عمر حفيّظ : قصيدة الالتزام وخصائصها لدى الشاعر التونسي الراحل المهدي بن نصيب

 

11129899_1615279202042496_3372807322406338599_n

             عمر حفيّظ – ناقد تونسيّ 

 

2692

الشاعر التونسي الراحل المهدي بن نصيب
1-في معنى الالتزام :
تتوزّع دلالات الألفاظ بين دلالة قريبة وأخرى بعيدة وصريحة وضمنيّة ومباشرة وحافّة. وهي مختلفة من حقل معرفيّ إلى آخر لأنّ الحقل المعرفيّ يستصفي دلالة ما ويجعلها ملازمة أو تكاد لهذا اللّفظ أو ذاك. وإذا كان هذا شأن الألفاظ كلّها، فإنّ لفظة “التزام” لا يمكن أن تكون استثناء يخرق القاعدة. فهي ذات دلالات عاديّة في الأصل، ومن تلك الدّلالات الوفاء والانخراط في عمل ما أو تفكير ما… لكنّها تمحّضت لتدلّ أكثر على نمط وجودٍ وعلاقةٍ يبنيها الإنسان مع ذاته ومع المجتمع، بل مع ما يحيط به من الأشياء والأحداث . (1)
فالعلاقات النّاظمة للوجود الإنسانيّ تترتّب  عليها التزامات ومسؤوليّات تتأسّس على قيم ما  تضمن لهذه الجماعة أو تلك، الاتّفاق على نمط حياة أو صيغة وجود والاشتراك في تصوّر أو  سرديّة من السّرديّات.  ومن الخيوط النّاظمة لتك العلاقات وما يترتّب  عليها ويُشتقّ منها،  الانخراط الواعي في قضايا المجتمع ورفض اللّامبالاة والحياد المزعوم بما يعنيه ذلك من تبنّ لأيديولوجيا معيّنة على نحو من الأنحاء.
فالالتزام إذن مسؤوليّة ذاتيّة وانخراط في بناء المعنى في الوجود، وتطلّع إلى واقع آخر أفضل. وإذا كان الكلام أو الكتابة ممّا يتحقّق به الالتزام، فإنّ ايمانويل مونييهEmmanuel Mounier  يذهب إلى أنّ الكلام الخالي من الالتزام ينقلب إلى بلاغة جوفاء . (2)
وهذا يستوجب الوعي بوظيفة الكلام أو الكتابة في تغيير إدراكنا للعالم ولكيفيّة إقامتنا فيه. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذّي يعي وجوده وهو الذّي يخلق المعنى لذلك فهو مطالب-من وجهة نظر سارتريّة مثلا- بأن يكون ملتزما. فهو حالة وجود، ولهذه الحالة صورتان. فإمّا أن تعيش حريّتها وأن تقاوم كلّ مظاهر الاستلاب بوعي يليق بإنسانيّتها وإمّا أن تعيش حالة اغتراب وقهر وعبوديّة رمزيّة لتمثّلات تحطّ من إنسانيّتها وتضعف قدرتها على الفعل لتغيير العالم.
2- الالتزام في الفنّ :
ومن هذه الجهة فإنّ الفنّ عامّة مدخل إلى تغيير العالم لأنّه موصول بالأفكار والأيديولوجيا. وكان أرنست فيشر Ernst Fischer قد أشار في كتابه “ضرورة الفنّ” إلى أنّ الالتزام لا يعني أن يقبل الشّاعر أو الكاتب أو الفنّان ما يُمليه عليه الذّوق السّائد أو أن يكتب وفق مراسيم مسبقة، وإنّما يعني أنّه لا يعمل في فراغ أي أنّه في نهاية الأمر منخرط في الشّأن العامّ وملتزم بقضايا المجتمع الذّي ينتمي إليه.
