حدث في الميدان : قصّة قصيرة لمحمّد أسعد سموقان – اللاذقيّة – سوريّة

محمّد أسعد سموقان

محمّد أسعد سموقان

فرشَ اللوحة على الأرض, وبحركة اعتيادية مسكَ الغراء بيده اليسرى والفرشاة باليمنى,وراح يدهنُ القماشة كمرحلةٍ أُولى للتأسيس ,تأسيس اللوحة .انتهى الوجه الأول ..وانتظر برهةً كي يجفَّ الأساس قليلاً ..ترك الفرشاةَ والغراء ,قام من على الأرض ..ذهبَ ذهنه بعيداً وراح يرددُ بصمت : ( إيماجينا إيماجينا ), رددَ ذلك مراراً في داخله …,وهو شاردُ الذهن .. أين هو ؟ لايعرف !
انحنى قليلاً ومدَّ أصبعه على سطح القماشة ..فكانت قد جفَّت بعض الشيء ..ابتدأ ثانية وعاود يدهن القماشة ..رجعَ إلى كرسيه ومازال صدى إيماجينا يترددُ وينقرُ ذاكرته العتيقة والمشوَّهة بحالات يريد محوها.
وفوق صدى إيماجينا جاء صدى آخر..تيموشوارا-جثث تيموشوارا..
إيماجينا, جثث تيمو شوارا..هو شارد ومازالت تحفر ذاكرته أو لنقل توقظها..
جفت القماشة , وبدت كالطبل ,نقر عليها بإصبعه ..رنت كعلامة دو الموسيقية ..
حضَّر السبيداج والزنك والماء ومزجهما بعناية وأضاف الغراء الأبيض فوقهما وبينما هو يمزجُ هذا الخليط عاودته الكلمات نفسها:إيماجينا,تيمشوارا..رجع إلى لوحته بذهنه الشارد ودهنها مرة أولى وثانية..جفت القماشة وللمرة الأخيرة كعادته حضر(الإكريليك) الأبيض وبالمشحف المعقوف كمنجل المقاتل بعل .. دهن اللوحة بالكامل ,همد قليلا يستريح وبينما زوجته تحمل له القهوة سمع دويِّا قوياً هزَّ الأرض وتطايرت نوافذ منزله .. وكاد رأسه ينخلع عن جسده, سقطت زوجته على الأرض ..لقد أُغمي عليها..وصراخه يعلو يمتزج بدوي الإنفجار: ..وجدتُها.. إنها ليست فبركة لجثث مدينة تيموشوارا ا
لرومانية وقت سقوط نظام تشاوسيكو ..ولا هو مهرجان إيماجينا لفبركة الصور..إننا في حي الميدان بدمشق ! صورٌ تقشعرُ لها الأبدانْ ,دماءٌ ترتسمُ بحجمِ الأجساد ..الأحمرُ يسيلُ على الأرض فيغذيها ويتطاير منها بخورا نحو السماء .. الدماءُ تمتزج بالطهر والتحدي والمقاومة.
أشلاء تتوزع هنا وهناك…
فتحَ النافذةَ رأى رؤوساً لبشر وأيادي وأصابع مفتوحة,تتخذ علامات النصر , ومنها الممدود للأعلى لتعلن الشهادة الأخيرة …
وعيون الرؤوس محمولة بالبرق ..تتحدى وتشكو,ثم تصبر ! حدثَ هذا في الميدان وليس في مهرجان إيماجينا للصور التركيبية, والمشاهِدْ, ليست عالما افتراضيا لجثث فُبركت في مدينة تيمشوارا الرومانية ففي مهرجان إيماجينا كل شيء يختلط وتُشوش الرؤية والعقل ,فيمكن أن تصنع نسخاً عن نفسك ثم تتجول في المكان الإفتراضي , وتطير ثم تحط بين تلك الأشلاء,ويمكنك أن تشارك في حرب النجوم وأنت في منزلك..إنه خداع الصورة ومؤثراتها .
أما في حي الميدان ,المشهدُ قوي لا حاجة لنص يؤكده ولا لكلام يوثقه, والصور لاتحتاج لتأثيرات خاصة لصنع عوالم افتراضية.
ويمكن بأية لحظة أن تكون واحداً من هؤلاء الشهداء ..الذين قتلتهم يد الغدر ..ماذا نقول الآن وماشكل الدم والدمع الذي نذرف؟!
وبأيةِ ألوانٍ سنصورُ المشهد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*