أثر بدر شاكر السيّاب في الشّعر التّونسيّ الحديث والمعاصر : محمّد صالح بن عمر

بدر-شاكر-السياب

بدر شاكر السيّاب

الميداني بن صالح

الميداني بن صالح

 

تعدّ تجربة بدر شاكر السيّاب الشّعريّة ، موضوعيّا ، علامة فارقة في تاريخ الشعر العربيّ الحديث والمعاصر .وسواء أ كان هو السّابق إلى الكتابة في اللّون الذي سُمّي حرّا أم نازك الملائكة فإنّ حجم مدوّنته التي تتكوّن  من عشر مجاميع على الأقل  مع تنزّل المعظم الأغلب منها في هذا اللّون تجعلها تؤلّف محطّة مُميّزة  في هذا التّاريخ . وذلك لأنّ هذا الشّاعر  إذا اشترك مع السابقين له من الرّومنسيّين في غنائيتّهم التي وَجَد فيها خيرَ متنفّس  لما كان يعانيه من آلام نفسيّة ثمّ  جسميّة حادّة ومن النّضاليين الذين تصدّوا بشعرهم للاستعمار والمتواطئين معه في الدّاخل و انصرفوا إلى تصوير  الأوضاع المتردّية التي تتخبّط فيها  شعوبهم فقد تميّز عنهم جميعا بارتياد هذا المسلك الجديد في قول الشّعر  ، المتحرّر من أكثر قيود النّظم التّقليدية والنازع إلى استحداث جماليّة مغايرة وثيقة الصّلة بطبيعة الحياة العصريّة وأقدر على طرق الأغراض النّضالية  في مرحلة حاسمة من تاريخ الأمة العربيّة  خاصة بعد قيام الكيان الصّهيوني بفلسطين .

   ولعل” من أقوى الدّلائل على هذه المكانة التي يحتلّها السيّاب عربيا هو تأثيره العميق إن كلّيّا و إن جزئيّا في الكثير من التّجارب الشّعرية ، الفرديّة  منها والجماعيّة داخل العراق وخارجه في الستّينات والسّبعينات من القرن العشرين . فمن الشّعراء من نهج منهجه في تمرّده  ومنهم من حذا حذوه في غنائيّته ذات النبرة المأسويّة الأليمة ومنهم من تابعه في التزامه بقضايا الطّبقات المسحوقة أيّام كان يعتنق الفكر الجدليّ المادّيّ ومنهم من أحبّ  نَفَسه العروبيّ حين انتقل إلى الفكر القوميّ   و إن  جمع بين هؤلاء جميعا النّسج على منواله في كتابة قصيدة التّفعيلة .

   ففي تونس  ، على سبيل المثال  ،- وهو الموضوع الذي يهمّنا في هذه الكلمة القصيرة –  أخذ شعره ،  منذ بداية الخمسينات ،  يشارك شعر أبي القاسم الشابي  ( المتوفى سنة 1934 )  شيئا فشيئا في وسم  محاولات الكثيرين من شعراء  هذا الجيل وجيل الستّينات لاسيما بعد  أن دخل  الشّعرَ المحليَّ نمطُ الشّعر الحرّ  بمفهومه العربيّ المشرقيّ على أيدي بعض الشّبّان الذين تخرّجوا في الجامعات الشّرقيّة أو أقاموا طويلا في المشرق مثل مصطفى الحبيب بحري ( 1932 – 1990 ) و الشّاذلي زوكــــــــار (1931-2008) و محمد العروسيّ المطويّ (1920-2006 ) .

ومن شعراء تلك الفترة الذين نجد النّفس السيّابي  حاضرا بدرجات متفاوتة في قصائدهم محمد العربيّ صمادح (1928-1998) في مجموعته أفق (1953)  التي تدور موضوعات نصوصها  حول الثوّرة وما يرتبط بها من معاني القوّة والإرادة و الفعل والحريّة  ومصطفى الحبيب بحري (1932-1990)  خريّج الجامعة العراقيّة   الذي اقترن في قصيدته المطوّلة  ثورة العبيد الصّادرة في كتاب مستقلّ (1955) النّفسان الوطنيّ و الواقعيّ الاشتراكيّ و عمر السعيدي الغريبي  الذي  أعلن في مجموعته قيود (1956) التزامه بقضايا الوطن و تجنّده للدّفاع عن البؤساء و الضّعفاء و الميداني بن صالح (1929-2006)  الذي تخرّج أيضا في جامعة بغداد واعتنق مفهوما للشّعر مبسّطا قوامه الوضوح لغاية الإبلاغ. فهجر،  طبقا لذلك، عمود الشّعر و غريب اللّفظ و المعقّد من المجاز، مفضّلا عليها  قصيدة التّفعيلة واللّفظ الشّائع و الصّور اليسيرة الفهم و تفرّغ بكلّيته لمعالجة قضايا الكادحين و نقل همومهم وتطلـّعاتهم و تصوير نضالهم اليّوميّ من أجل تحقيق الازدهار للوطن و التغنّي بالقيم الاشتراكيّة كالتّعاضد و التّعاون والروّح الغيريّة و التّضحية .  وقد تواصل هذا المنحى النّضالي المقترن باستخدام قصيدة التّفعيلة لدى جيلي الستينات  في قصائد كثيرة لأحمد القديدي ومحمّد المنصف الوهايبي و خالد التّومي و عمر حميدة. وقد  زاول الثالث دراسته  بسوريا والرابع بالعراق .
ويمكن للباحث المنقّب أن يعثر على أثر السيّاب في نصوص عدّة من الشّعر الذي ظهر في أواسط الستّينات بمنطقة المناجم في الجنوب الغربيّ التّونسيّ (المتلوي، الرديف، أم العرائس)  و عرف بشعر المناجم  وكٌتب جلُّه في اللّون الحرّ  و قد ارتكز على همّ واحد هو تصوير معاناة العامل المنجميّ و ما يكابده من مشاقّ و ما يتربّص به من أخطار في أثناء أدائه لعمله. ومن أبرز الشعراء الذين نسبوا أو انتسبوا إلى هذا الاتجاه أحمد المختار الهادي و سالم الشعبانى و محمد عمار شعابنية و محمد العائش القوتي  وحسن بن عبد الله. 

لكن لمّا كانت الظّاهرة السيّابيّة ظاهرة تاريخيّة فقد تقلّص تأثيره في الشّعر التّونسيّ شيئا فشيئا بدءا من أواسط السّبعينات  نتيجة  انتشار مفاهيم جديدة في الكتابة الشّعريّة  وفدت من الغرب مثل التّجريب والعدول وشعريّة الأشياء و كذلك إقبال الشّعراء الشّبّان المتزايد على قصيدة النّثر وسطوع نجم أقطاب آلت إليهم زعامة الشّعر العربيّ   لعلّ أبرزهم سعدي يوسف و أدونيس ومحمود درويش .

   لكن أيّا كان الأمر فإنّ البصمة النّوعيّة العميقة التي تركها بدر شاكر السيّاب في الشّعر العربيّ الحديث والمعاصر  تجعل من المحال إغفالها أو حتّى الاستهانة بها  إذا رام الباحث إدراك  المنطق الداخليّ الذي حكم تطوّره وتصنيف اتّجاهاته تصنيفا صحيحا  . 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*