بلاغة التّدهور في مجموعة ” هواء مَنْعِ الحَمْل ” ( 1 ) للشّاعر التّونسيّ نزار شقرون :محمّد صالح بن عمر

نزار شقرون

 

ليست هذه المرّة  الأولى التي يستوقفنا فيها شعر نزار شقرون . فقد سبق لنا أن قدّمنا سنة 2003 بمدينة صفاقس مداخلة عن نماذج من مجموعته الموسومة بإشراقات  الوليّ الأغلبيّ ( 2 ) تعلّقت بتقنيات  الكتابة الشعريّة عنده  . وكان قد استثمر في تلك النّماذج اللّون الصّوفي لكن وفق الأسلوب التّسعينيّ الذي يؤثر  تصوير المناخات على معالجة  الموضوعات والتشظّي على البناء الشّجريّ و الدّلالات الإيحائيّة على الدّلالات المرجعيّة  والغرف من ينابيع الخيال والحلم واللاّوعي على الانضباط لتوجيهات المفكّرة أو الانسياق وراء انسياب العواطف الجيّاشة .

وفي هذه المجموعة الجديدة التي وسمها بهواء منع الحمل و إن ظلّ وفيا لتوجّهه التّسعينيّ فقد استبدل المُناخ الصّوفيّ بمناخ واقعي  ، مُقْدما بذلك على تجربة عسيرة محفوفة بالمزالق  لما هو بديهيّ من صعوبة تحقيق المعادلة بين الشّعري * الذي قوامه العدول عن المرجعيّ * والواقع الذي لا يُوَفِّيه حقّه إلاّ الخطاب المباشر المبنيّ على النّقل العَدَسيّ  أو  على محتمل الوقوع *.

فكيف واجه الشّاعر هذه الصّعوبة الفائقة ؟ و إلى أيّ حدّ نجح في تذليلها ؟

1- الاطار العامّ الذي تتنزّل فيه قصائد المجموعة :

قلنا إنّ الشّاعر قد استعاض في  مجموعته الجديدة  عن المُناخ الصّوفي الذي احتفى به في مجموعته السّابقة  بمناخ واقعيّ . وهذه الملحوظة في حاجة إلى توضيح . فالمتأمّل في القصائد الواردة في هذا التّأليف يلفته الحضور الشّديد الكثافة فيه للواقع التّونسيّ . وهو ما تجسّد أوّلا في حرص صاحب المجموعة على ذكر الأماكن بأسمائها . فهذا شارع البيئة  . وذاك البنك الدّوَليّ .  وذلك المصنع الكيمياويّ . وهذا مقهى  ” الدّيوان ” وهذه حانات ” الاستقلال ” و ” السّيقال ”  و” الرّولي”   ،  كما مَثُلَ في  تغييب ملامح  الذّات الشّاعرة بصريح اللّفظ  إلاّ في نصّين اضطلعت فيهما بدور الرّاوي والشّاهد أو المشارك الثّانويّ وإن كان يمكن استخلاص  بعض هذه الملامح  من رؤيتها المنجذبة على نحو شبه قارّ نحو العالم الخارجيّ   ، تضاف إلى ذلك  شموليّة هذا الحضور الذي يغطيّ كلّ الميادين تقريبا من مجتمع واقتصاد وسياسة و إدارة وثقافة . وهو ما جعل قصائد المجموعة أشبه ما يكون بمسارح تزدحم على خشباتها نماذج بشريّة شتّى تنتمي إلى مختلف الطّبقات والفئات ( مدرّسون – بحّارة – عمّل – أطبّاء – ممرّضون – متسوّلون – سياسيّون – موظّفون … ) .

وهناك مظهر آخر بارز في هذا المشهد العامّ هو استشراء الرّداءة في كلّ تلك الميادين بلا استثناء سواء من النّاحية المادّيّة المحسوسة أو من جهة القيم . وهو ما يقدّم انطباعا بأنّ الواقع المُحال عليه هو في مجمله شبيه كلّ الشّبه بمستنقع آسن  بلغ درجة عالية من التعفّن .

