هذه الطّيورُ المهاجرةُ : شعر : كرموندا ماغي – شاعرة من إمارة موناكو

12144783_1053036364715395_9179822941978767467_n1

كرموندا ماغي – شاعرة من إمارة موناكو

stock-photo-2527458-american-white-pelicans-soaring

تدلهمُّ السّماءُ
كساحةِ وغًى
بمئاتٍ بل بآلافِ الأجنحةِ الخفّاقة
كنتُ أبحثُ عمّا بينَها من تناغمٍ
كجوقةٍ بلاَ قائدٍ
جلبةٌ وأصواتٌ متداخلةٌ
في غفلةٍ من سكينةِ الدّهرِ
ادلهمَّتِ السّماءُ
أهي مهاجرةٌ لا تُفقِهُ استخدامَ البوصلاتِ ؟
أم تبحثُ عن طريقٍ مّا؟
ماذا صنعتْ بغريزتِها
التي عادةً ما تقودُها بحكمة وتروٍّ ؟
ماذا أبصرتْ فارتعبتْ
حتّى ولّتْ هكذا راجعةً ؟
على قدرِ الارتفاعِ
تتّسعُ الرّؤيةُ وتمتدُّ
وأحيانا يكونُ ذلك على نحوٍ مُربكٍ
قدمايَ المنتصبتانِ على الأرضِ
تضيّقانِ أفقي
فما أتعسني
لو كنتُ أطيرُ مثلَها
ماذا أبصرتْ فارتعبتْ
حتّى ولّتْ راجعةً ؟
أيَّ وعودٍ تلقّتْ
لتمكينِها من تغييرِ مصيرِها ؟
ماذا كان يدورُ في خلَدِهَا
وهو تطيرُ صوبَ وِجهةٍ مجهولةٍ؟
هل العشبُ هنالك أشدُّ اخضرارًا ؟
هل البشرُ هنالكُ هم الحُبُّ نفسُهُ
متجسدٌّ في شكلٍ آدميٍّ؟
لا أظنُّ فما أندرَ الطّيورَ العاشقةَ الجوّالةَ
ربّما كان همُّها العثورَ على أرضٍ تأويهَا
خارجَ أرضِها الأمِّ
خارجَ وطنِها الذي فقدتْ فيه الأملَ
وصارَ أرضًا مُعاديةً
ربّما بعضُها هاربٌ من الحربِ
وبعضُها ينقلُ الحربَ إلى أراضٍ أخرى
ربّما هي ضحيّةُ نزعةِ الإقصاءِ
المتغلغلةِ في أعماقِ بعضِ النّفوسِ
في البلدانِ المستقبِلةِ
لكنْ على أيِّ حالٍ
فكلُّ ما حُرمتْ منهُ
هو الحرّيّةُ

تعليق محمّد صالح بن عمر:

من أقوالِ الجاحظِ المأثورةِ أنّ المعاني ملقاةٌ على قارعةِ الطّريقِ.ومقصدُهُ من ذلك أنّ قيمة النّصّ الأدبيّ لا تكمنُ في محتواه الدّلاليّ بل في أسلوبه.وهو ما ينطبق كلّ الانطباق على هذه القصيدة التي يدور موضوعها على أسراب الطّيور المحلّقة .وهي ظاهرة عاديّة يبصرها الإنسان  على نحو متواتر  دون أن يستوقفه فيها ما يلفت الانتباه ، إلا أن الشّاعرة تناولتها  في قصيدتها هذه من زاوية جديدة.
فبدلا من أن تمضي في إلقاء خطاب عالمٍ محشوّ بالمصطلحات عن هجرة الطّيور تستمدّها من مؤلّفات المتخصّصين في علم الطّيور، قد فضّلت مقاربة هذا الموضوع مقاربة ذاتيّة بتوخّي أسلوبين مختلفين: الأوّل هو صياغة الأسئلة على نحو مكثّف عن الدوافع والأغراض الكامنة وراء تجمّع الطّيور وارتفاعها معا في الفضاء ثمّ انطلاقها نحو وجهة ما ( أهي مهاجرةٌ لا تُفقِهُ عملَ البوصلاتِ ؟/أ تبحثُ عن طريقٍ مّا؟ / ماذا صنعتْ بغريزتِها/ التي عادةً ما تقودُها بحكمة وتروٍّ ؟/ماذا أبصرتْ فارتعبتْ/ حتّى ولّتْ راجعةً ؟)والآخر هو مقارنة تلك الطيور بالبشر ومنهم هي نفسها (قدمايَ المنتصبتانِ على الأرضِ/ تضيّقانِ أفقي/ فما أتعسني/لو كنتُ أطيرُ مثلَها ) قبل أن تنهي القصيدة بملاحظة عن البشر الذين يُجبَرون على ترك أوطانهم إمّا للفرار بأنفسهم من الحرب وإمّا هروبا من قمع الأنظمة الاستبداديّة.وهو ما أسهم في وصل النّصّ بشواغل راهنة على الصّعيد العالميّ ومنحه بعدا إنسانيّا (ربّما بعضُها هاربٌ من الحربِ/ وبعضُها ينقلُ الحربَ إلى أراضٍ أخرى/ربّما هي ضحيّةُ نزعةِ الإقصاءِ/ المتغلغلةِ في أعماقِ بعضِ النّفوسِ/ لكنْ على أيِّ حالٍ/ فكلُّ ما حُرمتْ منهُ/هو الحرّيّةُ ).
فنيّا قد اكتست  النّصّ  بفضل هذين  الأسلوبين  طاقة جماليّة  تمكّنه من  شدّ اهتمام القارئ الحصيف المتمرّس .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*