العَوَّامَةُ المُرتعشةُ شعر : عبد الملك رشدي – شاعر مغربيّ

10632849_543238235806090_5096759155910907426_n

عبد الملك رشدي

le-poete-errent1

 

 

من أنت
أيَّها الضّاربُ في الأرضِ بلا رفيقٍ ؟ 
أيّتُها الصّورةُ العابرةُ ؟
أيَّها المسافرُ بلا مأوًى في اللّيل الأُخْطَبُوطيِّ 
يا رئيسَ خَدَمِ الكلمةِ
يا أيَّها الفارسُ الغريبُ 
لا تلتفتْ إلى الوراءِ
ففي سَدُومَ وعَمُورَةَ 
يزحفُ التّاريخُ على رُكبتيهِ
بعد أن انهالوا عليه 
قَذْفًا ورَجْمًا 
اِنزَعْ حَكَمَةَ فَرَسِكَ الدَّامِيةَ 
اُمْحُ الآثارَ المُلتويةَ كالحبالِ السُّرِّيَّةِ 
تحتَ عَرَبَةِ خيْلِكَ المكشوفةِ 
اُكْتُمْ أنفاسَ الصّمتِ 
الّرازِحِ تحتَ وطأةِ هَمِّكَ وغَمِّكَ 
ومن أعلى الرَّبوةِ 
اِرْفَعْ عَقيرتَكَ مناديًا. 
يا ساحرَ هذا العصرِ 
غَيِّرِ العالَمَ 
هذا الذي يريدونه متعدِّدَ الأشكالِ 
نَادِ ،نَادِ هِمْ
ولا تُجِبْ 
فالطٌّوفانُ هو الذي سيُجيبُكَ
فمن أنتَ 
أيها الخيالُ الولهانُ 
المرتعدُ الفرائصِ 
فوقَ عَوَّامَتِهِ ؟

 

تعليق : محمّد صالح بن عمر 

 

تباغتنا الذّات الشّاعرة في قصائد صاحب هذه القصيدة في كلّ نصّ تقريبا بوجه جديد  ،يخرج بها عن الأنماط النفسيّة السّلوكيّة المتداولة التي تكون  في الغالب قارّة أو شبه قارّة لدى  المؤلّفين والفنّانين عامّة  .فالي جانب صورة الشّاعر الملتزم التي يلوح فيها عبد الملك رشدي أحيانا  وصورة الشّاعر الفيلسوف الذي ينظر إلى العالم و الكائن البشريّ نظرة مسائلة أحيانا أخرى نجده في مجموعة ثالثة من القصائد ، كالقصيدة التي بين أيدينا ،يتقمّص شخصيّة نبيّ في قطيعة تامّة مع نمط التّفكير الذي يأخذ به قومه ،مثلما هو الحال في بعض نصوص  جبران خليل جبران وأبي القاسم الشّابيّ . فيخرج بذلك كلّيّا عن القطيع ، راكنا إلى العزلة ومدفوعا بكلّ جوارحه إلى التّيه ، بحثا عن النّقاء والسّموّ الرّوحيّ.

وتمشّيا مع هذه الصّورة الثّالثة  جعل الشّاعر قصيدته  تدور  حول عنصرين رئيسين هما : وصف حالة الذّات الشّاعرة النّفسيّة والذّهنيّة وإبراز الدّور الذي عليها أن تضطلع به في محيطها.

ففي ما يخصّ العنصر الأوّل تلوح لنا هذه الذّات مهمومة ، كاسفة البال (الصّمت/ الّرازِح تحتَ وطأةِ هَمِّكَ وغَمِّكَ  – حَكَمَة فَرَسِكَ الدَّامِيةَ )متألّمة لما تراه من تدهور للأوضاع في المحيط الذي رمت بها فيه الأقدار  (سَدُوم وعَمُورَة  )وكذلك من الإقصاء الذّاتي الذي اختارته لوقاية نفسها من التلّوث.

أمّا العنصر الثّاني فيتجسّد في عملين مترابطين وفقا لعلاقة  النّتيجة بالسّبب يفرض  واقع الحال على الشّاعر  القيام بهما هما : أن يتغيّر وأن يغيّر العالم.وهذا التّغيير المزدوج  المنشود ينبغي أن يبدأ بخروجه من الحالة  التي هو عليها (اِنزَعْ حَكَمَةَ فَرَسِكَ الدَّامِيةَ /اُمْحُ الآثارَ المُلتويةَ كالحبالِ السُّرِّيَّةِ/ تحتَ عَرَبَةِ خيْلِكَ المكشوفةِ/ اُكْتُمْ أنفاسَ الصّمتِ /الرّازح تحتَ وطأةِ هَمِّكَ وغَمِّكَ ) ثمّ  أن يمضي قُدُما إلى الأمام (لا تلتفتْ إلى الوراءِ) وتنصرف إلى مقاومة أصل الدّاء (اِرْفَعْ عَقيرتَكَ مناديًا/ نَادِ ،نَادِ هِمْ / غَيِّرِ العالَمَ ).وثمّة  يتحوّل من شخصيّة النّبيّ  المثاليّة إلى شخصيّة الشّاعر الملتزم الواقعيّة .

أمّا الأسلوب فهو الذي عوّدنا به هذا الشّاعر في جميع قصائده السّابقة. وقوامه إغراق النصّ في جوّ كثيف الألغاز ، شديد الغرابة، انطلاقا من صورة استعاريّة مركزيّة  هي هنا العوّامة المرتعشة التي توحي بهشاشة المصير وتقلّبه  لكنّ الشّاعر بمصابرته وقوّة شكيمته وثباته يقف في وجه كلّ العواصف إلى أن يدرك ساحل النّجاة ويرسي في سلام . و هذا الجوّ  قد  وسم القصيدة على نحو عميق مكثّف بالغموض والتّشويق.

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*