لكنّ الشّاعر لم يقدّم هذا الواقع على نحو منظّم مُمَنْهج  طبقا لتبويب معيّن  وإنّما على هيئة ومضات يستمدّها في كلّ خطوة من أحد تلك الميادين وفق ما يجرّه إليه السّياق  . وهو ما عصمه من الوقوع في الوصف العَدَسيّ التّسجيليّ وجعله يُخلد إلى الانتقاء الصّارم الدّقيق  طبقا للإفادة ومراعاة للصّلة الوثيقة بالسّياق . وهكذا يلوح الواقع الموضوعيّ في هذه المجموعة مصدرا أو خلفيّة  منها يقتبس الشاّعر في  كلّ خطوة صورا يستدعيها من ميادين شتّى  لا يجمع بينها جامع أحيانا غير الرّداءة ومنتهى التّدهور . و في هذا دليل على إدراك الشاّعر الفرق  الشّاسع بين الواقع مادّة خاما والواقع المعالج فنياّ في نصّ شعريّ .

2- في جمااليّة التّدهور مفهوما وخصائص :

لقد اختلف الفلاسفة في تحديد طبيعة الجمال :  أ هو حقيقة موضوعيّة  قابلة للحصر عقلياّ  تتجسّد في مفهوم * مثلما ذهب إلى ذلك هيقل (1770-1831 Hegel  )  (3 ) أم هو  ظاهرة حسّيّة ذاتيّة يشعر بها المتلقّّي  فتنال إعجابه و تولّد لديه إحساسا بالمتعة – وهو رأي كانت (1724-1804 Kant  ) الذي يختزله في هذا القول : ” الجميل هو الذي ينال الإعجاب كونيّا دون أن يتجسّم في مفهوم ”  (4 )  لذلك تختلف من شخص إلى آخر . وكذلك شأن القبح الذي هو نقيضه .  فيتحدّد طبقا لتصوّر طبيعة الجمال الذي نأخذ به : أيْ الجمال باعتباره  ظاهرة عقليّة أو ظاهرة حسّيّة  أو على نحو أدقّ  من حيث هو بنية موضوعيّة أو شعور صادر عن أنا المتلقّيّ .

ومهما يكن من أمر فالقبح سواء أكان حقيقة ثابتة أم ظاهرة حسّيّة متغيّرة فإنّ  ما يمكن الاتّفاق عليه هو أنّه بكلّ صوره  يدخل حتما  في خانة السّلبي .  وهو ما قرّره كارل كوزنكران (Karl Rosenkranz   1805- 1879 ) الذي عرّفه بأنّه  ” الجمال السّلبيّ ”  محدّدا إيّاه في  اللاّشكليّة * واللاّتناسق * والتشوّه * ، عادّا الكاريكاتور أعلى درجة من درجات  خلخلة الجمال ( 5 ) .

على أنّ أهمّ إضافة قدّمها  في هذا الباب هي تفريقه بين القبح في الواقع والقبح في العمل الفنّيّ ، مقيما مقابلة كلّيّة بين الجحيم الأخلاقيّ  * والجحيم الجماليّ * (6 ) . ومعناه أنّ تصوير الجمال يمكن أن يكون قبيحا على حين أنّ تصوير القبيح قد يجيء جميلا ، إذ لا يتعلّق الأمر بهما في حدّ ذاتهما كما هما في الواقع  بل بطرائق استثمارهما في أعمال فنّيّة ينجزها  بشر .

ومع  ذلك فإنّ انصراف الفناّن إلى تصوير القبح بدلا من الجمال لا يكون من قبيل المصادفة والاعتباط . و إنّما هناك أسباب موضوعيّة تدفعه إلى الانشغال به وبذل جهوده في رسمه لعلّ من أهمّها السّبب السّياسيّ الذي يلوح جليّا في مجموعة هواء لمنع الحمل لنزار شقرون  ما دام قد صوّر استشراءه في الواقع السّائد الذي يعايشه  في محيطه  وعلى جميع الأصعدة دون استثناء .