ويرى سارتر Jean-Paul Sartre أنّ الكاتب هو المعنيّ بالالتزام وليس الشّاعر. فالكاتب يستخدم اللّغة للتّعبير عن أفكار واضحة ومحدّدة. أمّا الشّاعر( وكذا الشّأن بالنّسبة إلى فنون أخرى كالرّسم والنّحت والموسيقى) فإنّه يُرقِص اللّغة، لذلك من العبث البحثُ عن دلالة محدّدة كما هو الشّأن في النّثر . (3)
وعلى خلاف رأي سارتر لا يفرّق الماركسيّون، في الالتزام، بين فنّ وآخر على اعتبار أنّ الكاتب والشّاعر والمسرحيّ وكلّ الفنّانين، إنّما هم كائنات اجتماعيّة تعيش ما يعيشه المجتمع بأسره من تحوّلات وأزمات. فالفنّانون، في تصوّر الماركسيّين، منحازون وعوا ذلك أم لم يعوا إلى طبقة من طبقات المجتمع المتصارعة بطبعها. إذ لا إمكان للحياد أو تجاهل الصّراع. والالتزام إنّما هو درجات متفاوتة كميّا لا نوعيّا بالنّسبة إلى. وقد شيّدت الماركسيّة الالتزام على أساس التّمييز بين بنية تحتيّة وأخرى فوقيّة، وعلى ما بينهما من ترابط يُنظر إليه – في بعض الأحيان- على نحو
من الاستسهال الذّي تجسّده “نظريّة الانعكاس”( خاصّة عندما تُختزل في أنّ الواقعيّة هي المكوّن الأساس للفنّ ويقع كتّابها في نوع من السّطحيّة بدعوى الوضوح للإفهام وتقريب الفنّ من الجماهير)
ولكنّ الأطروحات الرّصينة الموصولة بالماركسيّة تنظر إلى ذلك التّرابط بين البنيتين- التّحتيّة والفوقيّة- على نحو من التّعقيد الذّي يجد ترجمته في ما يُعرف بـ”رؤية العالم” وما تقوم عليه من توسّط للذّات الواعية المدرِكة التّي لا يمكن إغفال علاقتها بالتّاريخ واللّغة ونظام القيم والفنون الأخرى…، أي بما لها من صلات تجعل من الوعي والإدراك، مدخلين أساسيّين لمعرفة الإنسان والواقع بمستوياته المختلفة: الماديّة والرّمزيّة، والمعيشة والمتخيّلة… ومن هذا المنظور التّأويليّ، بالطّبع، يختلف مفهوم رؤية العالم القائم على التّغاير والتّداخل عن مفهوم الانعكاس التّبسيطيّ، من حيث ارتباطُهما بنظريّة المعرفة وإنتاج المعنى وتصوّر الوظائف الممكنة للأدب والفنّ عامّة.
وإذا كان الوعي هو حصيلة انعكاس الواقع في الفكر وبنينة (structuration)  ذلك الانعكاس، فإنّ الفنّ  هو تحويل ذلك الانعكاس إلى تمثيلات جماليّة وأشكال إبداعيّة تقوم على جدل لا ينتهي بين المطلق والنّسبيّ والذّاتيّ والإنسانيّ والتّاريخيّ والآنيّ والماديّ والرّمزيّ، ومن ذاك الجدل ينشأ البناء الفنّي الذّي ستتجلّى من خلاله الصّراعات والتّناقضات… فشرط الكتابة الأوّل هو التّفاعل الخلاّق بين الذّات (باعتبارها كائنا اجتماعيّا تاريخيّا ونصوصا متضافرة وبنى رمزيّة ومتخيّلا…) والواقع في طبقاته المتعدّدة.
ولا شكّ في أنّ هذا التّعدّد هو الذّي يتولّد عنه الاختلاف بين كتابة وأخرى، بل بين نصّ وآخر في التّجربة ذاتها، لسبب بسيط، وهو أنّ الكتابة إنّما هي إيقاع ذاتيّ ينشأ به الاختلاف داخل المتماثل المتشابه.
3-الالتزام في الشّعر التّونسيّ :

