ببنية شعره الدّلاليّة .  ففي حدود هذا  النّصّ الذي اتّخذناه أنموذجا تتألّف النّواة الدّلاليّة التّأسيسيّة من ثنائيّة تقابليّة  هي حياة الشاعر السعيدة أمس وحياته الشقية  اليوم  لكن عنصري هذه الثنائية غير متعادلين . فالأوّل قد  غطّى  أكثر من ثلاثة أرباع النّصّ  ، في حين لم يسجلّ الآخر حضوره إلاّ في أقلّ من عُشُره. وهذا الاختلال في التّوازن أثر تأثيرا بالغا في البنية المعجميّة للقصيدة  يُلمس في توزّع المعظم الأغلب من  وحدات الرّصيد المعجميّ المستخدم على حقول دلاليّة زاهية توحي بالرّاحة والانشراح أقواها حضورا حقول الطّبيعة الزّاهية  والعالم العلويّ والذّات .

فالحقل الأوّل يضمّ الوحدات التّالية :  غيمة – نهر –  جدول – واد –  ماء –  صخرة – غاب – حقل –  سحاب – بدر – ضياء –  قمر – مرج –  ساقية – طائر –  زيتونة –  ظلّ –  شجرة – لوز –  كوكب – بحيرة –  شعاع – شفق –  نار- فصل – نجم – كهف – ظلام – زهرة – جمال – صباح –  ليل – يوم – أمس.  (34 مُعَيْجَمة )

أمّا الحقل الثاني فوحداته هي : فردوس – حورية – ملاك – بنات الأحلام – عرائس الغابات – خلود – أبد –  دهر- وحي  –  بنات الربيع – غول  – منية – موت.  ( 13 معيجمة )

وأمّا الحقل  الثّالث  فيشتمل على  هذه الوحدات : حلم – قلب (ي ) –  صدر(ي ) –  نفس ( ي ) –  حَيَات ( ي ) – شَفَت ( ي )  شاعر  – صلاة – حُبّ –  رؤية – غرام. (  10 معيجمات  )

أمّا العالم السّفليّ فهو الأقلّ حضورا . ومع ذلك فليست كلّ  الوحدات المُحيلة عليه  ذات دلالات سلبيّة.  وهي :  قبر – قبّة – درع – قيثارة – محراب – خمر – عالَم. ( 7 معيجمات )

هذا التّوزّع لوحدات المعجم الشّعريّ  المستخدمة في النّصّ  منسجم  إلى حدّ بعيد  مع بنية مخيال الشّاعر.  و العنصر الوحيد الذي لا يطابقه في هذا المخيال  هو ما أسميناه في دراسة سابقة “البؤرة الأرضيّة” . فهذه البؤرة في شعر ألشّابيّ الموزون  هي ا لسبب الأوّل لشقائه . وعذابه النّفسيّ فيها هو الذي دفعه إلى اللّواذ بالطّبيعة و محاولة الاتّصال الدّماغيّ بالعالم العلويّ  ،  بحثا عن السّعادة الرّوحيّة التي لم يهتد إليها داخل المجتمع . لكنّها هنا لا يحيل عليها إلاّ لفظ واحد هو القبر. وقد يرجع  ذلك إلى أن الشابي قد اختزل في هذا  النص حديثه عن حاضره التّعيس  على الرّغم من أنّ العنوان  يتصّل بهذا الجانب الذي اختصر . وربّما الغرض من الإطالة في وصف سعادة الأمس هي إبراز النّتائج الوخيمة التي ترتّبت على زوالها دون حاجة إلى تفصيل الحديث عن تلك النّتائج  . وهذا العنصر في حدّ ذاته يجعل النّصّ  يزخر بطاقات إيحائيّة عارمة .

كلّ هذا يثبت لنا أنّ النّصّ الذي بين أيدينا  يحضر فيه الشّعريّ على نحو مكثّف جدًا . ومثل هذا الحضور علامة على كونه قصيدة ، لأنّ القصائد التي تروي أحداثا كثيرة العدد منذ القديم في الشّعر العربيّ والعالميّ . فهو إذن قصيدة سرديّة غير خاضعة للوزن العروضيّ  . وهذا ما يدعونا إلى تحديد الصّنف الذي تنتمي إليه ضمن أنواع الشّعر غير الموزون.  وهي كما ذكرنا متنوّعة.

إنّ هذه القصيدة لا تنطبق عليها كلّ  مواصفات قصيدة النّثر التي نظّرت لها سوزان برنار في أطروحتها الموسومة بقصيدة النّثر من بودلير إلى يومنا هذا وعرّفتها كالآتي : ” هي عبارة عن نصّ نثريّ قصير يشكّل وحدة. وسمتُه الأولى هي الاعتباطيّة أي أنه لا يهدف إلى  سرد حكاية أو إلى تبليغ معلومة  وإنّما إلى  محاولة  التّأثير الشّعريّ”  (  19).

فالشّرط الأوّل – وهو القصر-  لا يتوفّر في هذا النّصّ الذي جاء  مشتملا على إحدى وعشرين جملة. ومثله الشّرط الثّاني وهو الخلوّ من السّرد أو اللاّزمنيّة.

لكنّ الغاية من اشتراط القصر هي التّكثيف، لأنّ  العبرة بنوعيّة النّصّ لا بطوله .  فإذا نظرنا إلى  نصّنا  من هذه الزّاوية وجدنا تكثيف الإيقاع والصّورة فيه ، كما رأينا  ، حاصلا لكثرة وسائل التّنغيم و الصّور المجازيّة  التي يزدحم بها حتّى داخل الجملة الواحدة .