لكنّ القبح مثل الجمال درجات متفاوتة . ومن ثمّة فإذا كان الكمال أعلى درجة من درجات الجمال فانّ قمّة القبح هي التّدهور أو التردّي . لذلك لا يكتفي الشّاعر برصد مظاهره  العادية بل يحرص على انتقاء ما استفحل منها . وهو ما يؤول في مستوى الكتابة الشعرية إلى استخدام تقنية التّفخيم *أو المبالغة و إن كانت الظواهر الموصوفة مطابقة للواقع  .

ولئن تعدّدت هذه المظاهر في قصائد المجموعة فإنّها تتوزّع إجمالا على محورين كبيرين هما : العفن*  والاختلال* .  فما هي الأساليب الفنّيّة التي استخدمها الشّاعر في نقلهما من موادّ خام تبعث على الاشمئزاز في الواقع إلى صور إبداعيّة رائقة ؟

للإجابة عن هذا السؤال سنحاول فحص  بعض النّماذج من كلا  ذينك المحورين .

2- 1: جماليّة  القذارة والعفن :

تحتلّ القذارة حيّزات كثيرة في قصائد المجموعة . وقد استخدم الشاّعر في تصويرها  أسلوب التضخيم خاصّة  مع تكثيف المجاز والإيحاء . و لئن كانت الرداءة ضروبا  شتّى شديدة الاختلاف فإنّ ما اختاره منها  هو من أبشع أنواع العفن وأشدّها إثارة للتقزّز كالقيء والبول والجُثَث والدّود والمُخاط . وقد تجسّد ذلك لغوياّ في استثمار واسع  للحقول المعجميّة  المفيدة لهذا المفهوم وما يرتبط بألفاظها  من دلالات حافّة مُصاحِبة لمعانيها الأصليّة .

فالسّكارى” يرمّمون بالقيء أركان البنايات ” ( هواء منه الحمل ص 18 )  أو  ” يقذفون أمعاءهم على حائط البنك الدّوَليّ ” ( ص 48 ) وفتيان الصِّدْق الذين ينتمي الشاعر إلى زمرتهم يهرولون  إلى قُبالة رُكام  المصنع الكيمياوي للتبوّل على حجارة سكّة الحديد ( ص 36 )  وقسم الأشعّة من المستشفى  يفوح فيه ” رائحة بول الفسفاط على جثث الموتى ” ( ص 5 ) .

وأحياء المدينة العتيقة  تحتاج ” بعض أنهجها إلى نقاهة من الأوساخ المزدحمة على أرنبة أنوف المتسوّلين . في الأركان تتكوّم أكياس البلاستيك البيئيّة ترأف بعيون القطط فتكشف أشواك السّمك المشويّ وبقايا أصابع على حبّات الكسكسي ورطلا من الخبز الأخضر  ” .

( المصدر نفسه ص 75 )

فتشخيص الأنهج وأكياس البلاستيك والكناية عن رائحة الأوساخ بالأوساخ نفسها ” المزدحمة عل أنوف المتسوّلين ” والإشارة إلى بعض التّفاصيل غير المنظورة وهي بقايا الأصابع على حبّات الكسكسي  يضفيان على   هذا المقطع مسحة جماليّة رائقة  يتحوّل بمقتضاها قبح المشهد الموصوف  في الواقع إلى  صورة فنّية شائقة داخل النصّ الشّعريّ .

لكنّ شدّة الوقع التي لألفاظ  معجم  القذارة في حدّ ذاتها  قد تبرّر أحيانا استعمالها بمعانيها الأصليّة  كما في قول الشّاعر :

هل في الداّخل من أحد ؟

الرائحة وحدها لا تكفي

سيلان البول

على الأرضيّة الملساء

لا يكفي

( المصدر نفسه ص 59 )

ومن أخطر مظاهر القذارة التلوّث البيئيّ الذي  يأتي على الأخضر واليابس ويتسبّب في الأمراض القاتلة .ولئن أغرت العربَ  المنافعُ الحاصلة من إنشاء المصانع واستيراد  وسائل النّقل وسائر الآلات الحديثة فلم تستهوهم  التقنيات والبرامج ووسائل الوقاية  التي  تُوظّف  في مقاومة  الغازات السّامة الصادرة عنها لحماية الإنسان والحيوان والنّبات . وقد خصّص الشّاعر لهذه الآفة قصيدة مطوّلة هي قصيدة ” هواء لمنع الحمل ” التي اختار عنوانها عنوانا للمجموعة .وهي تدور حول الكوارث التي تولّدت عن تركيز مصنع كيمياوي بمدينته .