يبدو الالتزام -في تصوّريه السّابقين- خصيصة جامعة بين شعراء كثيرين في تونس، كصالح القرمادي (1933-1982) والطّاهر الهمّامي (1947-2009) والحبيب الزنّاد ( 1946- ) ومختار اللّغماني (1952-1977)  ومحمّد المهدي بن نصيب (1954-2003) وغيرهم. ولكن يفرّق بين هؤلاء الشّعراء، وغيرهم كذلك، إيقاعُ الذّوات وطرائقُ البناء والتّمثّل. وما من شكّ في أنّ فرضيّة التّماثل والاختلاف الجامعة بين الشّعراء مغرية بالبحث والتّأمّل، ولكنّها تحتاج إلى حيّز أوسع  حتّى بالنّسبة إلى تجربة شاعر واحد، لذلك اخترنا أن نتأمّل معاني الالتزام وخصائص البناء لدى شاعر بعينه هو المهدي بننصيب(1954-2003) في ديوان مفرد وهو أوّل دواوينه كلمات للحبّ والوطن( صدر سنة 1984 عن دار الأخلاّء لصاحبها الصّادق شرف)
ويذهب النّاقد محمّد صالح بن عمر إلى أنّ الأخلاّء اتّجاه أدبيّ قائم الذّات وبين هذا الاتّجاه وحركة الطّليعة أكثر من وجه شبه. فكلاهما ترعرع في رحاب مجلّة الفكر(…) وقام على مبدأين أساسيّين هما أولويّة الاعتبار للشّكل الفنّي واللّيبراليّة في المضامين والأغراض، لذلك فشعر الأخلاّء هو الامتداد الطّبيعيّ لـ”غير العمودي والحرّ”  (4)
ونحسب أنّ هذا الرّأي، وخاصّة في ما تعلّق منه بالحديث عن مضامين اللّيبراليّة، يحتاج إلى التّعديل. فالمهدي بن نصيب في ديوانه هذا لم يكن ليبراليّا. ويكفي أن ننظر في المعاجم المهيمنة في القصائد لنقف على أنّنا إزاء شاعر يدافع عن الإنسان ويتبنّى قضاياه إلى حدّ بلغت فيه حماسة الانتصار للإنسان استعمال”الدّارجة” فكأنّ الفصحى لم تعد تفي بالتّعبير عن طاقة الانفعال والغضب.
ويضمّ ديوان كلمات للحبّ والوطن ثلاثا وعشرين قصيدة. وقد ذُيّلت أغلبها بمكان كتابتها وتاريخها. وباستثناء قصيدة “حنين”- كتبت في قابس- فإنّ القصائد الأخرى التّي تمّ التّنصيص على مكان كتابتها تشارك الشّاعر فضاء الولادة والنّشأة.
فـ”دوز” التّي ولد فيها الشّاعر وُلدت فيها قصائده كذلك. وربّما كان ترديد اسم “دوز” والوصل بين المكان والقصيدة، مدخلا إلى الخروج  بـ “دوز” المكان إلى حيّز المتَخَيَّل على اعتبار أنّ المكان من قوادح الشّعر ومن العناصر البانية للقصيدة. فـ “دوز” لم تعد مكانا وإنّما غدت كيانا تتفاعل فيه ذوات أخرى متقاربة متباعدة أفصح عنها الإهداء في تقاطع بين التّعميم والتّخصيص.
يقول الشاعر في الإهداء: إلى الذّين يهندسون بخطوط الألم-الأمل تطلّعا للزّمن الآتي… إلى الفقراء في وطني العربيّ وفي كلّ مكان…إلى أمي الصّادقة الصّابرة. أهدي هذه الأحاسيس.
إنّ خطاب الإهداء “إلى من يعيشون التّقاطع بين الأمل والألم وإلى الفقراء في الوطن العربيّ وفي كلّ مكان” ينفي وسم هذا الشّعر بأنّه ليبراليّ النّزعة نفيا مطلقا ويوجّه القراءة إلى البحث في ما يمكن أن يكون من عناصر التّمايز والاختلاف بالنّسبة إلى الشّاعر من جهة إعلانه الانحياز إلى الذّين يهندسون بخطوط الأمل-الألم تطلّعا للزّمن الآتي أي الحالمين بزمن آخر منشود.
ويزيد الشّاعر الأمر توضيحا فينتقل من الإيماء إلى التّصريح “إلى الفقراء في وطني العربيّ وفي كلّ مكان” فيضفي على خطابه بعدا إنسانيّا يتجاوز حيّز الجغرافيا الضيّق. فـ”دوز” هي الفضاء الذّي يعبر من خلاله الشّاعر إلى أمكنة أخرى. وتعلّمنا الفينومونولوجيا أنّ المهمّ ليس “الشّيء” في ذاته وإنّما تأثيره فينا وكيفيّة إدراكنا له. وبهذا المعنى فإنّ “دوز” بالنّسبة إلى ابن نصيب ليست مكانا وإنّما متخيَّل تجترح منه الذّات صورها وإيقاعها الذّاتيّ وتشتقّ منه القصيدة خصائصها التّي تتيح لها أن تتمايز وتختلف.
