محمّد صالح بن عمر : نزار قبّاني … شاعر تميّز فامتاز

ds-NizarQabbani

نزار قبّاني

نزار قبّاني هو من الشّعراء العرب المعاصرين القلائل الذين تميّزوا حقّا فأهّلتم فرادتهم للانتشار محلّيّا وعربيّا وعالميّا ، بين جمهور الشّعر الضّيق وعلى نطاق شعبيّ واسع .وهو ما جعله بلا منازع رمزا من رموز الشّعر العربيّ والعالميّ ، تماما مثل قوته وبودلار وبوشكين وبابلو نيرودا ومالارميه وناظم حكمت وطاغور والشّابّي .
ولعلّ أحسن تفسير لهذا النّجاح الباهر الذي تحقّق لشعره ، سواء في حياته أو بعد موته ، عبقريّته الفذّة .وأبرز علامة لهذه العبقريّة تميّزه ، كما قلنا ، بالمعنى الحقيقيّ لا المجازيّ أي خروجه التّام عن القطيع . وقد أسهمت في هذا التميّز عدّة عوامل لم تجتمع مصادفة وإنّما عمل هو على توفيرها بفضل ذكائه الوقّاد ورهافة حسّه ورؤيته الثاّقبة للواقع العربيّ في عصره .
فقد استثمر أوّلا ما للرّصيد التّراثيّ العربيّ الضّخم في بابي الغزل و أخبار العشّاق من حضور قويّ في الثّقافة العربيّة الفصيحة منها والشّعبيّة ومن سلطان عظيم على النّفوس التي تميل بَدَهيّا إلى سماع كلّ ما له صلة بعاطفة الحبّ والعلاقات بين الجنسين . وقد شكّل هذا الاستعداد الجماعيّ أرضيّة خصبة لتقبّل خطاب الشّاعر والاحتفاء به .
والعامل الثّاني هو حالة القهر والتّهميش التي تعانيها المرأة العربيّة الشّرقية عامّة في مجتمع ذكوريّ يعُدُّ إفصاحها عن مشاعرها تجاه الجنس المقابل منافيا للأخلاق الحميدة وعلامة استهتار بالقيم السّامية .وهو ما أوجد ازدواجيّة سلوكيّة وخطابيّة فظيعة قوامها الخضوع ظاهرا لموانع الأنا الأعلى الاجتماعيّ وخرقها وراء الحجب قولا و ممارسة .وبإقدام الشّاعر على تعرية الوجه الثّاني المستور من هذا الواقع تمكّن من إثارة فضول الملايين من المتلقّين واستقطاب اهتمامهم مثلما هو حال كلّ محظور يُخْرَق وكلّ مسكوت عنه يُفضَح .
والعامل الثّالث هو توفّقه إلى الإلمام بتفاصيل نفسيّة المرأة عامّة والعربيّة خاصّة وبمختلف ألوان انفعالها في الأوضاع والحالات المتقابلة كالفرح والحزن والأمل واليأس والطّمأنينة والخوف والقبول والرّفض والحبّ والكراهية والسّكينة والغضب والنّجاح والإخفاق وكذلك بموضوعات العشق الأزليّة كالخيانة والصّدود والعتاب والغيْرة والحبّ من نظرة واحدة . وأكثرها مفصّل في كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسيّ .
والعامل الرابع – وهو الأقوى أثرا و الأشد حسْما لأنّه هو الذي يجسّد الإضافة الحقيقيّة لنزار قباني ويؤلّف أبرز عنصر من عناصر تميّزه – هو انتصابه ناطقا بلسان حال المرأة العربيّة على تعدّد أنماطها النّفسيّة والسّلوكيّة وتفاوت مستوياتها التّعليميّة وتباين أوضاعها الاجتماعيّة . وقد شجّعه على القيام بهذا الدّور الرّياديّ في الشّعر العربيّ على الأقلّ في مرحلة تجربته الأولى ( من أواسط الأربعينات تاريخ صدور مجموعته الأولى قالت لي السّمراء إلى آخر السّتّينات ) غياب الوعي النِّسْويّ في العالم العربيّ واضطلاع بعض الرّجال المصلحين بمهامّ الدّفاع عن حقوق المرأة . ولو كان نزار من أحد الأجيال اللاّحقة لجيل السّتّينات لما لقي شعره النّجاح الذي لقيه . وذلك لتزايد عدد الأصوات الشّعريّة النّسائيّة مشرقا ومغربا واعتناق الكثيرات من صاحباتها الفكر النِّسْويّ . وقد بلغ هذا التّيّار ذروته في التّسعينات حين كاد عدد الشّاعرات يفوق أحيانا عدد الشّعراء وصارت المرأة الشّاعرة تصور أوضاعها وأوضاع بنات جنسها بنفسها .
والعامل الخامس هو نوع اللّغة التي اختار نزار استعمالها في شعره . فهي لغة خالية من التّعقيد اللّفظيّ والمعنويّ انحصر معجمها أو كاد في الرّصيد اللّفظيّ المشترك بين الفصحى والدّارجة . وهو ما ساعده على إيصال صوته إلى كلّ الفئات الاجتماعيّة بما فيها فئة الأمّيّين التي كان شعره يصلها مؤدًّى بأصوات قمم الغناء النّسائيّ العربيّ مثل أمّ كلثوم ونجاة الصّغيرة وفائزة أحمد .
ومن أقواله المأثورة في هذا الصّدد : ” أنا منذ خطواتي الأولى تعاملت مع المفردات الموجودة على شفاه النّاس ومع الكلمات الطازجة والمعجونة بلحم النّاس وأعصابهم ووقائع حياتهم اليوميّة . طبعا لم أسقط القاموس كلّه من حسابي لأنّ اغتيال لغة بأكملها هو نوع من الجرائم المستحيلة .
مهمّتي باعتباري شاعرا أن ألتقط الشّعر من أفواه النّاس وأعيده إليهم ” .
ولكنّ نزار قبّاني على الرّغم من كونه مَدِينا في شهرته الواسعة لتخصّصه في شعر المرأة فإنّه لم ينحبس في هذا الإطار الضّيّق بل تعدّاه إلى تسخير فنّه في خدمة القضايا العربيّة . فكتب في هذا الغرض قصائد كثيرة غدت ذات قيمة مرجعيّة في هذا الباب منها قصيدة ” هوامش على دفتر النّكسة ” التي أثارت ردود فعل عنيفة عند نشرها سنة 1967 . وفيها يقول :
إذا خسِرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطّبلةِ والرَّبابه