يقول في المقطع  الأوّل من هذه القصيدة :

جِسران يُطلاّن على شارع واحد

مقبرةٌ

والمصنع الكيمياويّ

يمدّ غليونه

في السّماء

يجرّد الزّياتين من لونها

ويضاجع السيّارات البيضاء

تحمل الموتى

( المصدر نفسه ص 49 )

ومثلما نرى لم ينقل الشاعر صورة عَدَسيّة أو شبه عدسيّة لهذا المصنع والسّموم التي ينفثها   ولم ينزلق إلى صياغة خطاب تنديديّ بالمتسبّبين في إقامته  بمنطقة آهلة بالسكّان  بل افتتح القصيدة بصورة بانوراميّة لموقعه  غير المناسب  تشمل المقبرة ،  للإيحاء بالتكامل بين وظيفته ووظيفتها ،   مشخّصا إيّاه  في هيئة المتعالي  المستهتر بالأخلاق الحميدة .

ومن النتائج الوخيمة المنجرّة عن هذه الآفة المرض فالألم فالموت لأنّ ظروف الاستشفاء المتاحة للمصابين في غاية التردّي .وقد تواترت في القصيدة صور رهيبة لما يعانونه من آلام .

من ذلك قول  الشّاعر :

من قسم الأشعّ

يخرج الألم

الابن المدلّل للورم

يضيق الظلّ بصاحبه

( المصدر نفسه  ص 50 )

ويقول :

بدل أن تقفز صرتَ تتأمّل مشيتك كالحَبْو بعد أن صار جسدك خرائط للأشعّة . تسأل أمّك في قبرها : أهناك تقسيم آخر تحت الأرض ؟

( المصدر نفسه ص 67 )

2- 2:جماليّة الاختلال :

لقد اعتمد الشّاعر في تصوير مظاهر الاختلال التّمثيل الرّمزيّ   ، موظّفا لذلك الغرض ساعة البلديّة المخلوعة في مدينته . وقد اختار هذه السّاعة بالذّات لسببين محتملين : الأوّل هو موقعها البارز  الذي يجعلها مواجهة لكلّ المارّين  من أمامها والآخر هو أنّ في وجودها على تلك الحال دليلا على عدم وعي المسؤولين البلديّين بقيمة الزمن واستهانتهم بمبدإ الانضباط للمواعيد ،  فضلا عن تقصيرهم في أداء واجب المتابعة لأحوال مدينتهم وتركهم الحبل على الغارب .وهي  من أهمّ أسباب التخلّف الحضاريّ .

لكن بدلا من أن يلقي الشّاعر في هذا المقام خطابا احتجاجيّا  مدعوما بوصف عدسيّ تسجيليّ مثلما هو الشّأن في الشّعر الذي يسمّى واقعيّا  نجده يكثّف الدلالات المجازيّة والإيحائيّة  من بداية القصيدة إلى نهايتها . فعقارب السّاعة التي سُمّيت كذلك على سبيل المجاز تستعيد ، بعد أن فقدت وظيفتها ، معناها الأصليّ . فإذا هي تلدغ الوقت  عوضا عن الإشارة إليه .وهذه إن شئنا  استعارة معكوسة  تمهّد السّبيل لاستعارات أخرى . فتُصاب الثّواني بما يشبه الشّلل الجزئي وتُقصى الدقائق عن منظومة الزّمن و تفقد السّاعة  سلامتها  البصريّة .