4-من معاني الالتزام وخصائص البناء في “كلمات للحبّ وللوطن”   :
يستوقفنا العنوان في جمعه بين الحبّ والوطن. ويردّنا هذا الجمع إلى آخر ما جاء في الإهداء “أهدي هذه الأحاسيس” فالشّعر في تصوّر ابن نصيب، إحساس وانفعال بالوجود والمكان والصّور وحالات متفاوتة مختلفة يعيشها الشّاعر ويحاول أن يكتبها. فقد تسعفه اللّغة وقد لا تسعفه. وهذا يعني أنّ كتابة الشّعر صراع عنيف حيّزه الذّات والقصيدة في آن معا. وما من شكّ في أنّ ذاك الصّراع يتجلّى على أنحاء مختلفة، في الخطاب الشّعريّ، وتفصح عنه الاختيارات التّركيبّيّة–البنائيّة والمعجميّة…
وفي هذا السّياق نشير إلى أنّ اختيار “كلمات” في العنوان لا يخلو من دلالات تستحق أنّ نتوقّف عند بعضها لنصلها بما بعدها. فمادّة (ك/ل/م) في لسان العرب موزّعة بين الإشارة إلى المقدّس( القرآن كلام اللّه وليس قول اللّه. وفي القرآن “وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ”. وفي الحديث” سبحانَ اللّه عددَ كلماته”) من جهة،، والإنسانيّ الموصول بالقول أو الكتابة، والمنفتح على دلالة أخرى هي الجُرحُ (فالكَلْمُ هو الجُرْحُ. والجمع كُلُومٌ وكِلاَمٌ. والكليم هو الجريح) من جهة أخرى.
وابن نصيب، في هذا الدّيوان، كليم يواجه واقعا فيه من الأوجاع بقدر ما فيه الآمال، وكليم يعاني اللّغة ويسعى إلى أن يصرّفها على أنحاء مختلفة في التّعبير عن الذّات والآخر والوطن، وهو في كلّ ذلك يحاول أن يتمايز أو أن يكون مختلفا داخل المؤتلف. يقول في قصيدة أغنياتي، وهي أولى القصائد:
أغنياتي من سنا الكدح وأصوات المعاولْ
من دموع الشرّد الأيتام أستلهم ألحاني… وشعري
من طوى العمّال… من طيف المناجلْ
من سنيّ القحط في قريتنا
حين كان الحلم خبزا… ومياها… وسنابلْ
من شقوق هي للعامل دفعٌ
وسطورٍ خطّها الكدح على أيدٍ تناضلْ (ص10)
يجري الخطاب من حيث الوزنُ، في هذه القصيدة، على وزن الرّمل( فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن× 2) ولكن اللاّفت هو أنّ الشّاعر يعمد إلى الخروج عن بناء البيت التقليديّ ( صدر وعجز) إلى نوع آخر من البناء تتفاوت أبياته طولا وقصرا. فهناك التّشكيلة الرّباعيّة والخماسيّة والثّلاثيّة:
أغنياتي من سنا الكدح وأصوات المعاولْ / فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن
من دموع الشرّد الأيتام أستلهم ألحاني… وشعري / فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن
من طوى العمّال… من طيف المناجلْ / فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن
بل إنّنا قد نجد ما دونها. وهذا يعني أنّنا إزاء يد تمارس حرّيتها في بناء سكنها الرّمزيّ الذّي هو البيت. فهي التّي تختار طرائق تشكيله ووصله أو فصله عن السّابق واللاّحق. ففي القصيدة التّي اقتطعنا منها الشّاهد الذّي وقفنا عنده، تتراءى لنا ظاهرتان:
– الأولى  تتعلّق بالصّفحة الشّعريّة وكيفيّة التّصرّف فيها بالبياض والسّواد. فالقصيدة أربعة مقاطع تفصلها ثلاث نجيمات. وقد تكرّرت كلمة أغنياتي -وهي عنوان القصيدة- أربع مرّات في رأس كلّ مطلع:
-أغنياتي من سنا…
-أغنياتي هسهسات السّعف…
-أغنياتي حلُمُ المُسْغِبِ: خبزٌ وزيوتٌ
– أغنياتي: خطوةُ الباسل في درب الفداء…
كما تكرّرت في المقطع الأخير وحده ست مرّات.