وقد كان والحقّ يقال مهيّأ أيضا للنّجاح في الشّعر السّياسيّ الذي عدّه هو نفسه أهمّ من شعره في المرأة بفضل المهامّ الديبلوماسيّة التي اضطلع بها و أتاحت له فرصة الإلمام بالشّأن السّياسيّ العربيّ إلمام الحاذق المتمكّن .ومثلما التصق بوجدان المرأة في تجربته الأصليّة فقد التحم في شعره السّياسيّ بمطامح الجماهير العربيّة وتبنّى نضالها ضدّ جوْر حكّامها وتسلّط الامبرياليّة والاستعمار .لذلك منعت بعض مجاميعه في عدّة أقطار عربيّة حيث كانت تُتداول في الخفاء .
وفي هذا يقول : ” أؤكّد أنّ شعري السّياسيّ علّقني على أكثر من صليب وأكثر من حبل مشنقة . إنّ نصف الأنظمة العربيّة تقف من شعريّ السّياسيّ موقف العداء والرفض وتمنع كتبي من دخول أراضيهم في حين أنّها كانت تدلّلني باعتباري شاعر حبّ ” .
لكل هذا لم يكن نزار قباني شاعرا متميزا فحسب بل كان مدرسة شعريّة قائمة الذّات وإن ارتبطت بالظروف التّاريخيّة التي ظهرت فيها . وهو ما يجعل تكرارها في جانبها الأصليّ خاصّة متعذّرا .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*