يقول :

ساعة البلديّة

عقاربها

لا تلدغ إلا الوقت

الثّواني

من فرط تَسَلْحُفِها تعاني

والدّقائق طير تركه السّرب

 والسّاعة عينٌ أعشتها الشّمس

( المصدر نفسه ص 15 )

ويجرّ التّداعي الشّاعرَ  بتأثير المجاورة * إلى  الانتقال من هذا الوصف  المجازيّ الإيحائيّ للحالة المتردّية التي عليها السّاعة البلديّة إلى التعريض بإهمال  السّلطة لفلاحة الزيتون التي تعدّ أهم نشاط اقتصاديّ بجهة صفاقس.

يقول :

ساعة البلديّة

صَدِئتِ

تحتاجُ إلى الزيت

لكنّ الزيتونة مهجورة

في باب الشّرق

( المصدر نفسه ص 17 )

ومن مظاهر الاختلال  التّناقض الصّارخ بين مُنْتَجات الحداثة المجلوبة من الغرب ومظاهر البؤس والتخلّف الملاصقة لها  بل المختلطة بها أحيانا . وهو ما يقيم الدّليل على  فشل العرب الذّريع في التّحديث الذي فُهم على أنّه عمليّة تزويق خارجيّ للموروث الاجتماعي والثقافي  والحال أنّه تغيير عميق واسع النّطاق ينفذ إلى العقول والنّفوس ليستقر قي العقليّات ويسري في الرّؤية ويتجسّد في السّلوك . وهذا ما أخفق العرب في تحقيقه بعد مرور أكثر من قرنين على بدء احتكاكهم بالحضارة الغربيّة الحديثة وما يزيد على قرن من شروعهم في الأخذ بأسبابها .

يقول الشّاعر :

الغرفة مكتظّة بالّصراصير

والأنفاس ضاقت عليك

سيدخل الممرّض بالعربة الصدئة

تُقِلّ

وفدا من الصّراصير الرقيقة

حقنا سريعة الاستعمال

في الأجساد الباردة

( المصدر نفسه ص 65 )

ويقول :

“السّاحات العامّة مختصّة في جمع شمل الوديان نزحتْ بحثا عن مصبّ الزُّبالة وقرب المغازات العامّة متسوّلون مختصّون في هجاء الربّ إثر مرور رَتْل شحيح . الرّصيفُ سكّة حجريّة لا يمرّ عليها غير العاطلين عن تحويل وجهة التاّريخ “ .

( المصدر نفسه ص 74 )

ففي هذين المقطعين  ينجح الشّاعر أيضا  في تحقيق المعادلة الصعبة بين تصوير تدهور الواقع والاستجابة  للشّرط الأول من شروط  جماليّة القول الشعري . وهو إبهار المتلقّي بالصّور المباغتة المبتكرة .  وهذا  ما نلمسه في تشبيه الصّراصير بالحقن السريعة الاستعمال وتشخيص السّاحات العامة والوديان واستعارة ” تحويل وجهة التّاريخ ” للغاية التي يقصدها العابرون للسكّة .

2- 3: جماليّة انهيار القيم :

و مقابل هذا التدهور الشّامل للبنى التحتيّة وما يتسبّب فيه من معاناة أليمة للإنسان يقف المثقّف الذي به تناط مهامّ الدّفاع والتّصدّي والمقاومة  متفرّجا  ، مسلِّما بعجزه  بعد انهيار الإيديولوجيات ، راكنا إلى التّعويض عن فشله بالهروب  من الواقع .

فقد خصّص الشّاعر قصائد برمّتها تصوّر الأجواء السّائدة في الحانات وتَحلَُّق  قدماء المثقّفين المناضلين في أركانها حول بعض القوارير وقد تخلّوا تماما عن  حلمهم ببناء المدينة الفاضلة  ، كما يلوح من قول الشاعر :

بعد ثلاثين سنة

غيرهم التاريخ

تفرّقت الأفكار تراصّوا

في الطّريق السّريعة  من الطّاولة

إلى المَبْولة

وشحُبت الأسئلة

( المصدر نفسه ص 45 )

وقوله  :