– والثانية  إيقاعيّة موصولة بالتّكرار الذّي يُعدّ تكثيفا في المستويين: الصوتيّ –الكمّي والمعنويّ-الدّلاليّ. ولئن كانت ظاهرة التّكرار قائمة في كلّ أنواع الخطاب. فإنّها في الشّعر على خلاف ما هي عليه في غيره. وقد أشارت كريستيفا  Julia Kristeva مثلا، إلى أنّ التّكرار في الكلام العاديّ لا يغيّر معنى الرّسالة، أو لا يغيّره إلاّ قليلا، أمّا في القصيدة فالأمر مختلف تماما لأنّ الوحدة الدلاليّة تتعاود مؤتلفة مختلفة في آن معا، مؤتلفة في أصواتها، ولكنّها مختلفة في دلالاتها .(5)
والمتكرّر في هذه القصيدة (أغنياتي) استعصى على العدّ والحدّ والوصف، فناسب الشّاعر، بالتّرديد والتّوازي، بينه وبين ما تعلّق به:
أغنياتي / من…  و…
من… /    وشعري
من… /… من
من…/
أغنياتي: هسهساتُ السّعف الحالم
زقزقاتُ البلبل الصدّاح
حلُم العريان
أغنياتي حُلُمُ المسغب
أغنياتي من دموع اللاّجئ- الطّفل… وصيحاتِ الرّجال
أنّةُ المكلوم في خطّ النّضال
أغنياتي عن فلسطين: سؤال
فالأغنيات في هذه القصيدة مشتقّة من كثير متعدّد: أصواتا وألوانا وأزمنة وأمكنة وطعوما وروائح، بل من المجرّدات والمحسوسات( من سنا الكدح، من دموع، من طيف المناجل، من حلم العريان، من شقوق الأرض، من زفرات البائس، من دموع اللاّجئ، من فلسطين، من قموح، من تمور، خيمة سوداء…)
وعلى هذا النّحو فإنّ هذه الأغنيات تصبح تأسيسا لانتظام الكون بأسره وتناغم عناصره على ما بينها من فروق واختلافات، تناغمٍ يتحقّق بآليّات الحبّ والخيال والغناء. فتتصادى الأصوات متحركّةً وساكنةً        ( المعاولْ / المناجلْ /سنابلْ/ النّخيلْ/ هديلْ // حذاءْ / غناءْ / نداءْ // زيوتٌ / قموحٌ / تمورٌ/…) وتتناظر الصّورُ ( من دموعِ الشرّدِ الأيتامِ/ تأوي الشرّدَ الأيتامَ: شيبا ونساء/ من طوى العمّالِ/ من طيف المناجلْ/ حلم العريان: ثوب وقميصْ… وسراويلُ جميلهْ… وحذاءْ/ من شقوق الأرض أنغامي غناءْ) والجامع بين هذه وتلك هو الحبّ يقدّه الشّاعر من ذاته، فينظم به الم
تباعد المتنافر لأنّ الخلفيّة التّي توجّه القول الشّعريّ هي الالتزام بالإنسان غرضا لا بالمعنى الشّعريّ القديم وإنّما بمعنى الذّات-المركز الذّي يستقطب كلّ شيء وكلّ دلالة.
فـ”الأنا” في شعر مهدي بن نصيب ليس “أنا” الكوجيتو الديكارتيّ وإنّما هو “أنا الحالم أحلام يقظة” لا أحلام نوم فتلك أحلام دون ذوات (6) أمّا الأحلام التّي تتمّ بها الكتابة، فإنّ ذواتها حاضرة فيها. فحالم اليقظة حاضر في تأمّلاته. وحتّى عندما تترك، لدينا، تلك الأحلام انطباعا بالهروب خارج الواقع، خارج الزّمان والمكان، فإنّ الحالم يعرف أنّه هو الذّي يتغيّب، هو بلحمه ودمه الذّي يصير فكرا (7) . ولنا سند معرفيّ في ذهب إليه باشلار (Bachelard) الذّي ابتدع للكاتب- الحالم، كوجيتو” أنا أحلم، إذن، العالم موجود كما أحلمه (أحلم به)  (8) وما يحلم به ابن نصيب هو الإنسانيّ الذّي يتجاوز الوطنيّ والقوميّ.
ويبدأ الإنسانيّ من الذّات وهي تنفتح على ذاتها في حالاتها المختلفة أو حالاتها اللاّنهائيّة التّي لا تقبل التّنميط.
ويكفينا النّظر في المعاجم المهيمنة في هذا الدّيوان لنقف على أنّ قصيدة ابن نصيب مجرّة دلالات وفسيفساء وجوه وأصوات ونصوص أخرى. فـ”دوز” وفلسطين والنّيل والرّباط والفرات وتونس الخضراء والقرية والخليل في الأرض المحتلّة… مرايا متناظرة تشتقّ منها الذّات حلمها بخلاص جماعيّ من الفقر والبؤس والخصاصة والمهانة والاحتلال.
يقول في قصيدة بعنوان ” تحيّة إلى أبطال الخليل” مشيرا في التّصدير إلى العمليّة التّي ضُرب فيها الصّهاينة سنة 1980(الرّمل)
أصدقاء الشّمس، كنتم بذرةً تُخصب 
