حدثَ ذاتَ ليلةٍ.. قد يحدثُ كلَّ ليلةٍ : قصّة قصيرة: محمّد مراد أباظة – كاتب وشاعر سوريّ مقيم بأبخازيا

محمّد مراد أباظة

 

الشّاي كان أسود، ودخان اللّفافة حركة رماديّة مرتبكة، تتلاشى ولا تتلاشى. وكان اللّيل تمثالاً أبنوسيّاً صامتاً، أُحاوره فلا يستجيب، أتحرَّش به فيوغل في صمته البارد.

والأشياء كانت بحياديتها المضجرة فوَّهات بنادق مصوَّبة نحو قلبي مباشرة، يحاول الابتعاد عن مدى مرماها، فلا يستطيع، يناور، فيفشل.

فكّرت في اللّجوء إلى من أحادثه، فأشكو إليه صداعي المزمن، وأخبره عن غرفتي الكهفيّة الرّطبة التي أجدها كلَّ مساء أضيق قليلاً ممّا اعتقدت سابقاً، وأحكي له عن فأر صغير مشاغب يقرض كتبي بحرّية ليلاً، فاكتشفتُ، دون أن أُفاجأ، بأنّني وحيد في مدينة تخلَّت عني، وغفت تبتكر أحلامها، أو تعاني كوابيسها.

على الورقة البيضاء أمامي رسمت وجهاً تعمَّدتُ أن يبدو كئيباً، وسألته عن سبب كآبته، فلم يجبْ. التفتُّ إلى الكتب المبعثرة من حولي، وهممتُ بمناداة بعض أصحابي المندسّين بين صفحاتها، لكنَّ الشخير الذي علا كأصوات مناشير تشقُّ السّكون المتخشِّب أنبأني بأنَّهم يغطّون في النّوم، فأشحت بوجهي عنهم، وتركتهم يتابعون غرقهم في سبات الحبر.

وكانت جمجمتي قد أمست قنبلة موقوتة بحجم ضجريّ، والتَّوْق إلى الثّرثرة نما في الصّدر، تمدَّد، احتلَّ هيكلي المتداعي على الطّاولة، احتدَّ، اشتدَّ، صار قطّة متوحِّشة تموء بشهوة.

والشّاي كان أسود، والكون زنزانة واسعة.

امتدَّت يدي إلى المذياع الصّغير تعبث به، لكن، والسّاعة تقترب من الثّالثة صباحاً، كانت الأصوات فيه تسكت واحداً بعد الآخر باختلاف لغاتها وأمكنة انطلاقها.

رحتُ أُنقِّل المؤشِّر من إذاعة إلى أخرى، لعلّي ألتقط صوتاً ما بشريّاً يشاركني وحدتي أو لحناً أنيساً يصدح لينحاز إلى روحي في مناخ هذه الجنازة اللّيليّة الصّامتة.

وفجأةً جاءني صوتُه غناءً، ترافقه نقرات على أوتار قيثارة. من محطّة بعيدة لبلدٍ ما، في قارّةٍ ما، في عالمٍ ما، جاءني. اجتاز تضاريسَ المسافات، وكمائنَ البحار، ومتاريسَ الحدود، وحقولَ الألغام، وأسوارَ الأسلاك الشّائكة، وتسلَّلَ إليَّ عبر نسيج اللّيل.. وعبر نسيج الصّمت.. والجدران، وغمرني.

لم يكن الغناء بأيّة لغة سمعت منها كلمات وأستطيع ترديدها. كان غناءً حزيناً.. أنيناً مغنّى.. نزيفاً ملحَّناً.. وجعاً موزوناً بإيقاع غريب مدهش، صادقاً إلى حدِّ الاعتراف، والآهة كانت تأتيني من صدر المغنّي مُخرَّشةً.. مجرَّحةً.. داميةً.

وعلى ضفَّة الغفوة الصّاحيّة مشلوحاً على غيمة زرقاء كنت أستمع. بين الصّحو والحلم، وبين الحضور والغياب كنت أستمع. لم تكن أذناي هما اللّتان تلتقطان نبرات الحرقة المغنّاة، لم يكن استماعاً بالمعنى الحسّي، أو هكذا خُيِّل إليّ، بل كان امتصاصاً من نوعٍ مّا لنكهة الأغنية، حلولاً في الشّرايين.. جسرَ تواصلٍ حميميٍّ كتواصل مخلوقين بدائيّين لا لغة مشتركة بينهما في مواجهة خطر مّا، أو في غمرة فرح ما.

كانت الأغنيةُ موعدَ لقاء دونَ اتّفاقٍ مسبَق.. لحظةَ عناقٍ بالمصادفة.. حضوراً أليفاً خارقاً للعادة وغير منتظَر.