الثّوريون القدامى

علّقوا شاربهم البلشفيّ

على فوهة النّرجيلة

تطاير شعرةً شعرةُ

مع دخانها

نزلت الأحلامُ

في مصبّ الزُبالة

قرب المصنع الكيميائيّ

ظلّت رائحة العفونة

أعلى من رائحة

السّيقار الكوبيّ

( المصدر نفسه ص 90 )

فعلى واقعيّة الصّورة  التي رسمها  الشّاعر هنا للمثقّف  فقد جاءت متلألئة برّاقة بفضل بؤر الإشراق التي وزّعها فيها مثل استعارة  الطّريق السّريعة  للمسافة الفاصلة داخل الحانة  بين الطّاولة و  المبولة ونزول أحلام الثّوريين إلى مصبّ الزّبالة و وتغلّب رائحة العفونة على رائحة السّيقار الكُوبيّ .وهي كلّها صور مبتكرة مباغتة .

3- ملامح  الذّات الشّاعرة :

لا نظفر في هذه المجموعة إلاّ بقصيدتين   يتحدّث فيهما منشئ الخطاب عن نفسه : إحداهما بضمير المتكلّم المفرد  –  وهي بعنوان  ” صيام المدفع ”  –  والأخرى بضمير المتكلّم الجمع  –  وعنوانها ” علبة الصّراصير ” . و هما لا تقدّمان إلا صورة  غائمة  لمثقّف شاهد على واقع  معيّن لكنّه ليس مؤثّرا فيه .

على أنّ الصّورة التي رسمها لهذا الواقع  على جميع الأصعدة وفي مختلف الميادين تنبع من رؤية تحليليّة نقديّة شاملة   تكشف عن قدرة فائقة  على الربط بين الظّواهر المتفرّقة   المتّصلة بميادين متباعدة وعلى  النفّاذ إلى أدقّ التّفاصيل الخفيّة  لذلك الواقع .

ففي قصيدتي ” علبة الصّراصير ” و ” تقبيل الرّغبة ” يستثمر الشاّعر فضاء الحانة  المخصوص لتصوير نماذج  بشريّة شتّى ( مدرّسون –  موظّفون – بحاّرة– نادلون – مثقّفون ثوريّون قدامى … ) بتفجير الأحاسيس  المكتومة في نفوسهم و الرّغائب والأحلام المكنونة في لا وعيهم  و التّناقضات التي تنخر  كيانهم .

فهذا العمّ صالح المعلّم القديم :

يطلب كأسين

يضع الفرنفل في ماء الكأس

يطلب قارورة

لتبقى يتيمة

يخال جلسته أمام تلاميذه

يشرب روائح الماضي

في كلّ جرعة

(المصدر نفسه ص  ص 31 – 32 )

وهؤلاء المُخبرون :

تمسّكوا برجائهم الصّالح

سجّلوا كل الجُمل

حتّى ذيلها

لكنّ شباك تقاريرهم

خلت من رأس الحوت

( المصدر نفسه ص 41 )

وأولئك  السُّقاة

قد يتوبون إلى الله

إثر إتمام بناء البيت

وتزويج البنت الأولى

( المصدر نفسه ص 42 )

وهكذا تلوح الحانة  فضاء من فضاءات المجتمع الخلفيّة  المستورة التي فيها تتعرّى حقائق النّاس   في غياب نواهي الأنا الأعلى الاجتماعيّ * ، ذلك  الذي يقف  على الدّوام  بالمرصاد لكلّ زائغ ناهرا أو مؤنّبا  . لكنّ الشّاعر لا يكتفي بنقل الظّاهر ممّا تحويه تلك الفضاءات وما يحدث فيها  بل يغوص في نفوس  هذه النّماذج البشريّة وعقولها  فردا فردا  ليلتقط لها  صورا  من الدّاخل  ، باقتناص العناصر والتفاصيل الأقوى تعبيرا والأشدّ إيحاء .فإذا كلّ لقطة تنطوي على ومضة ساحرة آسرة نحو قوله  في شأن المعلّم إنّه ” يشرب روائح الماضي  في كلّ جرعة ” وقوله عن المخبرين إنّهم  ” سجّلوا كلّ الجمل حتّى ذيلها  لكنّ شباك تقاريرهم  خلت من رأس الحوت ”  وتصويره تناقض السّقاة بين ارتكاب المحرّمات والتّفكير في التّوبة بشروط . وهو ما يدلّ على أنّ  همّ صاحب المجموعة في المقام الأول   هو نيل إعجاب  القارئ العرّيف  والمفتون بفنّ الشعر لا توعية عامّة الناس وبثّ الحماسة في نفوسهم .