في حقل النّضالْ
أملا شعّ بليل العسف والإرهاب يحدوه الضّياء
أصدقاء الشّمس: رغم القهر والتّعذيب كنتم 
شوكةً للاحتلال
فتحيّات من الأعماق يا رمز الفداءْ
من فؤاد “الأمّ”
خضرائي الحبيبهْ
لفلسطين العروبهْ (ص39)
إنّ نبرةَ الخطابة عالية في هذا المقطع، ولكن تظلّ الشّمس دالاّ يخفّف من ثقل الإبلاغ لينفتح على بلاغة مكانيّة توحّد أطراف الوطن الممزّق بالاحتلال. وبهذا المعنى تصبح الشّمس استعارة تنفي الهزيمة والاستسلام وقبول الاحتلال. ففي حركة الشّمس تبدّلٌ وتحوّلٌ، خروج من اللّيل الرّمزيّ إلى زمن نقيض وإصرار على استنبات النّور في قلب الظّلام.
إنّ الأمكنة كلّها في ديوان “كلمات للحبّ والوطن” تنتظر ساعة الخروج من زمن طحلبيّ يقتل فيها الإحساس بالحياة إلى زمن آخر. فهي أمكنة ولادة جديدة مُنتَظَرة يتغيّر بها الواقع وتكتسب بها المُفتّت    ( الوطن العربيّ) وحدته فيتحوّل البشر من عبيد للجوع والحرمان والإذلال إلى كائنات حالمة تشتقّ رغبتها في الحياة من الطّاقات الكامنة فيها، طاقات التّضحية والصّبر والعزم والرّفض. يقول ابن نصيب في “خطوط معوجّة على بوّابة زمن الصّمت” (المتقارب)
أنا الانتظار
أنا صوت جمهرة الفقراء
أنا حلمهم، والأكفّ التّي رُفعت للسّماء
وأقسم أنّي سأزرع سنبلة العشق قرب “الرّباط”
ليسقيها الدّفق ماء “الفرات”
فيأكلَ من جبّها الأشقياء (ص13)
ويقول في قصيدة “كلمات للحبّ والوطن” في خطاب تتداخل فيه الفصحى والدّارجة في نبرة تطفح بالأسى والشّجن(المتدارك)
وأحكي لك عن حياتي
 ها نا اخدمنا الشّانطي ونشطنا
تركنا مصالح بيتنا وفرّطنا
الشّانطي انطعنا له
والفقر موس الذّبح للرجّاله
كلّ يوم نصبح متِحْنِي ع الباله
ولو كان قلنا م التّعب موّتنا
ينزر عليّ الشّاف زي اعياله  (ص24)(9)
أيا وطني …
وطن الكادحين
وأرحل في خضرة من عيونك… ثمّ أؤوب
فؤادي – على الكفّ- أرغفة البائسين
وشعري غناء الرّفاق 
وحرفي مراسي الحنين (ص26)
وللزّمن الطّحلبيّ الذّي تمّت الإشارة إليه سابقا وجوه عدّدها الشّاعر وكشف ما فيها من فظاعة وبشاعة وإهدار لكرامة الإنسان. يقول في قصيدة “الوجه الآخر” واصفا جحافل الجياع والحفاة والعراة ينتظرون ما سيأتي به القطار:( الرّجز)
يا زمن “الخمّاس” و “القيّال” و”المازقري”
يا زمن المحن
هذي جحافل العراة والحفاة والجياع
تنتظر الرّغيف
تنتظر القطار
التّاسعة
التّاسعة
في ساعة الجدار
(…) ترتجف الأفئدة الحزينه
ترتفع الأصوات كي تبدّد السّكينه 
(…)
هل وصل القطار
هل حمل “الفرينه”؟
“هذي بلوزه قمقومه
هذا صبّاط خشين” 
تفرّقوا … تفرّقوا يا “كمشة الهمّال”
يا جحفل الأغنام والأبقار والــــــ…جياع 
يا حلقة الضّباع
فقد مضى القطار
لقد مضى القطار (ص18)
إنّ إدراج “العاميّة” في الفصحى لا يبرّره إلاّ الحرص على استيفاءِ صورة الواقع كما هو، والبوحِ بما في الذّات من قلق مشتقّ من وعي حادّ بمحنة الإنسان يحمل قوقعة شقائه فوق ظهره كالحلزون.
ولا شكّ في أنّ تداخل اللّهجات والمعاجم يكسر رتابة الإيقاع ويخرج بالقصيدة من حيّز الثّقافة العالمة إلى ثقافة شعبيّة لها بلاغتها وصورها وطاقتها التّعبيريّة. ولئن كانت مواطنُ التّداخل محدودة، فالثّابت أنّها تكشف عن رغبة في الاحتجاج والرّفض بكلّ اللّغات واللّهجات وطرائق التّعبير. وهذا يعني أنّ المهدي بن نصيب كان صوتا جماعيّا مكلوما يبحث لجراحه الغائرة عن لغة تناسبها وإيقاع يفصح عمّا فيها من ألم ومعاناة وخوف وقلق وحنين إلى الإنسانيّ النّبيل.
5-خاتمة 