وحلَّقت الكلمات والألحان حولي تتماوج برشاقة، وبدأتْ ذرّاتها تنحلّ، تتحوَّل إلى أطياف تجريديّة ملوّنة كأحلام قزحيّة صغيرة تتناثر في فضاء معطَّر، وتماهت التّجريدات مع محسوسات غير محدَّدة المعالم، وتجلَّت المحسوسات أشياء سابحة في فراغ غامض، ثمّ أخذت الأشياء تضيء في مراحل تكوُّن جديدة آسرة، تُضاء، تمسكها الأصابع، تجسُّها الأنامل، تُشَمُّ، تُعاش.

الأشياء من حولي باتت امتداداً للأغنية. الأغنية صارت جسداً روحيّاً وروحاً جسديّةً للأشياء، حيّزاً يستوعب حركتَها، نبضَها، حيويّتَها. الأغنية- الأشياء خرجت من الغموض، ودخلت في المألوف المفاجئ، وتألَّقت بوضوح شمس ربيعيّة.

ومتحِّداً بها، موغلاً في خلاياها، محتوياً خفقَها الدّاخليّ امتلكتني الأغنية، فالتقطتُ سرَّ عذوبتها، احتوتني، احتويتُها، تقمّصتني، تقمّصتُها، حلَّت فيَّ اختلاجاتِ انبهارٍ وتألُّق، وحللتُ فيها نبضاتٍ تتراقص على إيقاعاتها كواكبُ تبحر في دمي، فبدأت ذاكرتي تتجدَّد على مشارفها، وكياني يتحدَّد في فسحتها، وامتدَّت حدودي لتشمل فيَّ حدودها، وتوسَّدَتْ روحي ربوةً تشرف على مدى الجسد والذّاكرة.

لم تعد الأغنية بلغة ما، كانت بلا لغة، وبكلّ لغات الأرض.

وبين الصّحو والحلم، وبين الحضور والغياب، وبيني وبين نفسي، لم تسعفني قدرتي على التّمييز لأقرِّر إن كان الصّوت آتياً من المذياع، أو أنّه من داخلي ويُهَيَّأ لي أنّني أسمعه، أو أن”ه من مكان مّا في جسد الأبنوسة الجليلة.

وعبر غلالة ضبابيّة زرقاء شفّافة رأيته، كان المغنّي يجلس على شاطئ بحر، أو ربّما على حافّة صحراء، يمدُّ بصره إلى الأفق البعيد.. البعيد، وصوته يخترق صمتاً خرافيّاً في كلّ الاتّجاهات، ووجهه يحثُّ ذاكرتي على الاستضاءة.

قد أكون رأيته ذات مرَّة.

كان يغنّي وأنامله تقطف من الأوتار نجوماً، وتنثرها في الأنحاء.

“هل كان يروي قصّة حبٍّ قديم عاشها ذات زمان فأضاء جمرُ الذّاكرة تفاصيلَها الحلوةَ والمرّة؟ هل كان يرثي صديقاً له اختفى ذات يوم تاركاً لديه حقيبةً من ذكريات صباهما المشتَركة؟ هل كان يحكي سيرةَ شاعر شرّدته القصائد، فانتحر في قبو رطب أو على ناصية خريف كئيب؟ أم عن خيام ممزَّقة تحاصرُها الشّتاءات ورياح المنافي، وتنتحب في عتماتها عصافيرُ وفراشاتٌ وطفولاتٌ مشرَّدة؟”.

وكانت كلماته حمائمَ بيضاء، كما بدت لي أو.. كما أفهمتني نفسَها بطريقتها، تنطلق باحثةً عن أزمنةٍ مبتغاة غير ملوّثة بالهزائم، وأمكنةٍ ناصعة غير مضرّجة بالفجائع، وخرائطَ لم يلوِّثْها جشعُ العصور، ولم تمسسْها الحرائق التي أشعلها الإنسانُ على هذه الأرض، فاستمرَّت، إلى الآن، في الاشتعال والتهام أحفاده من بعده، ولم يستطع أحدٌ بعدُ إطفاءَها.

لكنَّ الأفق كان صامتاً، الأفق كان مغلقاً.

اقتربت منه عبر الغِلالة، اقتربت، وأنا أخاف خدشَ حضوره الحلميّ، وبَتْرَ تواصله بالأشياء الكامنة خلف صمت الكون، والحدَّ من امتداده اللاّمتناهي في مساحات الألوان المشتَهاة.

اقتربت، جلست إلى جواره على الرّمل النديّ، أو على الرّمل الحارّ، ووجهه الحزين ينبش في ذاكرتي مشاهد كانت تكمن تحت رماد السّنوات، وقلبي يتلقَّف كلَّ دفقةٍ مناخيةٍ من ذاك الطّقس الاحتفاليّ.. وكان يغنّي.