وهذا الجانب هو ، في حقيقة الأمر ، من أهمّ الثّوابت في تجربة نزار شقرون  .وفيه يشترك مع شعراء التّسعينات جميعهم .وهو يؤلّف عنده  تماما مثلما هو الشّأن عندهم خصلة فارقة تؤكّد تمتّعهم بحساسيّة فنّيّة في منتهى الرّهافة . وهذه الحساسيّة  لماّ كانت قارّة فهي من ملامح الذّات الشّاعرة النفسيّة .

وها هي نماذج من الومضات الكثيرة جدّا التي تولّدت عنها بمعاضدة المخيّلة  :

يقول الشّاعر :

الشّارع قَفْرٌ

إلاّ من دقّات المطر

على الإسفلت المقعَّرِ

بفحولة الشّاحنات

( المصدر نفسه ص 35 )

طبعا ليس  متاحا لأيّ كان تصوّر هذا التّشبيه للإسفلت  ذي الحفر بالأنثى  وعجلات الشّاحنات بالذّكر الذي  افترعها .فهو في تقديرنا  تشبيه مبتكر تماما .

ومن أقواله :

الأطبّاءُ

يجتمعون صباحا

وليلا  لا يجتمعون

مع كابوس خيط الِّصنّارِ

المتدلّي

من فتحة جرحٍ

أو من  حفرة طريق

عموميّ

( المصدر نفسه ص 53 )

ليس من العاديّ  هنا أيضا انتقال  الذّهن من صورة فتحة الجرح إلى  صورة حفرة طريق عموميّ لانتمائهما إلى  حقلين معجميّين متباعدين  .  وعلى الرّغم من أنّ  انشغال الشّاعر بتدهور الواقع السّائد في محيطه  هو الذي  وفّر له هذا الإمكان  فما كان مُتاحا له أن يستثمره  على هذا النّحو من الإشراق  لو لم يكن يتمتّع بالحساسيّة الفنّيّة التي إليها ألمحنا .

ومن أقواله أيضا :

المارّة ذوو الوجوه الزرقاء يطلّونَ

على يومهم الاعتياديّ

من ثُقب الخوف

( المصدر نفسه ص 51 )

هذه كذلك فيما نعتقد  صورة   جديدة تماما  إذ لأوّل مرّة تقريبا يُشبّهُ الخوف بالباب الذي  يُطَلُّ من ثقبه .

ومن أقواله كذلك :

ما بعد الساّعة الثّامنة

يكره اللّيل شخير البيوت

أمام شماتة

عَدّاد الماء والكهرباء

( المصدر نفسه ص 19  )

هذا التّّشخيص لعدّاد الماء والكهرباء  مع وصفه بالشّماتة   هو من التصوّرات المبتدعة بالكلّيّة ،  فضلا عمّا تختزنه الصّورة من إيحاء بخوف المواطن العاديّ  الدائم من فواتير الاستهلاك الثّقيلة .

تلك هي كما قلنا نماذج مماّ لو استرسلنا في استعراضها لملأت عدّة صفحات .وهو ما يدلّ دلالة قطعيّة على أنّها صادرة عن موهبة حقيقيّة  لأنّ هاوي  كتابة الشّعر  الصانع المتصنّع يمكن للمصادفة أن تسعفه أحيانا للإتيان بمثلها لكن من المحال أن يتفتّق ذهنه عنها بالغزارة نفسها  ، إذ فاقد الشيء  حتما لا يعطيه  .