إنّ القصيدة في “كلمات للحبّ والوطن” تنزع إلى الإفهام. فهي قريبة في إشاراتها بسيطة في معجمها. ولكنّها جريئة بما أدخلته في بنائها من أصوات أخرى تبدو قلقة في مواطنها غير أنّ قلقها أتاح لنا رؤية الواقع في مظاهره البسيطة التّي قد تحجبها العادة والتّكرار. وإذا أقررنا بأنّ لكلّ ذات إيقاعها ورؤيتها للوجود والفنّ وأنّ الفنّ –أيّا كانت الأجناس والأنواع – غير مقطوع الصّلة بالواقع، فإنّه يمكننا أن نُشير إلى أنّ المهدي بن نصيب قد عجن القصيدة من طين اليوميّ المألوف. فبدا بذلك وفيّا لمعاني الالتزام في بعده الإنسانيّ الذّي يتّسع إلى السّؤال والحيرة والقلق ليحتضن المختلف والمتعدّد….

الهوامش : 

[1] André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, P.U.F, 1996, ps 283-284.

[2] Ibid. p 283.

[3] Jean-Paul Sartre, Qu’est ce que la littérature, Folio-essais, Gallimard, 2003, ps 22-23-24- 25-26-27-28.

[4] محمّد صالح بن عمر، ضمن تاريخ الأدب التّونسيّ الحديث والمعاصر( تأليف جماعيّ) بيت الحكمة، تونس1993، صص190-191.

[5] Julia Kristeva, Sémeiotiké, Recherches pour une sémanalyse, Paris, Seuil, 1969, ps 197-198.

6] Gaston Bachelard, la poétique de la rêverie, P.U.F, 1989, p 126.

[7] Ibid. p129.

[8] Ibid. p136.

[9]  المقطع للشّاعر الشّعبي بلقاسم بن نصير

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*