و أمّا التّأثير الشّعريّ أو التّوهّج فهو  أمر نسبيّ . ففي  الثّلث الأوّل من القرن العشرين  وإن كانت السّرياليّة في أوجها بفرنسا فإنّ  فكرة إنشاء الصّورة المباغتة القائمة على  كسر قاعدة التّناسب بين المشبّه والمشبّه به أو بين المستعار والمستعار له أو بين المَكنيّ والمكنيّ عنه لم تتسرّب بعد  إلى الثّقافة الشّعرية العربيّة التي ظلّت وفيّة لمعقولية المجاز التّقليديّ . لكنّنا إذا نظرنا إلى هذا النّصّ من زاوية تلك المعقوليّة مع وضعه في الإطار الزّمانيّ  والمكانيّ الذي أنشئ فيه  وجدناه و إن حافظ عليها  فقد خطا بالصّورة خطوات شاسعة في  اتّجاه التّجديد والتّطوير. فكان من هذه النّاحية مباغتا فعلا للقارئ العربيّ في ثلاثينات القرن الماضي .

ومهما يكن من أمر فانّ ما ينبغي تسجيله من النّاحية التّاريخيّة في هذا النّصّ هو أنّ مواصفاته الإنشائيّة تتّفق إلى حدّ بعيد مع مواصفات ” غير العموديّ والحرّ ” اللّون الشّعريّ الذي كتب فيه بعض شعراء الطّليعة في نهاية السّتّينات وبداية السّبعينات فقد قام  ذلك اللّون على  مبدإ  الاستعاضة عن الإيقاع  الذي توفّره بحور الشّعر العربيّ القديم وقوافيه  بإيقاع النّثر الفنّيّ العربي القديم  أيضا  الذي يتولد عن السجع والتناسب التركيبي والموازنة ومراعاة النظير . وبذلك بمكن القول  – وهذا يقال لأوّل مرّة – إنّ الشّابيّ هو  أوّل من كتب في هذا اللّون الشّعريّ بتونس وأنّ الطّليعيّين الذين كتبوا فيه إنّما كانوا له فيه متابعين  . وهي حقيقة  ذات أهمّيّة بالغة من النّاحية التّاريخيّة ، على أنّه لا بدّ من تشريح القصائد الأخرى التي تضمّها   مجموعة الشّابيّ  الشّعريّة النّثريّة للتّأكد من صحّة هذه النّتيجة .

الهوامش:

1 – انظر خاصّة : زين العابدين السّنوسيّ :  ” الشّعر المنثور ” ، مجلّة  “العالم الأدبيّ ” ، العدد 6 أوت 1930 ص 166  . وقد أشار صاحب المقال في الهامش إلى أنّه سبق أن نشره سنة 1928 بجريدة ” النّهضة ” لكن هذه الصيغة الثّانية محوّرة ومنقّحة .وقد جاء في تقديم المجلّة لهذا النّصّ أنّه ” صفحة من كتاب بهذا العنوان لحضرة الشّاعر المتفنّن الأستاذ أبي القاسم الشّابيّ “. انظر ” العالم الأدبيّ ” ج 3 ، ماي 1930 ص 24.

2- أبو القاسم الشّابيّ ، صفحات من كتاب الوجود : القصائد النّثريّة ، جمع سوف عبيد وتحقيقه ، نشر ” بيت الحكمة ” ، قرطاج ، تونس  2009  ص ص371 – 176   . وممّا يبعث على الأسف أنّ جامع نصوص الشّابيّ  من هذا القبيل لم يحترم الطّريقة التي وَزَّع وفقها صاحب النّصوص  جُمَلَهُ ومفرداته وهي كتابتها في شكل فقرات مثل فقرات أيّ نصّ نثريّ . بل وزّعها على هيئة أسطر شعريّة والحال أنّ الطّريقة التي اتّبعها الشّابّي هي نفسها التي اعتمدها الرّومنسيّون خاصّة منهم شاتوبريان ولامرتين  فيما سمّي ” نثرا شعريا ”  في حين أنّ طريقة التّوزيع إلى أسطر شعرّية توهم بأنّ هذه النّصوص تنتمي إلى جنس آخر هو ” قصيدة النّثر ” . وما هي كذلك .

3- ” العالم الأدبيّ ” ج 3 ، ماي 1930.

4- و 5 و 6 و7 و8 و 9 و 10 و 11 و 12 و 13 و 14 و 15 – المصدر نفسه

16- انظر : أبو القاسم الشّابيّ حاضر بيننا ( جماعيّ  ) : إعداد : أحمد السّالمي ، المركز الثّقافيّ اللّيبيّ التّونسيّ ، تونس ص ص  145 -166

17و18 – ” العالم الأدبيّ ” ج 3 ، ماي 1930 ص 24.

19- تقول في هذا التّعريف:

« Il s’agit d’un texte en prose bref, formant une unité et caractérisé par sa « gratuité », c’est-à-dire ne visant pas à raconter une histoire ni de transmettre une information mais recherchant un effet poétique ». Suzanne Bernard, dans sa thèse Le Poème en prose de Baudelaire jusqu’à nos jours  , Nizet, Paris  1959 p.6

2 تعليقان

  1. Mohamed Salah Ben Amor

    Ema Issa
    شكرا لهذا الجهد والقطاف المهم دكتور

  2. Mohamed Salah Ben Amor

    ريام فؤاد آدم
    ماسة حقيقية بيد الشعر عربيا وعالميا…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*