 

خاتمة:

نخرج من هذه القراءة المتواضعة في مجموعة هواء لمنع الحمل لنزار شقرون بنتيجة  مهمّة وهي أنّه لا توجد أيّ حواجز أغراضيّة تحول دون إنشاء الشّعريّ .فقد اتّضح لنا جليّا أن الإبداع في هذا الفنّ   ليس مرتهنا بنوع الموضوع المطروق وإنّما بالقدرات التخيّليّة والحساسيّة الفنّيّة للشّاعر والأسلوب الذي  يتوخّاه  في تناوله . وهو ما يشرّع إمكان التّصوير الجماليّ  للقبح نفسه على الرغّم من كونه نقيضا للجمال الذي لا يكون تصويره في القصيدة بالضّرورة جميلا ، كما يتيح طبقا للمنطق نفسه الارتقاء في تصوير الواقع إلى درجة عالية من الجودة الفنّيّة ببذل أقصى الجهد في تنقية الخطاب من الدّلالات المرجعيّة  مقابل تكثيف الإيحاء والدّلالات المجازيّة والرّمزيةّ .

الهوامش:

1- نزار شقرون ، هواء منع الحمل ، دار محمّد علي للنّشر ، صفاقس – تونس 2010

2- نزار شقرون ، إشراقات الولي ألأغلبي ،دار البيروني للنشر،    تونس   1997

3-

Kant, Critique de la raison pure, trad. Jules Barni, Flammarion, Paris  1976, p. 82

 

4-

Hegel , Esthétique,tome premier de la traduction par Charles Magloire Bénard d’après la deuxième édition de 1875 (1reéd. en 5 vol., 1840-1851), sur le site classiques.uqac.ca.  tome 1 p 153

5-

Karl Rosenkranz , Esthétique du laid  , traduite par Sibylle Muller, présentée par Gérard Raulet ,  Circé, Paris 2004 p 172

6- نفسه ص 42

 

المصطلحات :

*الشّعريّ (Le poétique  )

*المَرجِعيّ (Le référentiel )

*مُحْتَمل الوقوع (  Le vraisemblable )

*مفهوم (Concept  )

*اللاّشكليّة ( L’amorphie  )

* اللاّتناسق (L’asymétrie  )

* التشوّه (La difformité )

*الجحيم الأخلاقيّ (L’enfer éthique  )

*الجحيم الجماليّ ( L’enfer esthétique  )

*التّفخيم ( L’emphase )

*العفن (La pourriture  )

*الاختلال ( La dysfonction )

*المجاورة ( La contigüité )

*الأنا الأعلى الاجتماعي ( Le Sur- Moi social)

 

نزار شقرون :

 

ولد بصفاقس ( تونس )  في 23 أفريل 1970. زاول دراسته الجامعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس  . ومنها حصل على الأستاذية في اللغة والآداب العربية سنة 1994. اشتغل بالتدريس في التعليم الثانوي  ثم  ألحق سنة 1998 بالتعليم العالي . واصل دراسته بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس .  ومنه أحرز سنة  2002  على شهادة الدراسات المعمقة برسالة في نظريات الفن  ثم   في سنة 2007على الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون ،  تخصّص  في نظريّات الفنّ. اشتغل  أستاذا مساعدا بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس ثم انتخب مديرا  له سنة 2011. أسهم منذ سنة 1990في تنشيط عدة فضاءات ثقافية بصفاقس. رأس تحرير مجلتي  ” شمس الجنوب ” و ” أصداء الجامعة ” بصفاقس  . أنتج عدة برامج للإذاعة  . انطلقت تجربته الشعرية في نهاية الثمانينات . له كتاب نقدي عن الشعر.

 

مجاميعه الشعرية :

  • هوامش الفردوس، ،دار شمس الجنوب ، صفاقس، تونس     1990
  • تراتيل الوجع الأخير ، دار صامد للنشر والتوزيع ، صفاقس، تونس 1993
  • إشراقات الولي ألأغلبي ،دار البيروني للنشر، تونس 1997
  • ضريح الأمكنة، على نفقة المؤلف، تونس 2002
  • هواء منع الحمل ، دار محمد علي للنشر ، صفاقس ، تونس  2010

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*