“أين رأيتُ هذا الوجه من قبل؟ في أيّ حلم؟ في أيّ مدينة؟ في أيّ مرآة؟ أين رأيت عينيه الباكيتين بصمت، الحالمتين بصمت، المضمَّختين بندى القصائد وأريج الأمنيات؟”.

وخلاياي تمتصّ رائحة الأغنية الوجعيّة تكثَّفت في رأسي كلماتٌ وصورٌ وألوانٌ أعرفها ولا أعرفها، تتناثر في منتصف المسافة بين حقول ألغام وبيادرِ قمح، بين أسراب قاذفات ورفوف حمائم، بين قنابلَ موقوتة وهدايا أعياد، بين شظايا ملتهبة وشقائق نعمان.

كانت ثَمَّة كلماتٌ وصورٌ وألوانٌ أعرفها ولا أعرفها.

ولونُ الشّاي، حركةُ دخان اللّفائف، الأبنوسةُ المعتّمة، الوجهُ الكئيبُ على الورقة، الأشياءُ الحياديّة، كانت جميعها تتماوج في فَلَك الأغنية.

وكنت نسيت تماماً أنّني وحيد، وأنّ المدينة تخلَّت عنّي ونامت، فبزغت في قلبي زهرةٌ صغيرةٌ أسميتها الفرح، واستعذبتُ حزني.

“أين سمعتُ هذه الأغنية؟ من كُوَّة أيِّ كوخٍ متهرّئ عبرت المسافات إليَّ ذات يوم؟ أيّ شعب ردَّدها بهتاف منظَّم وهو يجابه المحتلّين بالقبضات والصّدور؟ من أيّ غابة تصاعدت يوماً متماوجةً على إيقاع طبول زنجيّة؟ أين سمعتها؟”.

وكان المغني يجلس على شاطئ بحر يمتدّ إلى نهاية الزمان، أو ربما على حافَّة صحراء تلتهب إلى نهاية المكان، يحتضن قيثارته، يحادثها بالأنامل وهو يغنّي، يبوح، فيأخذ بوحُه شكلَ الخبز الأسود، الخيام المغبرّة، الكُوى المطفأة، العشق المبتور، الخوف، الأحلام المخذولة، والأمنيات الذّابلة، والطفولات المذبوحة في ظلّ رايات الغرباء القادمين من وراء البحار.

هل كان وحيداً وهو يغنّي؟ وهل كنت أستمع؟!

بتردُّد اقتربت أكثر، وبارتباك سألته:

– ماذا تقول كلماتُ أغنيتك؟

نظر إليَّ وهو لا يزال يغنّي، وبعينيه اللّتين لا تحكمهما مفردات القواميس وقواعد اللّغات أجاب، وبأوتاره التي تتقن كلَّ أبجديّات الأرض أضاف إلى إجابته أشياء، فاقتربت أكثر، واقترب وهو… لا يزال يغنّي، ولا أزال أستمع.

خيِّل إليَّ أنّني، ربّما، فهمت كلمات أغنيته التي تقول إنّه ينتظر زمناً ما أكثر إنسانيّةً، زلزالاً يرجّ الكون، ويعيد إليه توازنَه، أو يعيده إلى توازنه، يهزّ شجر الجسد والذّاكرة، ينفض عنهما الأوراق الصّفراء والأغصان المحترقة، ويلغي الأقفاص، ويكرِّس حرّية الطّيور والغيوم، ورَقْصَ الفراشات حول أسرّة الأطفال وفي فضاءات أحلامهم الملوَّنة.

وكان لا يزال يغنّي.

حدَّثني عن أشياء كثيرة.. كثيرة.. تُقال ولا تُقال، سألته ثانيةً وثالثةً ورابعةً و… وأجاب. سألني فأجبت. ودام الحوار طويلاً، ومعاً شربنا الشّاي، ودَخَّنّا معاً، بكينا، ضحكنا، وحملتنا موجات حنين إلى الأمام. اقتربت، اقترب من قلبي أكثر فأكثر، وكان.. لا يزال يغنّي.

وعلى الشّاطئ الأخير للأغنية، وضوء الصّباح موشك على قراءة مرآة البحر، أو رمال الصّحراء، ودَّعني، وما ودَّعني، بابتسامة ارتدَتْ حريرَ زهرة صغيرة أسميناها الفرح، فاستعذبنا كلَّ شيء.

ودَّعته.. واللّيلُ آنذاك كان قد خرج من عباءته الأبنوسيّة الصّامتة، وارتدى عبقَ ياسمينةٍ راقصةٍ في واحة باتِّساع القلب، في قلب باتِّساع الكون. والوجهُ المرسومُ على الورقة لم يعد كئيباً، والغرفةُ كانت أوسعَ.. أوسعَ.. أوسع، والزهرةُ تلك كانت تملؤني، ولم أعد وحيداً، فالمغنّي كان قد أصبح صديقي.. والأفقُ لم يعد صامتاً..

الأفق لم يعد مغلقاً.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*